مع الأحداث
صالح اللحيدان رئيس مجلس القضاء السعودي أفتى بقتل مُلاك الفضائيات العربية التي تبث «الفساد», و»القاعدة» أصدرت تهديداً بالقتل للزميل د. رضاء رشوان الباحث في شؤون الحركات الإسلامية في القاهرة لأنه ينتقدها. بهذا يزداد إزدهار سوق الفتوى السقيمة حيث تتجاور فتاوى القتل وإهدار الدم وتتنافس مع بعضها البعض في زمن العرب الأغبر هذا. والمُحبط في عصر إنتعاش هذه الفتاوى أنها لا تأتي من كل من يدعي صلة بالدين ويقف على مربع التطرف «القاعدي» وحسب, بل وأيضاً ممن يقفون على مربع معاد لذلك التطرف. وهكذا فإن الخطر الكبير الذي تنطوي عليه فتاوى إستسهال القتل وإراقة الدم أنها تشكل القاسم المشترك والموحد لكثير من الزاعمين النطق بإسم الدين أياً ما كانت السمة التي يُتسمون بها: الإعتدال أم التطرف.اللحيدان وإزاء الضجة الإعلامية الكبيرة التي أثارتها تصريحاته أعاد تبرير وتسويغ الفتوى فأكدها عمليا عوض أن يتراجع عنها. وقال إن كلامه حُرِّف حيث كان المقصود أصحاب «الفضائيات التي تروج للسحر والشعوذة والتي تبث مما يفسد عقائد الناس من شرك بالله وتنشر الخلاعة والمجون والمضحكات». وقال إنه قصد قتلهم «قضاء» أي عبر القضاء والإجراءات القانونية ومن خلال محاكمتهم. وهكذا فإن رئيس أعلى هيئة قضائية في واحدة من أهم البلدان العربية لا يتورع في الدعوة إلى إستصدار حكم بالقتل وعبر القضاء الذي يرأسه من دون أن يقول على أية أرضية قضائية يريد أن يترك لسيفه قص رؤوس الناس. رئيس هذه الهيئة القضائية يُفترض أن يكون أكثر الناس دقة في لغته وتصريحاته وأن يكون كل حرف ينطق به مُصاغاً تبعاً لمنطق القضاء والقانون والفقه الحريص. تهديد «القاعدة» بشأن الزميل ضياء رشوان يأتي في سياق «الممارسة والفكر العادي» لتنظيم القاعدة التي أوغلت في دماء المسلمين قتلاً وتقتيلاً وأدخلتهم في حقبة ظلماء. ولهذا لا يستطيع المرء أن يعلق عليه بالكثير سوى إبداء التضامن مع الزميل العزيز ودعوة الكثيرين من الكتاب الذين يدافعون عن «القاعدة» مباشرة أو أستحياء لتأمل الإنحطاط السياسي والديني والأخلاقي عند هذا التنظيم. لكن ما بين أقصى حدي الطيف, أي «اللحيدان» المعتدل زعماً من ناحية سياسية مقارنة بالقاعدة لكن الذي على ما يبدو لا يكاد يختلف عنها من ناحية فكرية, هناك ألوان عديدة من الأصوات والتنظيمات والتشكيلات التي لا تتورع في إستصدار فتاوى القتل والإقصاء والتكفير. يعيدنا هذا مرة أخرى وأخرى إلى مسألة دور الفتوى الدينية في حياة المسلمين المعاصرة وخاصة ما يتعلق منها بالفضاء العام. لا بد من القول إبتداءً أنه لا يمكن الإستغناء عن الفتوى للأفراد الملتزمين والذين يريدون ممارسة حياتهم بما يتفق مع قناعاتهم الدينية. وهذا هو المحل الوحيد المقبول لإشتغال الفتوى. لكن ما بعد الحيّز الخاص يجب رفض تداول الفتوى جملة وتفصيلا, أي أن يتم إستخدامها لتعزيز ممارسة, أو قمع, وليس رأي أووجهة نظر, مما له علاقة بالشأن العام, أو السياسة, أو الثقافة, أو الإجتماع. شؤون الإجتماع السياسي العام بين البشر تنظمها مصالحهم والمساومات التي يصلون إليها والتوافقات التي تتطور بينهم, وفي حال النزاعات تكون السلطات القضائية هي الجهة المخولة بفض ما تم الإختلاف عليه. دور الدين والفتوى هو تشكيل مسلكيات الأفراد الراغبين الإلتزام بما يمليه عليهم الدين, وهو دور يتوقف عند ذلك الحد. حتى في المسلكيات الفردية ليس لجهة دينية مهما كانت أن تفرض على أي كان مسلكاً معيناً ليتوافق معها.