قراءة في صفحة من صفحات تاريخ الثورة اليمنية المجيدة
منطقة الميدان - زكو - كريتر أوائل القرن الماضي
محمد زكريا علم من أعلام الحركة الوطنية ظهر في ظروف وأوضاع سياسية صعبة واجتماعية معقدة في اليمن في عهد الحكم الإمامي، سواء كان ذلك قبل أن تشتعل ثورة 48م أو بعد أنّ انطفأت جذوتها لأسباب مختلفة لسنا هنا في صدد الحديث عنها . فقد ظن النظام الإمامي أنّ رياح الثورة ، قد سكنت ، وأنّ قادة الأحرار ، قد كسرت شوكتهم ، وأنّ الحركة الوطنية برمتها ، قد دفنت إلى الأبد بعد أنّ علقت الكثير من رءوس على المشانق ، وزج البعض منهم في غياهب السجون البشعة والآخرون نكل بهم وشردهم، ولكن هناك من قيض لصوت الحق والحرية.. رجال ضحوا بكل غالٍ ونفيس حيث فضحوا أساليب وطرق الحكم الإمامي الاستبدادي الذي أذاق اليمنيين العذاب الغليظ. ومن هؤلاء الذين حملوا مشعل نور الحرية والحركة الوطنية في تلك الأوضاع السياسية السوداوية والمخيفة التي ألقت بظلالها القاتمة على اليمن واليمنيين هو الشيخ الجليل عبد الله علي الحكيمي الذي سطر بحروف من نور قصة الحرية الذي وهب نفسه لها ، ومات من أجلها . والحقيقة كلما أوغلنا في سيرة الشيخ عبد الله الحكيمي الثائر والمفكر ، ازددنا إيمانًا ورسوخًا بقوة شخصيته , وشجاعته الهادئة ، وجرأته الواضحة ، وأنه لا يخشى في الله لومة لائم ، وقدرته على احتمال المكاره التي أحاطت به من كل مكان ، وكلما أحاطت به عواصف ، ونتوءات الظلم من كل مكان و علت أمواجها العاتية في وجهه ازداد قوة وصلابة وعزيمة لا تلين في مواجهتها والوقوف أمامها . [c1]الحرية والوحدة[/c]
الحكيمي مع الرئيس المصري الأسبق/ محمد نجيب في سبتمبر 1952 أثناء عودته إلى عدن
لم يتخل الشيخ عبد الله الحكيمي عن مبادئه قيد أنملة المتمثلة بالحرية والعدالة والمساواة حتى آخر رمق في حياته ، وكان له نظرة عميقة ورؤية واسعة بأنّ نظام الإمامة في اليمن وأذنابه يسعون سعيا حثيثا إشعال فتنة التفرقة بين اليمنيين حتى لا يشكلون قوة واحدة ضد أساليبه السياسية القمعية والدامية ، فقد كان يرى الشيخ الحكيمي أنّ وحدة اليمنيين هى القوة الصلبة التي ستتحطم عليها الإمامة والتخلف والجهل . وهذا ما أكد عليه الباحث البريطاني فرد هوليدي قائلاً : “ وركز (أي الحكيمي) أيضا على الوحدة مذكرا بأثر الخلافات القبلية والمناطقية بين اليمنيين مؤكدا : لا زيود ، ولا شوافع ، ولا عدنانيين ، ولا قحطانيين ، لا صنعانيين ، ولا عدنيين، لا جبليين ولا تهاميين ، لا لحجيين ، ولا أبينيين ، ولا بيحانيين ، ولا حضرموميين“. والحقيقة أنّ الشغل الشاغل والهم الأول الذي كان يحمله الشيخ الحكيمي على كتفيه هو وحدة صف اليمنيين سواء في داخل اليمن أو في المهجر . ويقول الباحث البريطاني هوليدي بأنّ الشيخ عبد الله علي الحكيمي كان دائما وأبدا يصرح بأنّ على اليمنيين أنّ يكونوا صفا واحدا لأنّ الإمامة تعمل على تفتيت الأمة وتبذر بذور التفرقة لإخماد صوت الحق والعدل والمساواة في اليمن وبذلك تتمكن من إخماد جذوة