في شعر ياقوت
محمد نعمان الشرجبي التقدم خطوة في القصيدة الملحونة والمقروءة، وذلك يعني التقدم في الخطوة الأولى وفي الثانية تتراجع معها خطوة خطوة على أن هناك من الشعر يصعب الإمساك بموضوع بدايته ونهايته ويمكن اعتبارها. (فيوض من الأفكار والصور الشعرية) إضافة إلى المحتوى والزمن.ونتناول في هذا الزمن والمكان ماوسعنا الجهد بقدر ما توفر لنا من نصوص، من الفعل المضارع الذي لا ينتهي، في قطع المسافة الزمنية، اللعب بالزمن، طول المشهد، وما يصح في الحاضر أمس واليوم الذي لا ينتهي بما في ذلك زمان الطلب، ومكانه المجهول والصبر، ومسائل أخرى لا بأس بكثرتها ومنها نفاذ الصبر الذي لا يدلك على الإمساك بأمكنة ما ندر من الغنائيات كأغنية: [c1]صدفة من الصبح لاقيته وهو يجري فقلت له خفف السرعة عليك بدري[/c]وما إلى ذلك من قطع خطوط التواصل على المتحدث، وإيقاف الزمن وتقنيته السردية، والاسترجاعية ودونما حاجة للإطالة في تسطيرنا سالف الإشارة نباشر الدخول في الموضوع، ومن استديو (بلقيس) بحافة (دبع) بالشيخ عثمان نبدأ بقصيدة (صدفة من الصبح) كفاتحة للتعامل بين ياقوت والفنان أيوب طارش العبسي. في الغنائية اسند الشاعر ياقوت للزمان لفظة (الصبح) وهي صيغة لفعل مضارع، وهي صيغة قال فيها رجالات النحو، أن لها معنى الزمن الذي لم ينته بعد.ولقطع المسافة الزمنية، للفعل الحاضر في (خفف السرعة) يتكئ ياقوت على اللعب بالزمن في قوله (عليك بدري بسبب من أنه يتحدث عن حاضر لمشهد ربما يطول أو تدوم مدته، ومن هنا أشار (النحاة) بقولهم، يصح في الحاضر، أمس، واليوم الذي لا ينتهي.وعندي أن جملة (صباح الخير) ومحلها البيت الثالث من القصيدة، ليس إلا زمان الطلب ومجهول المكان، بدليل استخدامه فعل الأمر (قف).لكن أين الموقع:- أما العبارة المبدوءة بالتساؤل في (كم شايكون صبري) غلب عليها طابع الحزن، لأنها تنبئ عن صبر من نوع خاص يلخص زمناً طويلاً.وبعد ماذا قال ياقوت في التعاون فخفاياه: (ومن يوم عرفتك وحبك سر في صدري)نفهم من البيت أن الزمن متبوع بصيغة الماضي (عرفتك) وكلام مثل هذا، لا يقودنا إلا على التعرف إلى أول يوم جرب فيه العشق في دنياه، أما مكان الحب في البيت فسر مضنته صدر الشاعر.ودون تطوال نقرأ بإيجار في الغنائية الرقيقة رقة قلب الشاعر التوظيف الآتي: اليوم، لقيتك، ويجري، أعيش له عمري ويطولالألفاظ التي سطرتها لا أرغب منها إلا في جواب مقنع، لهذا السؤال.. ما الذي منع ياقوت من الكشف الذي يقودنا إلى الإمساك بمكان الغنائية؟ وهو بهذا المعنى سؤال بمثابة مفارقة تقطع علينا خطوط التواصل في استمرارية التناول أليس كذلك؟وفي هذه الغنائية، لا أخفيكم سراً عن إحساسي بتداخل الماضي مع الحاضر كما لو ان ياقوت يخابرنا عن زمن حاضر، لا يتواني عن التراجع عنه إلى الوراء ليحدثنا عن ماضي من الزمن.( وتمضي القوارب مقلوبةوتأتي فينسى المحيط الصخب) ولنا الآن أن نمتع الأذن، والعين بما تسير لنا من غنائية (بلا عودة) والتي لحنها وغناها الفنان إبراهيم الصبري. لنقرأ هكذا : [c1]ما فيش، ما فيش عودة للذي قد مضى ما فيش والغدر ما ينتسيشأحباب لكن مغاشيش(أنا مشتيش)أعطيتهم كل حبي وإخلاصي وأنا مدريشخلوني طاير بلا ريش أحباب لكن مغاشيش(أنا مشتيش)[/c]أول ما يلفت الانتباه إليها، أنها لا تقبل إلا بغير الرفض القطعي من شاعرها المكلوم لاقتناعه التام بحب مارسوا فيه عليه ما أمكنهم من أفعال الدجل والمراوغة.