مبدعون في الذاكرة
[c1]* حين اسمع عبدالوهاب أرى مصر ترقص لمجدها [/c]في السادس من نوفمبر عام 1929م وفي حافة متواضعة من حوافي الشيخ عثمان تسمى ( حافة القمح) .. ولد طفل سماه والده "محمد" .. الأب كان من مواليد منطقة ( معافر الشويفة).. ترك قريته هرباً من عذاب الإمامة .. مخلفاً وراءه زوجة وابنة .وفي عدن جند "سخرة" في الجيش التركي "1914 / 1918م" وبعد جلاء الاتراك من لحج وما حواليها من ضواحي الشيخ عثمان .. عمل الاب " مرشد ناجي" في شركة الملح الهندية المقامة في ( الحسوة) ..عاش الطفل ( محمد ) سنوات عمره الاولى في سعادة بوجود أمه الصومالية الاصل التي جاءت الى عدن وهي طفلة .. اسم الام ( عورلا عبدي ) وفرعها الصومالي عريق وأصيل .. إذ أنها من قبيلة يقال أن جذورها عربية تدعى قبيلة " مجيرتين " .. لم تعلم الام الصومالية ابناءها اللغة الصومالية .. وكانت حتى إذا تحدث إليها نساء أو رجال من الصومال ترد عليهم بلغة مختلطة من العربية والصومالية!!يروي " محمد مرشد ناجي " في كتابه المهم الذي صدر عن جامعة عدن " صفحات من الذكريات" هذه الحكاية التي سمع خلالها لأول مرة عن " أحمد ياجنّاه".عندما كنت أحمل الغداء لوالدي الى مقر عمله .. كان يقول لي أحياناً :( أعطه لذلك الرجل) الذي عادة ما يكون جالساً في الظل .. فلما سألته ذات مرة عمن يكون ذلك الرجل نهرني قائلاً: أعطه الغداء وكفى !!بعد ذلك قال هامساً : ألا تدري ياأهبل من هذا ؟ .. إنه ( أحمد ياجنّاه) !! .. وهو لقب أحمد ابن الامام يحيى حميد الدين .. وأضاف ابي : إن الجن مسخرة لخدمة (أحمد ياجنّاه) ويطيرون به إلى كل مكان ليتعرف بنفسه ماذا يقول رعاياه عنه ، وابي منهم !! وكان من حظ الرجل أنه قريب الشبه بأحمد ياجنّاه ، ولذا فقد كان ابي يريحه عن العمل ويقوم بعمله نيابة عنه ويحصل الرجل على الأجرة ويأكل غداء ابي المسكين !![c1]بدايته الفنية [/c]يتحدث المرشد عن بداية معرفته بالغناء :بدأت من البيت .. فقد كان ابي يتمتع بصوت جميل ولا يمر يوم دون أن يغني بمهاجل القرية وغنائها الشعبي .. وعادة الغناء اليومية ظلت ملازمة له حتى بلغ ارذل العمر وجدت نفسي طفلاً مشدوداً إليه اصغي باهتمام لأن الحياة على عمومها في الثلاثينات والاربعينات في مستعمرة عدن البريطانية ما كان فيها ما يسلي النفس وينور الحياة إلاّ بالغناء !!وكان لما يغنيه ابي من ألحان قريته تأثير واضح على بعض الحاني التي تحمل السمة النغمية في المنطقة المسماه " الحجرية" !!بعد ذلك بسنوات بدأت زيارته لندوة الموسيقى العدنية ليلتقي فيها الفنان الكبير خليل محمد خليل الذي أهداه عوداً تقديراً له .. كذلك بدأت زيارته لنادي الشباب الثقافي في عام 1951م حيث كان يغني هناك الغناء المحلي القديم وأغاني خليل محمد خليل الجديدة والغناء المصري .أما بداية علاقته الجادة بالتلحين والغناء فقد كانت عندما كتب له الشاعر محمد سعيد جرادة قصيدة ( وقفة) وهي من الشعر الفصيح الذي كان له صعوبته .. ولكن إعجاب المرشد بالقصيدة هزم التهيب في نفسه وحملها معه الى أبين حيث كان يعمل هناك ..وظل في ليالي أبين الهادئة الجميلة أياماً يعيش مع مطلع القصيدة .. لى أن تسلل مفتاح اللحن الذي أتمه بعد عدة اشهر .والواقع أنه من الصعب الاستمرار في إلقاء الضوء على تجربة المرشد الانسانية والفنية .. وعلى من يريد التعرف على صفحات مهمة من حياة ذلك الفنان الرائع الاطلاع على كتابه المهم ( صفحات من الذكريات) .. أما أنا فسأعود بك صديقي القارئ الى اوراقي الخاصة لأقدم لك بعض أوراق السبعينات (1971م).