الحركة الوطنية ، وينقل الباحث البريطاني عن الشيخ الحكيمي رسالة بعثها إلى المهاجرين اليمنيين في كارديف ببريطانيا يؤكد فيها ضرورة وحدتهم وعدم تفرقهم ، فيقول : “ حافظوا على وحدتكم ولا تنفصلوا عن بعضكم البعض والإ فأن شهرتكم ومنجزاتكم ستتلاشى وتضيع “. وهذا إنّ دل على فإنه يدل بأنّ الحكيمي وضع نصب عينيه وهو يقارع الإمام ، أنّ تكون الوحدة قوية بين اليمنيين على تباين مناطقهم ، ومشاربهم الاجتماعية ، واختلاف حظوظهم الثقافية .[c1]من صناع ثورة 48م[/c]والحقيقة أنّ الشيخ عبد الله الحكيمي تبوأ مكانة عاليا على خريطة الحركة الوطنية ، وكان له الدور الرائد والرائع في النضال ضد نظام الحكم الإمامي سواء كان ذلك قبل قيام الثورة الدستورية سنة 48م أو بعد أنّ انطفأت جذوتها ، فلم يكن من المساهمين في الثورة الدستورية فحسب ولكنه كان من نسيجها هو ورفاقه أمثال زيد الموشكي ، أحمد المطاع ، الأستاذ النعمان, والشاعر والأديب الشهيد محمد محمود الزبيري وغيرهم من رجالات الثورة وبعبارة أخرى كان الحكيمي من صناع أحداث الحركة الوطنية وجزء لا يتجزأ من منها وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، بقوله : “ . . . أنّ الأستاذ المرحوم عبد الله الحكيمي لم يكن مجرد مشارك أو على علاقة بحركة المعارضة اليمنية قبل ثورة 1948م أو بعدها بل كان في الواقع جزءًا منها ، بل وعنصرًا فاعلا من أهم عناصرها “. [c1]أهم صفاته[/c] و الحقيقة تميز الشيخ عبد الله الحكيمي بالحركة والنشاط الدائمين في فضح أساليب نظام آل حميد الدين التعسفية والقمعية الذي كمم الأفواه ونشر الجهل والفقر بين اليمنيين من ناحية وعزل اليمن سياسيا عن محيطه العربي والدولي من ناحية أخرى . وأهم صفات المناضل الحكيمي أنه كان جريئًا وشجاعًا ـــ كما قلنا سابقا ـــ فإنه كان يوقع مقالاته النارية ضد نظام الحكم الإمامي باسمه الصريح في “ صوت اليمن “ . “ أنه ( أي الحكمي ) كان يراسل صحيفة المعارضة التي صدرت في عدن باسم صوت اليمن . وتنشر مقالاته بتوقيعه صراحة ، وذلك بعد خروجه من كاردف ، على عكس كثير من المقالات والأخبار التي كانت تنشر بها ، سواء لأناس كانوا داخل اليمن أو كانوا في خارجها ، فكانوا ينشرون بدون توقيع ، أو بأسماء غير أسمائهم “ . وهذا ما أكده أيضا ً فريد هوليدي بأنّ الحكيمي ، كان له الدور الكبير في ثورة 48 م وما بعد فشلها . وفي هذا الصدد ، يقول : “ مهما يكن . . فإن هم (( الحكيمي )) في الفترة الأخيرة ، كان سياسيًا ، وكانت قضيته الرئيسية هى مناصرة ثورة 1948 م في شمال اليمن ، وكان من البين أنه ارتبط بمعارضة اليمنيين الأحرار أثناء عودته إلى اليمن ، وما إنّ ظهرت صحيفة (( السلام )) حتى جعل يستغلها في إعادة نشر الانتقادات ضد السلطة في الشمال “ . وينشر الباحث البريطاني رسالة من الحكيمي إلى الإمام ينتقد فيها نقدا لاذعا أساليب حكمه تجاه الرعية ، قائلا ً : “ ليس من العدل يا صاحب الجلالة أنّ الأسرة الملكية تعيش حياة سعيدة هانئة بينما آلاف المواطنين يموتون من الجوع ألا تدري أنّ موظفيك لا يتصرفون بأي وازع من المسؤولية بل كتجار يبيعون ويشترون المواطنين ؟ . أنّ اليمن بلد زراعي ملئ بالخيرات وباستطاعته أنّ يعيل حوالي عشرة ملايين إنسان لو توفرت له إدارة مسؤولة ( مسئولة ) تدير البلد ومواطنيه بطريقة عصرية لكن اليمنيين البائسين يعانون من شدة الجوع في وطنهم ويضطرون لمغادرة اليمن إلى البلدان الأجنبية بحثاً عن لقمة العيش “ . [c1]بذور الثورة[/c]والحقيقة أنّ الشيخ الحكيمي لم يكن ثائرًا فحسب على الأوضاع السيئة في اليمن جراء نظام الحكم الإمامي البشع بل كان يحمل في ثناياه فكرًا مضيئا ً كان بمثابة نبراس يضيء للآخرين طريق الحرية والإنعتاق من قيود الجهل والتخلف ، ولذلك عمد إلى إصدار صحيفة “ السلام )) في كاردف ببريطانيا في السادس من ديسمبر سنة 1948م . والجدير بالذكر أنّ ظهور تلك الصحيفة ، كان بعد فشل ثورة 48م مباشرة أي لم يمض على ذهاب ريحها عشرة أشهر , وكانت الحركة الوطنية التي خيم عليها الإحباط في أمس الحاجة إلى بصيص من نور يعيد لها الأمل في مقاومة نظام الحكم الإمامي المستبد الذي ظن أنه قضى على الحركة الوطنية قضاءً مبرمًا وصفى الأحرار الوطنيين تصفية كاملة . وكيفما كان الأمر ، فقد كان الشيخ عبد الله علي الحكيمي متعطشا إلى معرفة التيارات الفكرية التي تدعو إلى الحرية ، وبسبب ذلك انطلق إلى آفاق واسعة وعريضة ينهل من التيارات الثقافية التي كانت سائدة آنذاك في الوطن العربي ، وجراء تجوال الشيخ الحكيمي في العديد من الموانئ والبلدان العربية والأوربية أدرك إدراكًا واضحًا الفرق الواسع والعريض بين ما يراه في بلاده اليمن التي تعيش في دياجير الظلام والبلدان الأخرى التي تأخذ بزمام التقدم والازدهار . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، قائلاً : “ وقد أتاح له ( الحكيمي ) هذا فرصة التجوال في كثير من الموانئ العربية والأجنبية مما فتح أمامه آفاقا واسعة في التفكير والتأمل والمقارنات بين ما يشاهده في تلك البلاد وبين ما في بلاده هو من تخلف وانغلاق . وكان هذا هو مجال تفتحه المبكر “ . ونستخلص من ذلك أنّ تجواله في عددٍ من البلدان العربية وغير العربية غرست في نفس الشيخ الحكيمي بذور الثورة والتمرد على الأوضاع السياسية والاجتماعية المتخلفة الذي تعيشها اليمن في ظل الإمامة أو بعبارة أخرى عمقت لديه روح التمرد على نظام الإمامة وحكمها البائس .[c1] في الجزائر[/c] وفي مدينة مستغانم بالجزائر ألقى الحكيمي عصا الترحال ، وهناك تشرب عقله وروحه علوم الصوفية والدين واللغة العربية وفروعها المتنوعة . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور سيد مصطفى سالم : “ وفي مستغانم بالجزائر ألتحق بالزاوية العلوية ، والتقى بأستاذه ومربية الشيخ أحمد بن مصطفى . . . وقد بقي في هذه الزاوية خمس سنوات ، وتلقى بها علوم التصوف ، واللغة العربية والفقه ، والتشريع و، والتاريخ ، والبيان. حقيقة أنّ الشيخ الحكيمي ، ألتحق بالزاوية الشاذلية العلوية ودرس على مربيه وشيخه أحمد ابن مصطفى العلوي علوم التصوف والدين ، واللغة العربية ـــ كما قلنا سابقا ً ــــ ، ولكن كان الشيخ الحكيمي يحمل في ثنايا روحه التمرد على نظام الحكم الإمامي في اليمن . ونتجرأ ونقول أنّ الحكيمي ، جمع بين الصوفية والسياسة في آن واحد أو بعبارة أخرى ، كانت الصوفية تمده بالعزيمة والقوة الكبيرين في خوض الحياة السياسية لمقارعة الظلم الجاثم على اليمن آنذاك . وكان الحكيمي لا يرى بأسًا أنّ يتعاطى الصوفي السياسة أو بعبارة أخرى أنّ يخوض غمارها . وقد أوضح ذلك في رسالة لأتباعه يبين لهم بأنه يجب ويتوجب الصوفية أنّ تكون نصيرة للحق من خلال مشاركتها في دفع الأذى والظلم عن الآخرين حيث ، يقول : “ إنّ من المسلم به والمقطوع فيه أنّ منهج الحق واحد ، ودعوات المصلحين لا تختلف عن بعضها وإنّ اختلفت الأزمنة والأمكنة . . وهى الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصرة المظلوم وتحرير العقائد والنفوس والعقول والرقاب من ظلم الظالمين وجور الجائرين . . . “ . وهذا دليل واضح وقاطع على مدى ما تحلى به الحكيمي من رؤية عميقة لمفهوم الصوفية الحقيقة وهى المشاركة الفعالة في المجتمع والعمل على رفع الضيم عنه ، والوقوف ضد الظلم والظالمين ، وعدم الابتعاد والعزلة عن الناس . وترك الظلم يجول ويصول دون رادع يردعه ويقف أمامه . أمّا العزلة والهروب من قضايا الناس ، فهذا ليس من الصوفية الحقيقية في شيء .[c1]تكوينه الفكري[/c]والحقيقة لقد أوضح لنا أبنه عبد الرحمن في كتابه عن سيرة والده الشيخ الحكيمي الأسباب التي جعلته ينضم إلى الطريقة الشاذلية العلوية الصوفية عن غيرها من الطوائف الصوفية في الجزائر أو بلاد المغرب العربي التي كانت منتشرة في طولها وعرضها بقوة هناك يومئذ أو ما هى الأسباب أو السبب المباشر الذي دفعه أنّ يكون من مريدي وأتباع الشيخ أحمد بن مصطفى العلوي الجزائري . وفي هذا الصدد ، يقول : “ ترك العمل ( أي الحكيمي ) في السفن الملاحية واختار الإقامة بالجزائر لمواصلة طلب العلم واعتبر الجزائر وطنا ًثانيًا له ، عاش في مدينة مستغانم ـــ وتتلمذ على يد الشيخ أحمد بن مصطفى العلوي الجزائري وهو من كبار أئمة الصوفية وعلمائها . . . وقد عرف هذا الشيخ بمقاومته للاحتلال الفرنسي . وكان يصدر صحيفة للإرشاد ومقاومة الاستعمار الفرنسي اسمها (( البلاغ )) ، وكان له أتباع وأنصار في بلدان كثيرة . . وكان هذا الشيخ من قادات ( قادة ) النهضة مثله مثل وزعماء الجزائر والمغرب العربي الذين قاوموا الاحتلال الفرنسي ـــ أمثال عبد القادر الجزائري ، عبد المجيد بن باديس ، عبد الكريم الخطابي ، عمر المختار ، وأضرابهم من زعماء المغرب العربي “ . ويعد الفترة الذي قضاها الثائر الشيخ عبد الله الحكيمي في كنف شيخه الكبير الصوفي أحمد مصطفى العلوي صاحب الطريقة الشاذلية العلوية في مستغانم بالجزائر فترة تكوين فكري ووطني بالنسبة له . وهذا ما أكده الأستاذ عبد الرحمن الحكيمي ، قائلا : “ كان لشيخه أثر كبير دينيًا ووطنيًا ــــ كما تأثر