هذا من ناحية ومن ناحية ثانية تحتاج منا إمعان النظر في اللفظة عامية النفي ( مشتيش) لأنها حسب فهمي تعني (الاستحالة) وأعني بهذا استحالة (خط الرجوع) واللفظة نفسها ترتكز على اصرار ياقوت ورغبته القوية في إيقاف الزمن الذي ترتب عليه تقديم الشروع في بداية نهاية الفعل. وعقب هذه التجربة الياقوتية المريرة تحس قبل زمان ومكان الغدر في البيت الثالث أن الشاعر شغل باله في تقنية الزمن السردي.لبس ذلك وحسب لأننا نرى في الغنائية ذاتها زمناً ماضياً لحاضر الدلالة والسياق.والحديث عن (تقنية الاسترجاع) يجرنا إلى ذكر أفعال مضارعة مدونة في أسطر ثلاثة ليعود ثانية إلى توظيف كلمات ثلاث ماضية الأفعال جرجرنا فيها إلى الماضي قاطعاً السياق بكلمتي (ما فيش عودة).وإذا كان لابد من ملاحظة أخيرة على (ما فيش عودة) فلتكن من (تتابع الأيام) وربما (السنوات) والتي أصبحت لازمة من لوازم (كسر الزمن) ولكن لماذا؟(لأن هوى اليوم غير الهوى ترنمه دموي السماع)فراشهتقديم:لأنه هذه الغنائية الياقوتية التي توافرت فيها العناصر الأربعة المطلوبة لنجاح القصيدة ابتنت لها في العقول مساكناً والأحاديث المفتعلة حولها بما أثير حول شعر أبي تمام في كتاب (الآمدي) والموسوم (الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري) في العصر العباسي مع الفارق في نوعية اللغتين المستخدمة.ففي (فراشه) كان الحديث عنها بلغة مبتذلة زائلة وقتيه وفي (أبي تمام والبحتري كانت شائقة ترتقي إلى مستوى الفعل ( لنبدأ بالقراءة هكذا) [c1]فراشة أو عدت زهرةوجت في وعـــــدها المحدود فكم مرت على زهرة وكم مرت على عنقود[/c] هذان البيتان وأربعة أخرى يتبع الشاعر فيها وظيفة الراوي يستخدم فيها (تقنيات السرد الروائي) الواقعة التي يرويها لنا ياقوت تجعلنا نحس بأنها حصلت في حاضر زمني.ولم يقف الراوي عند هذا الحد لكنه يستمر في المتابعة ليروي لنا عن واقعة ثانية (وقعت في زمن سابق عن الزمن الأول) كما لو أن ياقوت يروي لنا عن زمن حاضر ثم يستدير إلى الوراء في حديث عن زمن ماضي والتحقق من هذا الأمر يدفعنا إلى معرفة قصة الفراشه.قال الراوي ياقوت كنت متواجداً في (البستان) على غير موعد ولما أحسست بطول الانتظار انتابتين حالة من الضيق واليأس فراح يدير الطرف في أكثر من ناحية في البستان فلمح فراشه تطير من على بعد وإلى جواره اقتربت وتسللت إلى داخل الأزهار تروي جوعها والظمأ ولما أمعن النظر بدقة شاهد الفراشه تمر في طريق طيرانها بالزهور الجميلة متلفتة إلى ألونها بإعجاب.هذه القصة الموجزة التي سقناها بتصرف في الصياغة الأدبية كانت السبب في قول القصيدة.لنبدأ أولاً باقتعاد ياقوت في البستان وهو مكان ليس بمقدورنا الكشف عن موقعه وأن مكان يتداخل فيه الزمان وهو بهذه الصفة لا يمكن البتة الإهتداء إليه والإمساك به.