[c1]أبو علي والاغنية الوطنية [/c]يعتبر محمد مرشد ناجي بحق من أهم ملامح تطورنا الغنائي .. وهو يشكل المقدمة الرائعة لسمفونية فننا الغنائي ..وعندما أتلقيت به .. سألته عن (الفن) ..ماذا تعني هذه الكلمة ؟أجاب الفن صورة الحياة ..والفنان ( المرشد) معروف في الاوساط الشعبية بأنه مصور ماهر استطاع خلال نضاله مع الاغنية اليمنية أن يلتقط لنا صوراً رائعة للحياة ..عشنا معه وهو يغني للهجرة ..ثم وهو يكسر الأغلال ( أخي كبلوني)..وعشنا معه وهو يغني للثورة ..وهو يغني اليوم للشعب .. يغني للانتصار ..ثلاث لوحات غنائية ..كان الألم يشكل أكثر خطوط اللوحة الأولى ..وفي الثانية قدم لنا وجه ثورتنا وهي تخوض الكفاح المسلح ..وها هو اليوم يغني لمعركة البناء ..[c1]* قلت للمرشد .. أو المرشدي ، وأبو علي كما يحلو للبعض مناداته : بعد رحلتك الطويلة في عالم الفن .. هل يمكنك أن تقول لنا من هو المرشد في كلمات .. وإلى أي مدى يرتبط المرشد ( الانسان) بالمرشد (الفنان) ؟[/c]- مرشد ناجي في كلمات قليلة ..أطلق عليه الناس لقب ( فنان) .. وطوقه هذا اللقب بالارتباط بالناس ..وكتب عليه أن يحمل هذا اللقب .. ويمشي به مع الناس .. يغني متى أراد له الناس أن يغني ..وينسحب متى أراد له الناس الانسحاب !..وفنان يحيط بعنقه مثل هذا الطوق .. لا يستطيع أن يكون فناناً بكل ما تستوعبه كلمة فنان من سلوك في هذا العصر !..وأنا لا أتصور .. ولا يتصور معي الكون ، أن لا يكون الفنان إنساناً .. إلاّ إذا كان الفنان من فصيلة أخرى غير فصيلة الانسان .. حماراً مثلاً ..أخ محمد ..لقد صار من الواضح جداً بأنك قد صرت تمثل إتجاهاً معيناً في التطريب .. ويظهر هذا بصورة أوضح في العودة الى التراث والاغتراف منه ..يصمت لحظة ويقول : واقع الحال أن هذا الاتجاه ليس بداية .. وإنما هو استمرار لبداية مصدرها هذا الاتجاه وما صادف هذا الاتجاه عبر مسيرته من مشاق لصاحبه أبان المفاهيم الانفصالية ..وقد يكون إلتفاف الجماهير وشغفها وإفتتانها به هو حصيلة هذه الميزة .. وهو الذي أوحى بما يقال اليوم بالاتجاه المعني ( العودة الى التراث والاغتراف منه )..[c1]* محمد ..أحرى بالفنان أن يتغلغل الى أعماق وعيه وأقاصي تجربته فيرسم لنا ملامح من صور الواقع في صدق وبساطة مستوحياً طاقته الفنية الكبرى .. مستخدماً مواده من أبسط ما نجد كل يوم ..ما رأيك في كلام كهذا عن معطيات الفن ؟[/c]- ليس في هذا شك ..[c1]* هل هناك إرتباط بين الفن والدين ؟[/c]- الفن يعاون الدين في عظمة رسالته .[c1]* أنت تغني عن الحب .. فما هو مفهومك للحب ؟[/c]- كمفهوم أحدهم عندما قال :( الحب شريف .. ولكنه يصبح شراً وعاراً إذا استغل وحول عن غايته )!!أخ محمد ..يمكننا الآن فقط أن نقول ، وبعد معرفتنا للقمندان من خلال أغانيك له وايضاً أغاني الآخرين ، بأن الفنان قديماً كان يثقف نفسه في أمور الحياة العامة بأبعاد موضوعية كانت هي الحافز الوحيد له لمواكبة التطور ، ودفع عجلة الفن الى أعلى المستويات ، فيأتي نتاجه ممتلئاً بالحيوية والتجربة التي تظل تعيش في الاعمال التالية .. وتظل تغذيها .. واضحى نتاجه فناً شعبياً وتراثاً حضارياً مليئاً بامكانيات التطور التي ستساعد على حل بعض مشاكلنا الاساسية كحل لمشكلة تطوير بعض الصور الفنية منها .. فينير دروب الواقع المبهم وتهتدي به الاجيال فيكون بمثابة وثائق فنية تاريخية يمكننا بالرجوع إليها تطوير بعض القيم من خلال استيعابنا لها ..