بثوار المغرب العربي مثل عبد القادر الجزائري ، بن باديس ، عبد الكريم الخطابي ، و عمر المختار ــــ بفكر جمال الدين الأفغاني ، وعبد الرحمن الكواكبي . والشيخ محمد عبده ، ورشيد رضاء وأضرابهم ــــ من زعماء النهضة الفكرية والإصلاحية في الوطن العربي “ . ويسترسل عبد الرحمن ، فيقول : “ وكان هذا البنيان الفكري والإصلاحي الأساس والخلفية لفكر الحكيمي ، الديني ، والوطني والإصلاحي الذي وصفه وكرسه لخدمة أبناء وطنه في المهجر وداخل الوطن” . ونستخلص من ذلك أننا أمام مفكر كبير حمل فكرًا مستنيرًا يدعو دائمًا وأبدًا إلى رفع إنسانية الإنسان وهو تبديد سحب الجهل الكثيفة على أمته من جهة وتعرية النظام الإمامي البشع في اليمن من جهة أخرى . [c1]في كارديف[/c]و يتساءل المرء من الأسباب التي دفعت بالثائر الشيخ الحكيمي أنّ يترك مستغانم بالجزائر بعد خمس سنوات ؟ . والتي كان ملازمًا فيها الحضرة الصوفية في ظل شيخه أحمد مصطفى العلوي والتوجه إلى كاردف في بريطانيا والمكوث بها ؟ . الصورة الظاهرة أمامها هو أنّ الغاية من التوجه إلى هناك هو تأسيس الجمعية الإسلامية الشاذلية العلوية والتي أسست في 22 يونيو 1936م لتعريف الجالية العربية بأمور الدين . ولكن روح الشيخ عبد الله الحكيمي الثائرة والمتمردة الوثابة على الظلم والظالمين هى التي دفعته دفعًا إلى تبصير المهاجرين اليمنيين بحقيقة الظلم الواقع على كاهل أهلهم في اليمن من الإمام الظالم . فقد أعتقد الثائر الحكيمي اعتقادًا جازمًا بأنه يستطيع أنّ يؤجج مشاعر المهاجرين اليمنيين ضد نظام حكم الإمامة والجرائم الذي ارتكبها بحق اليمن واليمنيين . بالرغم أنّ الكثير منهم كانوا من الريف أي من العامة الذين يرون أنّ الخروج عن طاعته هو الانسلاخ عن الملة ، فكانوا من المعارضين للشيخ الحكيمي . وفي هذا الصدد يقول فريد هوليدي : “ قوبل هذا الموقف المعارض للإمام كما يبدو بمعارضة كبيرة من داخل جالية (( كارديف )) . . . والظاهر أنّ عدة عوامل ، قد لعبت دورًا كبيرًا في ذلك ويأتي في مقدمتها أنّ كثيرًا من المهاجرين في جالية (( كارديف )) يتمسكون بولاء قوي للأفكار والتصورات التقليدية اليمنية والإسلامية معًا ، وكان من الواضح أنهم واقعون تحت تأثير الفكرة الإسلامية القائلة بأنّ الإمام زعيم ديني ودنيوي في وقت واحد وعليه فإنّ انتقاده في الأحوال العادية يعد خروجًا على الدين . . . “ [c1] إنجازاته الرائعة[/c] وعلى أية حال ، على الرغم من الصعوبات الكأداء التي وقفت في طريق الشيخ الحكيمي في كارديف ، فإنه استطاع أنّ يرفع الغشاوة عن المهاجرين اليمنيين البسطاء الذين لا يحملون ثقافة عالية ـــ كما قلنا سابقا ـــ بالظلم البين والواقع على اليمن واليمنيين من الإمام وحاشيته. وفي هذا الصدد ، يقول فرد هوليدي “ كان إنجاز الحكيمي في تنظيم اليمنيين المهاجرين في بريطانيا إنجازاً متميزًا ويرجع ذلك أولا وقبل كل شيء إلى طبيعة المنطلق الذي تبنته جمعيته ( الجمعية الإسلامية العلوية ) وتناهت أصداؤه إلى اليمن نفسها خصوصًا أنّ جريدته ( أي جريدة السلام ) كانت صوتا ً من الأصوات القليلة التي علت ضد الإمام في سنوات الظلام ما بين 1948م ونمو المعارضة في عدن في منتصف الخمسينيات “ .