إن مثل هذه الرؤية الممعنة في تعصبها ونفيها للآخر، حتى من داخل الإطار الإسلامي العام، تعكس الأزمة الحقيقية التي يعيشها الخطاب الإسلامي المختطف من قبل هؤلاء، هؤلاء الذين جعلوا من الإسلام أداة تدمير وتقتيل واحتراب داخلي، بدل أن يكون أداة سلام وإخاء، وخيرية عامة، لا تقف عند حدود الجغرافيا الإسلامية، وإنما تتعداها إلى كل العوالم، بما هو - أي الإسلام - رحمة للعالمين.هذه الرؤية، هي دعوة صريحة(التطهير المذهبي)، داخل أبناء الملة الواحدة، بحيث تتجاوز في صراحتها وعدائيتها، جميع أنواع الفاشيات العرقية التي ظهرت في القديم أو الحديث؛ لأنها تتحدث بلسان الدين، وتدعي الانقياد التام في هذا السلوك للمقصد الرباني.وإذا كان المنطق العرقي، بطبيعته عنصرياً، مهما ادعى التسامح، إذ هو يقوم على رؤية تفاضلية طبقية للأعراق، فإن المنطق الديني، بطبيعته، تسامحي، حتى وإن تم استخدامه من قبل أتباعه في لغة عنصرية. وبهذا، تغدو عملية تحويل منطق الدين إلى منطق عرقي، جريمة في حق الدين، وبالضرورة في حق الإنسان.التعنصر حالة سيكولوجية خاصة. لكنها من جهة أخرى، حالة ثقافية عامة، تحكم جميع أبناء هذه الثقافة بمنطقها الحاد. وإذا اجتمعت - في شخص ما - حالة التعنصر السيكولوجي، مع ثقافة عنصرية، أدت إلى مثل هذه الحال من التعنصر الصريح، الذي لا يستنكف أن يمارس التطهير المذهبي علانية دونما حياء أو لوم ضمير بل بكل ما يحتويه التزمت من عناد وإصرار.غالبا، ما يكون الذي يمارس العنصرية على إيقاع المفردة الدينية، منطوياً على بعد عرقي في التعنصر. فالذي يرى المختلف معه في تفاصيل الديني، كائنا لا يستحق الحياة، أو لا يستحق حقوق الكائن الإنساني، تراه من جهة أخرى، يرى عرقه أفضل الأعراق، وقبيلته أفضل القبائل، وشخصه أفضل الأشخاص. فهي حالة وعي بالأنا والآخر، تنسحب من شخصية عصابية آنوية؛ لتمرر ذلك على العرق، ومن ثم على مفردات الديني.إذن، فالتعصب حالة ثقافية عامة، تتحدث عن نفسها - في بعض الأحيان - على لسان من ينطوي على حالة تعصب خاص. ولهذا، فإن الرجل الذي نادى - في مذكرة له - بالتطهير المذهبي، مارس - ولكن بلغة أقل حدة - التمايز العرقي صراحة، وألف مذكرة عن (جزيرة العرب) انطلق من أفضلية المكان!، إلى أفضلية العرق فصرح فيها أن العرب أفضل من العجم، من حيث الأصل. يقول بالنص: “عند الإطلاق والتعميم فالعرب أفضل من سواهم”. بل وينقل - مؤيدا - عن تقليدي آخر قوله عن العرب: “امتازوا من بين سائر الأمم باجتماع صفات أربع لم تجتمع في التاريخ لأمة من الأمم وهي جودة الأذهان وقوة الحوافظ وبساطة الحضارة والتشريع والبعد عن الاختلاط ببقية الأمم”.لاحظ، أنه يقول هذا الكلام، ويستشهد به - مؤيدا - في العقد الأخير من القرن العشرين. ربما يمكن تفهّمه أو الاعتذار لتخلفه، لو وجد في أحد المصنفات التاريخية التي مضى عليها أكثر من ألف عام، لكن، أن يستشهد بها - مؤيدا - رجل تعلم وتكوّن وعيه في النصف الثاني من القرن العشرين، بعد أن سقطت نظريات التمايز العرقي، فهذا ما لا يمكن فهمه إلا بتصوره لم يزل - على مستوى الوعي - قابعاً في حدود القرون الأولى.