[c1]عائشة المري[/c]في الذكرى الأربعين مازال المأتم العربي مستمراً، ساعات في أيام في سنة كانت مفصلية في التاريخ العربي الحديث، كانت حداً فاصلاً لما قبلها وما بعدها. أربعون عاماً والهزائم العربية مستمرة، نكسة كبرى، فأيلول أسود، اجتياح بيروت وابتلاع للكويت، ثم احتلال لبغداد... اقتتال وتقاتل عربي على الفتات، كان السقوط العربي مدوياً في السادس من يونيو 1967م، لتستمر منذ ذلك الوقت توابع الزلزال، وتتكاثر الانكسارات العربية كما العفن. لكل هزيمة عربية اسم، ولكل انكسار عربي مؤامرة وأعداء، استعمار غربي، صهيونية، شيوعية سمِّ ما شئت.لم تكن هزيمة، فالتاريخ العربي مليء بالهزائم، ولا نكسة كما سُميت، فالنكسة لا تكون إلا ظرفية، كانت زلزالاً للجسد العربي للثقافة العربية، وقبل كل ذلك كانت احتلالاً وضماً لأراضٍ عربية، الضفة الغربية والقدس غزة والجولان وسيناء المستعادة باتفاقية سلام. زمن الهزيمة لم يؤسس لزمن الانتصار، استفاقة الوعي العربي بعد الهزيمة، لم تؤسس لوعي سياسي ناقد، فانكفأت تجتر أسباب الهزيمة، حتى نشّأت بعد الهزيمة أجيالاً لا تعرف ما السادس من يونيو (حزيران)، وفي ذكرى الهزيمة اليوم هي هزيمة عربية جديدة. لم تكن هزيمة عسكرية للجيوش العربية كانت هزيمة للوعي العربي، هزة سياسية للنظم كما للشعوب العربية، هزة ثقافية عربية، تمخضت عنها ولادة عسيرة لأدب ما بعد النكسة، مراجعة سياسية لأوضاع ما قبل يونيو 1967م، جيل النكسة استفاق من نشوة انتصار الأبواق الإعلامية، وبدأ بعملية نقد شامل للأوضاع العربية؛ نقد لم يؤسس لفكر نقدي بل كان رد فعل على صدمة سرعان ما استوعبها النظام التسلطي العربي، ليعيد إنتاج الأوضاع السابقة للهزيمة، فالفكر السائد الذي كان قومياً يوماً تلبس عمامة، وما كان "ناصرياً" أصبح "إسلامياً"، وانقلبت المسميات لا تطوراً بل مماحكة للثقافة السائدة، فتلبست حقبة ما بعد النكسة عباءة إسلامية، لتقفز بالمجتمعات العربية قفزات تراجيدية لثنائية الحرام والحلال، والناجين من النار، ولجماعات التكفير والهجرة. كانت هزيمة للوعي، لكنها لم تؤسس لوعي مختلف فليل الهزيمة العربية امتد أربعين عاماً وإلى اليوم، ولا زالت أجيال ما بعد النكسة تعيد إنتاج مفردات النظام العربي التي سبقت النكسة انقسامات وحروباً وتسلطاً. ومازالت الأبواق الإعلامية مسيسة لمصلحة النظام، والثقافة تكذب، والفكر يُزيف الوعي، وثقافة الاختلاف محاصرة، وعملية تدجين الشعوب مستمرة، والفاعل لا ضمير له مستتر معروف تقديره "هم". لا يحسن العرب قراءة التاريخ، ولن يتعلموا أن التاريخ يعيد نفسه، فالهزائم لا تبالي بالتذكر أو التناسي، فالخديعة الكبرى للعرب بداية القرن الماضي وتحديداً عندما أعلن الشريف حسين الثورة العربية الكبرى على الدولة العثمانية في 10 يونيو 1916م، فيما الحلفاء (بريطانيا وفرنسا وروسيا) يتقاسمون تركة "الرجل المريض" الدولة العثمانية بما فيها البلاد العربية. الخديعة الكبرى لم تكن مجرد ندبة في التاريخ المعاصر، قسمت المنطقة العربية بين الدول الاستعمارية الكبرى، بمقتضى هذه الاتفاقية التي وصفها بعض المؤرخين الأوروبيين بأنها "ليست صورة للجشع فحسب، بل صورة مرعبة للمخادعة"؛ وبعد ما يقارب القرن من الزمان، لم نستوعب درس الخديعة الكبرى، وبقيت دروساً في مادة التاريخ يستذكرها الطلبة تلقيناً وحفظاً دون أن تؤسس لوعي سياسي يستوعب أبعاد الهزيمة ولعبة الكبار. لن يبالي الناس بحدث تاريخي وقع بداية القرن، ولا يتوقع أن ينظر للحدث أبعد من سياقه التاريخي. اليوم بعد أربعين عاماً من الهزيمة، ماذا بقي من دروس "الخديعة الكبرى" ومن دروس النكسة؟ تقاتل واقتتال من المغرب العربي وحتى الحدود الفارسية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية لا العراق، بالطبع لا ننطلق من منطلق قومي، ولا من أوهام عروبية، لكننا في أمسِّ الحاجة اليوم لمراجعة شاملة لإجابات على أسئلة الهزائم العربية المتوالية لبحث في أسباب تناسخ التسلط وللاستبداد، المؤامرة الدولية مستمرة والانقسامات العربية تتكاثر كما الخلايا السرطانية، الاستقواء بالأعداء خبز يومي، فدول تعوي خارج السرب، وأخرى تتقافز حول موائد اللئام، وأخرى انكفأت على ذاتها تسبِّح بحمد النظام. الأعداء على الأبواب والرفقاء أصبحوا فرقاء. القضية العربية أصبحت القضية الفلسطينية، واليوم أصبحت القضية "الفتحاوية" أو "الحماسية" ولا ندري لأي أب ستُنسب غداً. كانت فلسطين محوراً للسياسات، للوعي العربي الحكومي والشعبي. إلى أين وصلت القضية اليوم؟ معاهدات سلام واستسلام منفردة، خيارات لحظية لقيادات لم تحسن لعبة السياسة، ولم تقتنص الانتصارات اللحظية لتحولها إلى انتصارات استراتيجية. العدو الصهيوني انتقل خارج الأقواس لبعثات دبلوماسية، وزيارات دبلوماسية وبعثات تعليمية. أربعون عاماً... و غام سؤال مَن العدو؟ مَن العدو فعلاً؟.. دولة توقع اتفاقيات سلام باردة أو ساخنة أم دولة تحتل أراضى وتتمدد، أم دولة تمارس سلطة الابتزاز النووي، أم دول جوار لا تحترم جيرة ولا دماً ولا ديناً؟ ليس سؤالاً فلسفياً... سؤال بسيط لا تستطيع الأجيال اليوم أن تجيب عليه، وإن حاولت الاستعانة بمن بقي من جيل النكسة ستتوه في إجابات غامضة، لا تنتمي إلى القرن الحادي والعشرين، ليبقى سؤال العدو إشكالية عربية لأجيال ما بعد حزيران. مقال ليس بكائية عربية على الأطلال ولا حنيناً لزمن لم نعشه أيام الأمجاد القومية، إنه دعوة للتوقف في ذكرى هزيمة مازلنا نعيش فصولها؛ فأربعون عاماً لم تؤسس الدول العربية لتجربة ديمقراطية واحدة، وبقيت المجتمعات العربية، تغرد خارج سرب التطور الطبيعي للمجتمعات، وما بدا أنه مراجعة شاملة لأوضاع الهزيمة، واجه انتكاسة أكبر من النكسة ذاتها، فارتدت المجتمعات العربية لمراحل ما قبل التاريخ البشري. اليوم في ذكرى حزيران يجتمع الشيطان الأكبر مع محور من محاور الشر، ما بدا مستحيلاً يوماً أصبح واقعاً معيشاً، يجتمع الأعداء في العراق على العراق والعرب، ومن قبلهم الحكومة العراقية انتقلت إلى مقاعد المتفرجين، فاللاعبون يبحثون عن مصالحهم من خلال شلالات الدم التي تجري في الساحة العراقية. إرادتان متناقضتان اجتمعتا في لحظة تحول تاريخية، ستنعكس مستقبلاً على المسألة العراقية والقضايا الخليجية والعربية، هي هزيمة عربية تضاف إلى الهزائم العربية لا تخرج عن السياق العام، ولكنها ستكمل صورة الانهيارات العربية لتبقى الحكمة العربية بأن "الذئاب لا تهرول عبثاً". ونختم بحكمة صاغها الحكيم "بيدبا" في رائعة "كليلة ودمنة" على لسان ثور أسود بعد تآمره على الثورين الأبيض والأحمر. "أُكلت يوم أكل الثور الأبيض"، اعترف الثور الأسود بخطئه، فهل هو أكثر حكمة من المتناطحين العرب على الفتات والنائمين في معسكر الأعداء، والمتحالفين مع الأعداء؟ [c1] نقلا عن صحيفة "الاتحاد" الإماراتية[/c]
في ذكرى الهزائم العربية
أخبار متعلقة