[c1]في عدن[/c] وكيفما كان الأمر ، فإنّ الشيخ الحكيمي بعد أنّ ثبت أقدام الطريقة الصوفية العلوية في كاردف ببريطانيا ، وفضح أساليب نظام الإمامة في اليمن للمهاجرين في كاردف بصفة خاصة وبريطانيا بصفة عامة و نشر بينهم روح الثورة والتمرد وجد من الضرورة بمكان أنّ يعود إلى موطنه الذي غاب عنه فترة طويلة لإرساء فيه نور العلم والمعرفة لأنه أمضى سلاح في مقارعة الظلم والظالمين . وفي هذا الصدد ، يقول عبد الرحمن عبد الله الحكيمي : “ قام الحكيمي بعد وصوله إلى عدن عام 1940م بافتتاح مدرسة للإرشاد والتعليم في مقره بالشيخ عثمان . وكان الإقبال كبيرًا من طلاب العلم ورواد المعرفة . . وقد استقدم الحكيمي من الأزهر الشريف الشيخان عثمان عبد الله الأزهري ، وعلي ناصر العنسي “ . [c1]في تعز[/c]والحقيقة أنّ الشيخ الحكيمي ، في أثناء وجوده في عدن ، كان يمد بصره إلى قريته ويحن إلى مسقط رأسه المحرومة من نور العلم والمعرفة . وفكر وقرر الحكيمي الذهاب إلى مسقط رأسه في الأحكوم بقضاء الحجرية بتعز ، وإنشاء مدرسة لأبنائها . وفي هذا الصدد ، يقول عبد الرحمن الحكيمي: “ نتيجة المضايقات من سلطات عدن الاستعمارية التي فرضت حظرًا لمنع كل النشاطات أيًا كانت في إبان محنة بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية . . قرر الحكيمي مغادرة عدن إلى شمال الوطن مسقط رأسه (( الأحكوم )) . وأقام في بلدته مسجدًا ومدرسة على نفقته . وكان الإقبال على الدراسة كبيرًا من أبناء الأحكوم والمناطق المجاورة . . بل ومن بعض نواحي اليمن . . استمرت هذه الدراسة في أداء رسالتها قرابة ثلاثة أعوام “ . والحقيقة أنّ الإقبال الشديد على المدرسة أزعج ولي العهد ( احمد ) وأمير تعز آنذاك ، فعمل على مراقبة الشيخ الحكيمي وتضيق الخناق عليه ولكن في الأخير تمكن الحكيمي من الهروب من قبضة سيف الإسلام ( أحمد ) و العودة إلى عدن سنة 1943م مرة أخرى . وبمجرد عودته إلى عدن زاول نشاطه بهمة عالية في ميدان العلم كعادته . وفي هذا الصدد ، يقول عبد الرحمن الحكيمي : “ وعلى إثر وصوله إلى عدن أعاد نشاطه وسير الدراسة لطلاب العلم في منزله بالشيخ عثمان . . وقد تخرج الكثيرون من طلاب تلك المرحلة علمًا وفكرًا وأدبًا ، وثقافة. وأتت أكلها وعادت بثمار طيبة على طلابها والذي أسهم بعضهم في حقل التربية . وفي خدمة الوطن تحت رعاية وإشراف الحكيمي “ . [c1]صحيفة “ السلام “ [/c]بعد فشل ثورة 48 م ظن الإمام أحمد وزبانيته أنهم قضوا على صوت المعارضة، وبعد عشرة أشهر من فشل الثورة . أصدر الثائر والمفكر الشيخ الحكيمي جريدة “ السلام “ لتكون صوتا ً للمعارضة مرة أخرى فتهز أركان السلطة الفاسدة في اليمن من خلال فضح أساليبها . ولسنا نبالغ إذا قلنا أنّ جريدة “ السلام “ أعادت الروح والأمل من جديد إلى جسد الحركة الوطنية . وهذا