اختلاط الزمن الحاضر بالماضي على أنه لم يكن هناك ثمة وعد يضم الزمان والمكان لكنها الصدفة لعبت دوراً متمماً في البحث عن المكان في زمن طال مداه ونظراً لصغر حجم الفراشه تصعب على العين المجردة مشاهدتها بسبب بعد مسافة الزمن يؤكد الراوي على أن الزهرة كانت في حالة من التجوال الممتع شاهدت فيه كثيرا من الزهور بديعة الألوان في مثل هذه الحالة تعمد الراوي كسر حاضر زمن القصيدة ليفتحه على زمن ماض لصالحه.[c1]حكت للزهر فرحتها فأدمت قلبي المشدود ومصت شهدها الحالي فكان المشهد المشهود [/c]الراوي ياقوت في هذين البيتين استخدم أسلوب كسر الزمن عبر الاستذكار بعد المشاهدة واضاف إليه خلط حادثه في حادثه وقد يكون التذكر بواسطة العودة إلى الماضي.ويشير عُجز البيت “وكان المشهد المشهود” إلى الجمع بين زمنين ماضي،وحاضر مستمر عن طريق الاستذكار الذي تختزنه الذاكرة.[c1]لهذا فاضت اشجانيوأنا يا عمر اضنانييواعدني وينسانيوخلا خاطري منكود[/c]في البيتين آعلاه نحس الشاعر ياقوت، الذي لم يخف وجعه العشقي العنيف بتوظيف الأفعال الماضية، فاضت، أضناني، خلاّ.وفي هذه الحالة يكون من الصعب الاستذكار عن طريق الفعل، وحكن عن طريق العودة إلى الماضي، أو عن طريق الحلم في المنام.ويتقمص ياقوت مرة أخرى جلباب الراوي قائلاً:[c1]فراشة توعد الزهرةوتصبح في الوفاء عبرةلمن يخلف مواعيدهويشعل في الحشا جمرة[/c]الملاحظ في المعنى البلاغي هنا أن صاحب الجلباب، يستقيم له في هذين البيتين ما فعل به العشق العنيف من طرف واحد، وعانى ما عاناه من حرقة الضنى.وفي البيتين تجد الراوي لجأ إلى استخدام الأفعال المضارعة، توعد، تصبح، يخلف ويشعل، ومن الوهلة الأولى لاتتعب في معرفة إنها افعالا المقصود من استعمالها الزمن الحاضر.فيما سبق قوله، المحنا بأن كسر الزمن تتنوع طرائقه فتكون عن طريق التذكر مثلاً كما هو حاصل مع البيتين الماضيين، وهذا مثال من عدة أمثلة، ومع ذلك نحس من صيغ الأفعال المضارعة، أن ذلكم الحاضر يندغم مع الماضي بتلقائية.البيتان الأخيران[c1]أنا أوفيت بالموعدوهو يخلف وكم باعدويا ما قلت له حددولكن الأمل مفقود[/c]أول ما نحسه في الزمان والمكان المجهولين، شأنهما في ذلك شأن البستان الذي لا وجود له في المكان.ثم من طرف واحد ولم يكن لديه من خيار إلا أن يوقف الزمن، وأجزم أن ياقوت فعل ذلك بدليل (ولكن الأمل مفقود ) وللشاعر ياقوت أشعارا ًمختلفة الأغراض وزمن الحديث عنها آت عما قريب.ومن خلال الإطلاع العجل عليها اكتشفت أنه يتعامل مع الزمان والمكان بتقنية طيبة بنوعها بتنوع محتويات أشعاره ولغتها المطلوبة للنص الشعري.فهو فيما لم أتحدث عنه، وجدت لجوءه إلى استخدام:أ) “تتابع الأيام والسنوات، على أنها من لوازم التسريع لزمن القصيدة”.ب) “تقنية تجميد حركة الزمن”ج) “العودة إلى الوراء، أو استباق الوحدة الموضوعة”.د) “يتدخل مفكراً، أو يدلي برأي، أو نصيحة”.هـ) “يوفر شروطاً تناسب الزمن الشعري، مع نوعية اللغة المستخدمة”.و) “كسر الزمن بطريقة عادية”.ز) “اللجوء إلى الحلم كحيلة يعود من خلالها إلى الماضيختاماً إذا كان قد قال أبن النبيه: [c1]والمــــــــــوت نقــــــــــاد على كتفه جواهر يختار منها الجياد[/c]فالحياة والموت متلازمان، ومن الحزن يولد الفرح، ورحم الله البردوني القائل: [c1]مازالت الأرض ولـــوداً ومــا زالــــــــــت شرايين الضحى موقـــده[/c]