طبعاً السؤال التقليدي هو أين تقف حرية الأفراد في إنتهاك حرية الآخرين, أو أيضا ما قد يراه كثيرون حدوداً دينية, وهو سؤال لا جواب حاد أوحاسم عليه. لكن ما يفيد في هذا الصدد هو الحديث عن نوعين من الحرية: حرية الممارسة, وحرية عدم الممارسة. حرية الممارسة تعني أن يمارس الفرد ما يراه مناسباً له وهنا تنشأ مسألة حدود هذه الحرية وأين يجب أن تقف حتى لا تتعدى على حريات الآخرين. وتتوافق المجتمعات على هذه الحريات وحدودها عبر سيرورات الحياة المتنوعة وتأثيرات الثقافة والدين الخاص بها وسوى ذلك. وفي النهاية تختلف وتفترق تلك الحدود تبعاً للمجتمع المعني والسياق والبيئة وسوى ذلك. لكن من المهم الإشارة هنا إلى أن ناظم وضابط الحرية الفردية والسلوكيات العامة ليس الدين فحسب. ففي الغرب حيث المجتمعات غير متدينة والحرية الفردية لا تُقاس بمقياس الدين, ليس من المقبول أن يخرج شخص ما عارياً في الشارع لأنه يريد أن يمارس حريته الفردية. بل إن ذلك مخالف للقانون. ذاك أن التوافقات المجتمعية والمساومات البينية وتقديرات المصلحة حددت ما يمكن قبوله وما لا يمكن قبوله وقننته عبر قوانين مُناط بها, وليس بأي جهة خارج إطار الدولة, كمنظمة دينية, أو مفتٍ هاو, أو جهة تزعم حماية الأخلاق. مع ذلك فإن المنظمات الدينية والأخلاقية تظل جزء من المجتمع المدني ولها الحق أن تمارس نشاطها, لكن هذا النشاط يجب أن يكون مضبوطاً بالقانون والمصلحة العامة التي على رأسها عدم الدعوة للقتل وإستسهال الدم. أما النوع الثاني من الحرية فهو حرية عدم الممارسة, ويمكن أن نفهم معناها أكثر في مجتمعاتنا العربية والإسلامية المتدينة تديناً تقليدياً ثم زاد على ذلك ما أضافه التدين الحركي المسيس. فهنا وكما توقفت حرية الفرد عند حرية الآخرين في «حرية الممارسة» يجب أن تتوقف حرية الآخرين عند حرية الفرد في «حرية عدم الممارسة». ليس من حق أي جهة رسمية أو غير رسمية أن تفرض على الفرد ممارسة دينية معينة, أو أن تلاحقه بسبب عدم تأدية طقس ديني معين, أو أن تسقط عنه حقاً من حقوقه المدنية بسبب رفضه الإلتزامات الدينية. الممارسة الدينية أم عدمها, لا سيما في نطاق العبادات, هي أمر شخصي بحت والجزاء والعقاب التابع له غير منوط بالبشر. وأية تفسيرات للنص الديني تبيح إنتهاك «حرية عدم الممارسة» وفرض عقاب على الفرد أو التدخل في شأنه الشخصي يجب أن يُعاد الإجتهاد فيها إذا أريد لهذه المجتمعات أن تحيا حياة كريمة وليس فيها تدخل وفرض وإكراهات من هذه الجهة أو تلك على بقية الجهات. كانت إحدى أهم شكاوى الإسلاميين في العقود القليلة الماضية هي «تغول الدولة على الفضاء العام» حيث دولة الإستقلال العربي تطورت لتصبح دولة أمنية وبوليسة من الطراز الأقسى, وقد أقصت كل مكونات المجتمع وطحنتها تحت وطأة القبضة الأمنية. وكان ذلك النقد مصيباً, وقد شاركهم فيه كثيرون. لكن الإسلاميين اليوم يأتون إلى هذه المجتمعات بنوع جديد من التغول هو «تغول الدين على الفضاء العام», وهو لا يقل وطأة إن لم يكن أخطر من وطأة الدولة. فهنا يكون الخصم والحكم هو الناطق بإسم الدين, بل يوضع الدين وكأنه هو الخصم, بما يشل إرادة الأفراد شللا تاماً, فلا هم يريدون خوض معركة ضد الدين, ولا هم قادرون على ذلك أصلاً. وهكذا يصبح «الناطقون بإسم الدين» هو سدنة المجتمع والقابضين على حريته, الأكليريوس الجديد, ويعيدون تماماً إنتاج سيرة الكنيسة الأوروبية في عصور الإنحطاط, ويكرسون بقاء مجتمعاتهم في أسر الماضي والجمود.