ما دفع الأستاذ الدكتور علوي عبد الله طاهر أنّ يصف “ السلام “ بأنها أعادت نبض الحياة للأحرار الوطنيين ، قائلا “ . . . أتت صحيفة ( السلام ) لعبد الله الحكيمي لتعيد للحركة الوطنية روحها ، وتبعث فيها الحياة من جديد “ . ويصف عبد الله طاهر بأنّ ظهور صحيفة “ السلام “ على سطح الحياة السياسية جاء في أوضاع وظروف سياسية قاتمة . فقد يئس الكثير والكثير جدًا من أبناء اليمن وعلى رأسهم الأحرار اليمنيون بأنه لم ولن تشرق الشمس مرة أخرى على اليمن بعد أجهز الإمام (( أحمد )) على الثورة والثوار . وفي هذا الصدد ، يقول “ . . . ظهرت ( صحيفة السلام ) في أحلك الظروف وأشدها قتامه بالنسبة للشعب اليمني ، إذ جاء صدورها في وقت كانت القلوب ، قد بلغت الحناجر من جراء النكبة التي أصيبت بها الحركة الوطنية . فقد كان الإمام أحمد يحصد الصفوة المختارة من أبناء الشعب اليمني من شباب متنورين ، وعلماء أفاضل ، وشيوخ قبائل شرفاء ولذلك دب الخوف والفزع في أنحاء اليمن بعد المجازر الرهيبة التي قام بها الإمام أحمد وبالذات بعد مطاردة رجال الانقلاب واعتقال أكثرهم وهروب الباقين “ . ولسنا نبالغ إذا قلنا أنّ الحركة الوطنية ، كانت بعد فشل ثورة 48 م تعيش في نفق مظلم وعندما ظهرت “ السلام “ في تلك الأوقات الحالكة والبشعة ، فقد أخرجتها من ذلك النفق المظلم إلى النور ، وأعلنت للملأ أنّ صوت المعارضة مازال موجودًا بالرغم من فشل الثورة ، وأنّ رايات الحرية سترفرف فوق ربوع اليمن عما قريب . [c1]“ دورها في المهجر “[/c]والحقيقة أنّ صحيفة “ السلام “ تميزت عند صدورها في السادس من ديسمبر سنة 1948 م بمقارعتها للإمام بصورة واضحة مباشرة . وكان لظهور أعداد “ السلام “ في عدن أثر إيجابي على نفوس اليمنيين الأحرار بصورة خاصة واليمنيين بصورة عامة. وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور علوي طاهر : “ في تلك الظروف العصيبة ظهرت صحيفة ( السلام ) في بريطانيا وحملتها الطائرة إلى عدن ، وفيها المقالات القوية الملتهبة المعترضة على ممارسات الإمام أحمد القمعية . . . واستقبل اليمنيون في داخل الوطن وخارجه صحيفة ( السلام ) بترحيب حار وتهافتوا على شرائها وقرأوها باهتمام ثم صاروا يراسلونها ويزودونها بالمقالات التي تشرح الأوضاع في بلادهم وبالرسائل التي يشكون فيها من الظلم والمعاناة ، ويصفون ما يلاقيه المواطن من جور وظلم وتسعف على أيدي الإمام أحمد ورجال حاشيته ، وأتباعه “ . وفي نفس السياق تشير الباحثة الأستاذ تقية حسين قاسم الصايدي بأنّ صحيفة “ السلام “ كانت تجسيدًا حقيقيا للحركة الوطنية الذي قمعها نظام الإمام الدموي بعد فشل ثورة 48 م ، فتقول : “ لم تكن صحيفة “ السلام “ التي أسسها المناضل والثوري الكبير الشيخ الأستاذ عبد الله علي الحكيمي إلا تعبيرا عن حركة الأحرار إثر ملاحقة رموزها وقيادتها بعد فشل حركة فبراير عام 1948م الدستورية والتي أطلق عليها الشهيد اليمني الكبير أبو الأحرار محمد محمود الزبيري اسم النكبة “ . وفي موضع آخر ، تصف