بعيداً عن مولد “الذمة المالية”:
- كان هناك شبه إجماع حول أهمية الخطوة المتمثلة بتشكيل الهيئة الوطنية العليا لمكافحة الفساد، واليوم نجد من الأهمية الإبقاء على نفس المستوى من التفاؤل، برجاء أن لا تتعثر خطوة كهذه أو تراوح مكانها!أفهم أن الهيئة - قصيرة العمر - لا تزال بحاجة إلى المزيد من الوقت لاستكمال البناء المؤسسي والإداري بحيث تستوعب نفسها والواجبات الوظيفية المناطة بها. وهذا لا يمنع من التنويه بما أظهرته الهيئة من حماسة خلال الأعمال والمهام التي أنجزتها في الأشهر المنصرمة من عمرها القصير. وإن بدا خلال هذه الفترة أن الهيئة كثفت، بشكل ملحوظ من حضورها الإعلامي. وهذا جيد، شريطة أن لا يجيء على حساب المهام والوظائف النوعية التي قامت من أجلها. ولا شيء يمكنه أن يعوض عن مكافحة الفساد، كمهمة وظيفية تخصصية للهيئة، لا الإعلام ولا الندوات ولا غيرهما!.بصورة كثيفة - وربما مبالغ فيها كما تذهب بعض الآراء - أظهرت الهيئة أهمية زائدة لمسألة استمارات الإقرار بالذمة المالية. وطوال الأشهر الستة المنصرمة راحت بيانات وتصريحات الهيئة ورجالها تحصي للإعلام وللرأي العام أعداد الاستمارات الموزعة على المشمولين بتقديم الإقرارات، والاستمارات التي عادت إلى الهيئة مكتملة وتلك التي لم تعد، وفي أحيان ومرات أخرى العدد الإجمالي للإقرارات المحصلة، وعدد الإنذارات (النهائية) للمتأخرين عن تقديم إقراراتهم بالذمة المالية ومنحهم “فرصة” أخيرة.- تقريباً، كان ولا يزال هذا الموضوع والعنوان هو الشغل الشاغل للهيئة، بدرجة رئيسية. ونادرة هي المرات التي حدثتنا خلالها الهيئة عن قضايا فساد حقيقية باشرت التحقيق والاستقصاء بشأنها إلى أين وصلت؟!وإذاكنا لا نقلل من أهمية برنامج الهيئة المعني بإقرارات الذمة المالية، إلا أننا وفي هذه التجربة البكر والأولى لا نحبذ المبالغة أو مغالطة أنفسنا حول جدوى الخوض في التقليد وإلى أي مدى ودرجة يمكن التعويل أو الاعتماد على دقة وصدقية المعلومات الواردة في آلاف الاستمارات المتضمنة إقرارات المسؤولين بذممهم المالية؟فعلى سبيل المثال، لا الحصر، يطرح أعضاء البرلمان - وهم من شرع لقانون الذمة المالية - بأنهم غير ملزمين أو لا يجب أبداً إلزامهم بالكشف عن ذممهم المالية! هذا بالرغم من أن القانون الذي خرج من تحت قبة البرلمان نص على إلزام النواب بالإقرار ضمن الفئات الأخرى.وأفكه تعليق في هذا الباب - ضمن استطلاع نشرته صحيفة “الميثاق” تحت عنوان : “نواب بلا ذمة مالية” - هو ما قاله أحد أعضاء البرلمان : “أغلبنا تجار ومستورون، وبالتالي ذممنا يجب أن تبقى مستورة”! أما لماذا يجب؟ فالله أعلم!- ونائب آخر كان يتساءل باندهاش : “هذا غلط، كيف مر علينا هذا القانون؟” فقط لمجرد أن الهيئة تطلب من النواب تعبئة الاستمارات. لكن رئاسة البرلمان تصرفت بطريقة مدهشة وغريبة: استلمت رسالة الهيئة والاستمارات، ثم أمرت بها إلى الأرشيف مباشرة وكأن شيئاً لم يكن؟! وإذا صدق حدسي - وهو صدوق غالباً - فإن الاستمارات ذهبت إلى سلة المهملات وليس الأرشيف!!- ودعك، بعد النواب المشرعين المراقبين، من بقية أصحاب الذمم الواسعة والصدور الضيقة. فإذاً على الهيئة أن لا تكبر وتضخم من مسألة الإقرارات وكأنها غاية الغايات. ولتبدأ من حيث يجب أن تبدأ، ومن حيث ينتظر الرأي العام والإعلام والمراقبون أن تضع يدها ومجهرها فهناك جرائم وقضايا وحالات فساد ظاهرة ونصف ظاهرة، أو نصف مستورة، أكلت أخضر البلاد ويابس العباد وأوصلتنا إلى ما نحن فيه من شك وتذمر واحتقانات، بدرجات متفاوتة من حيث الشدة والسوء!.- على الهيئة أن تترفق بنا، وأن لا تترفق أبداً بالفاسدين وقضايا السطو والقرصنة ونهب المال العام والإثراء المفاجئ وغير المشروع الناتج عن سوء وفساد واستغلال الوظيفة العامة والمناصب العليا في الوزارات والمؤسسات والإدارات المختلفة، بما فيها وبدرجة أولى وقصوى القيادات والمناصب التنفيذية في المحافظات والسلطات المحلية.- غير معقول أن لا نطلع من الهيئة على قضايا من هذا النوع. والرأي العام متعطش لمحاسبة ومحاكمة أساطين الفساد والافساد، إظهاراً للجدية ومحاولة لاستعادة الثقة بالإجراءات المتخذة لمحاربة الفساد وأن الأمور ذاهبة إلى خير.- ولا أزال استحضر عبارة قالها لي محافظ أبين المهندس / أحمد الميسري، في لقاء صحفي سجلته معه قبل حوالي شهرين من الآن حيث لخص الموقف في كلمات قليلة ومباشرة : “على الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد أن تطال رؤوساً كبيرة”، هذا وحده سوف يقدم رسالة عاجلة وصارمة إلى لوبي الفساد، المتآمر على سيادة وسلطات الدولة وعلى المجتمع، مفادها : لا جريمة بدون عقاب.- الذمة المالية لا تكفي ولا تشفي غليلاً أو عليلاً. لابد من مساعدة الدولة ورئاسة البلاد والحكومة التنفيذية على السير قدماً في إنفاذ التوجيهات والقرارات والسياسات والتوجهات الصريحة والمعلنة لمكافحة الفساد ومظاهره المختلفة. على الهيئة أن تمطر .. وسريعاً.!الناس يراقبون الأفعال لا الأقوال، ويتحدثون بصوت مسموع عن المسؤول الفلاني في إحدى الوزارات والجهات يسيء استخدام سلطاته لمصالحه الشخصية، أو عن مسؤول آخر في عدن لم يكن شيئاً مذكورا، وخلال أشهر قليلة من توليه المنصب الذي هو فيه الآن أثرى وتملك وأفحش في الثراء علناً ومن دون حياء أو خجل! وثالث في ريمة ورابع في أبين وخامس في حضرموت و.. و.. الخ.وإزاء هذا كله لابد من إظهار الوجه الآخر .. و “لابد أن تطال رؤوساً كبيرة”.