[c1]* هل بإمكاننا أن نصنع من هذا سؤالاً تجيب عليه ؟[/c]- ان الظروف التي واكبت القمندان في عصره .. والحالة الاجتماعية التي وجد فيها اعطته الكثير من الفرص .. حيث أنه لم يتكل جزئياً أو كلياً على الفن .. بل كان يصرف من جيبه الكثير في سبيل ذلك .. حيث أن نتاجه فنياً كان صافياً رقراقاً ..وكان إحتكاكه بالطبقات الفقيرة وجولاته في الحقول الخضراء قد مدته بالكثر من إنتاجه الذي نسمعه اليوم ..يتحدث المرشدي عن إتجاهه الفني فيقول :أن إتجاهي الفني يسعى الى خلق إحساساً مشتركاً بين الجميع أن فني جزء من مشاعر الآخرين ، وعليّ أن أصهر نفسي في أمتي ومطالبها لأجسد قوالب خامتها متطلبات الحياة من أحزان وأفراح ..فأنا ثوري حين تقضي الظروف الموضوعية ..ومرح .. حين أجد نفسي حراً بين أحرار ..فني هو خبز للجميع .. هو سلاح للمضطهدين .. هو حلم للرومانسيين ، لنقول أنني أخترت الواقعية في الفن .. هناك حيث أستمد قوتي من شعبي ..فالفن يصور عادات وتقاليد الأمة ..يصور مآسيها وأفراحها ..يصور رغباتها وطموحاتها وارتقاءها ..والفن الذي لا ينفعل والظروف الموضوعية للأمة .. ليس فناً بل هو صرفية متعمدة ..فني هو تراثنا الخالد .. هو الدعامة التي نرتكز عليها لنقف شامخو الرأس نحلق في السماء .. ونعرف أننا نقف على أساس متين ! وتراثي هو الفن اليمني .. هناك حيث الاصالة والاتقان والجودة .. هناك أعرف لوني ونكهتي وميزتي وخصائصي كفرد في أمة كبيرة لها حضارتها وتراثها الكبير المميز ..وإتجاهي الفني اليوم ( مزج الماضي بالحاضر .. لأصب المستقبل ).. وماضيي تراثي اليمني ، الفولكلور الشعبي .. وتطوير هذا الفولكلور الذي هو نوعيتي في مضمون الفنون المحلية عامة .فني هو مزيج من الألحان المميزة لبلدي ..وأنا مهمتي أن ألمع هذا المزيج بأسلوب حديث ، أصور فيه حاضري وانطلاقه مستقبلي ..دعني أبسط لك أكثر ..[c1]* ما السر في أن أغنيتنا المحلية اللاهية لا تعيش أكثر من شهور حتى تتلاشى وتذوب ضياعاً ..؟[/c]- السر هو انها لا تستمد فكرتها من جوهر واقعها .. رنها مستوردة! نحن هنا لنا عاداتنا التقليدية في تحديد نوعيتها .. وهذه النوعية لا يمكن أن تنصهر في مادة غريبة ..ولكي ينجح الفنان .. يجب أن يتأصل في جوهر واقعه .[c1]* هل هناك فنان تفضله .. لماذا؟ [/c]- بالتأكيد عبد الوهاب في كل ما غنى قديماً وحديثاً ..إن عبدالوهاب عرف كيف يختار أغانيه من التراث المصري القديم ، حيث مزجها في قالب غنائي حديث لم يفقد فيه نكهته المصرية ..والسامع لموسيقاه.. يشاهد التواشيح المصرية القديمة .. ويرى الموالد المترنمة .. ويشم رائحة أزقة القاهرة .. ويضحك لسخرية المصري .. ويفخر لعزمه وصلابته ..صدقني .. أنني حين اسمع عبدالوهاب .. أرى أمام عيني ( مصر ) ترقص لمجدها الذي بني على صرح ماضيها المتين !ويتحدث المرشد عن رسالة الاغنية .. فيقول :الاغنية وعاء يحمل أفكار الأمة في كل نواحيها ..فهي القوة الدافعة لازاحة الاتربة المترسبة في النفوس لتتفتح للخير والجمال والعدل ..هي خير رسول يمثل الامة في الاقطار الاخرى .. يمثل تقاليدنا وعاداتنا وافكارنا ونوعيتنا واصلنا ..إنها ثورة للتحرر .. ونور لحرية .. وفكرة الارتقاء !* الشرارة 1972م