تقية الصايدي صحيفة “ السلام“ : “ كانت صحيفة “ السلام “ أسبوعية سياسية وأدبية ظهر العدد الأول منها . . . في 6 ديسمبر 1948 م في كارديف بإنجلترا . وفي ست صفحات ، وكان قطعها 46 × 29 سم ، حيث كانت توزع في حدود ألفي نسخة ، ويباع العدد منها بستة سنتات ، أما الاشتراك السنوي فيها كان جنيها ً إسترلينيا “ . وتضيف : “ وقد لعبت هذه الصحيفة “ السلام “ دورًا فعالا ً في المهجر ، وفي عدن أمّا في شمال اليمن ، فقد كانت توزع لبعض المهتمين بصورة سرية “ .[c1] أول صحيفة عربية ببريطانيا[/c]ويسهب الأستاذ عبد الرحمن الحكيمي في وصف صحيفة “ السلام “ ، قائلا ً : أول صحيفة عربية تصدر في بريطانيا . وقد أصدرها الحكيمي في 6 ديسمبر 1948 م الاثنين 5 شهر صفر 1368 هـ بعد نكسة ثورة 48 بعشرة أشهر , وصدر منها مئة وسبعة أعداد . وتوقفت عن الصدور في عددها الأخير يوم الأحد ( 1 ) رمضان 1371 هـ 25 مايو 1952 م . وكان صدورها في مدينة كارديف نيوكاسل ببريطانيا “ . ويمضي في حديثه : “ وتعتبر من أبرز الصحف العربية في المهجر ، كرست لخدمة أهداف الحركة الوطنية اليمنية ، وخدمة المهاجرين اليمنيين وربطهم بقضية وطنهم وأوضاع وطنهم لتنقل أخبارهم وأشواقهم وتطلعاتهم لأهاليهم داخل الوطن وسائر المهاجرين ، وكذلك خدمة الجالية الإسلامية والمسلمين عموما ، وقضايا التحرر في الوطن العربي والإسلامي على وجه العموم “ . والحقيقة أنّ إيمان الثائر والمناضل الشيخ عبد الله علي الحكيمي بالقضية الوطنية غرس في نفسه روح الشجاعة والعزيمة والصبر في مواجهة الظلم والظالمين . وهذا ما أكده الأستاذ الدكتور والشاعر والكاتب الكبير عبدالعزيز المقالح، حيث قال : “ إنّ إيمان الشيخ الجليل الحكيمي بالقضية الوطنية ، قد أيقظ إرادته وأطلق لسانه ولسان قلمه ومنحه من القوة والاحتمال ما جعله قادرا على مقاومة أعتى الأنظمة وأسوأها تعاملا ً مع رعاياه المخلصين “ . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ[c1]الهوامش : [/c]د . سيد مصطفى سالم ؛ نشاط الحكيمي قبل 1948 م ، ص 231 ، الطبعة الأولى 2001م ، الناشر : المؤتمر الشعبي العام ، مطابع دائرة التوجيه المعنوي . فرد هوليدي ؛ الشيخ عبدالله الحكيمي ، ص 333 ، الطبعة الأولى 2001م ، الناشر المؤتمر الشعبي العام ، مطابع : دائرة التوجيه المعنوي . عبد الرحمن عبد الله الحكيمي ؛ المناضل عبد الله علي الحكيمي صاحب صحيفة السلام حياته وجهاده (( مخطوطة )) . من أرشيف : عبد الرحمن عبد الله الحكيمي.د . علوي عبد الله طاهر ؛ موقع صحيفة السلام في أدبيات الحركة الوطنية ، ص 273 ، الطبعة الأولى 2001 م ، الناشر : المؤتمر الشعبي العام ، مطابع دائرة التوجيه المعنوي . تقية حسين الصايدي ؛ موقع صحيفة السلام في أدبيات الحركة الوطنية ، ص 281 ، الناشر : المؤتمر الشعبي العام ، مطابع : دائرة التوجيه المعنوي . قدمت هذه البحوث في ندوة ( اليوبيل الذهبي لصحيفة السلام “ المنعقدة من 6 ــــ 8 ديسمبر 1998 م “ ـــ مركز الدراسات والبحوث اليمني ــــ .