إنني لا أدري بعد كل هذا الادعاء التفاضلي المتعنصر، الذي يستطيع أي عرق من الأعراق أن يقول به، ماذا ترك للزعيم النازي: هتلر، وادعاءاته للعرق الآري المجيد!. كل فضيلة للأنا، ولكل رذيلة للآخر. بل حتى رذائل الأنا التي يستحيل إنكارها تتحول إلى فضائل، حتى الانغلاق: البعد عن الاختلاط ببقية الأمم، أصبح في هذا السياق، فضيلة للعرق العربي المجيد!. ولا يخفى هنا، أن دعوى جودة الأذهان، والحفظ، والحضارة، مجرد دعوى، لا ترد على الخاطر إلا في أحلام اليقظة. إنها دعوى للتسلية والضحك لا أكثر؛ خاصة عندما يدعيها عربي، لا يملك من كل هذه الصفات إلا أقل القليل.لا شك أن مثل هذه الادعاءات العنصرية، قد تستهوي بعض البسطاء، وتلامس أحلام الغوغاء؛ لأنها تمنحهم نوعا من التميز الموهوم. لكن، أن توضع هذه الادعاءات العنصرية في سياق يدعي المعرفية، والأهم، أنه يدعي صاحبها الاتكاء على رؤية دينية، حتى ادعى أن تفضيل العرب على غيرهم، هو مذهب أهل السنة والجماعة!، فهذا ما يجعل منه خطابا مدمرا، يوهم الأنا بالاختيار الإلهي للعرق، ويمنحهم - ادعاء - شعار اليهودية الزائف: شعب الله المختار.طبعا، الرجل يحاول أن يتذاكى، وربما يكون ذكيا في إطار جمهوره!. هو لا يذكر تميز العربي عرقياً لمجرد إحساس ساذج بالتميز الذاتي فحسب، وإنما يريد أن يدخل من هذه الزاوية إلى إشكالية المكان الذي كان موطن العرب الأساس: جزيرة العرب. ولهذا أتت هذه الدعوى العنصرية في سياق الحديث عن جزيرة العرب. وهو يريد تأثيم الحكومات العربية: السعودية والكويت، التي استعانت بالقوات الأجنبية، إبان الغزو العراقي الآثم للكويت. فالخصوصية المدّعاة هنا للإنسان، هي خصوصية يراد بها تعزيز الخصوصية المكانية؛ ليخلص منها إلى تأثيم حكومتي: الكويت والسعودية، بادعاء انتهاكهما لهذه القداسة التي يدعيها.ولأن الرجل صريح أحيانا، وخاصة عندما يتذاكى، فيحاول التأسيس لمقولات لا تسمي الوقائع، وإنما تترك للجماهير تطبيقها الآلي على هذه الوقائع، فإنه عندما تحدث عن التوحيد، وكفّر - بسيف التوحيد الذي يرفعه شعارا - بقية الطوائف من المواطنين، ذكر عدة أمور، ادعى أنها تنافي التوحيد أو كماله، ومنها:1- استقدام النصارى.2- الابتعاث.3- احترام الأنظمة الإدارية.واضح، ماذا يقصد باستقدام النصارى، في سياق الحديث عن التوحيد، والذي يضعه في مقابل الكفر. والابتعاث عنده عمل تغريبي مدمر، ينبغي إيقافه أو الحد منه؛ لأنه يؤدي - بزعمه - إلى خفوت عقيدة الولاء والبراء، وإلى التأثر بالحياة الغربية، وكسر الحاجز النفسي بين المسلم والكافر. وهو الحاجز الذي يراه عقيدة لا ينبغي التفريط فيها. كما أن احترام الأنظمة الإدارية، والالتزام بها، يجعلها - في نظره - شبيهة بالتعاليم الإلهية. وهذا - في تصوره - خلل عقدي، لأنه يحمل نوعا من الشرك في تصور المنظر التقليدي للتوحيد.ويستولي رهاب الحداثة على قلب الرجل، كما استولى على قلب أستاذيه: سيد قطب ومحمد قطب. وهما الشخصيتان اللتان لا يكف عن تمجيدهما في كل ما يكتب ويقول. فالعداء الصريح للحضارة المعاصرة، ومنجزاتها الفكرية خاصة، هو ما تنضح به مؤلفات الأخوين. وهو تابع مخلص لهما في هذا العداء، بل زاد عليه من تقليديته، بما يجعله من أصول الدين. وإذا كان من حيث ذكائه وثقافته وجهده المعرفي، ونضاله الحركي، يبدو ضئيلا للغاية أمام أستاذيه، فإنه لا يتحرج من هذه الوضعية الدونية، بل يستشهد بهما - في الغالب - بكل صغير وكبير، وخاصة ما يمس الموقف الأصولي من الآخر. [c1]عن / صحيفة (الرياض) السعودية[/c]
الإرهاب .. ذكريات التأسيس الثقافي 2 - 2
أخبار متعلقة