نبض القلم
المال أو النقود لها أثر كبير في حياة الأفراد والجماعات والدول، ولذلك يبذل الإنسان جهداً كبيراً للحصول عليه، وينفق أوقاتاً كثيرة لكسبه، واستعماله في شراء ضروريات حياته.ويستعمل الإنسان النقود ليشبع حاجات كثيرة يحتاجها في حياته، وهو يجمعها ليثبت وجوده في المجتمع، ويحصل على مراده من متاع الحياة ولذّاتها، ومن حق الإنسان أن يسعى للحصول على النقود حتى يلبي حاجاته، وعلى المجتمع والدولة أن يهيئا الظروف الملائمة للعمل على الحصول على النقود بالطرق المشروعة، وليس بالطرق غير المشروعة أو المحرمة، والعمل هو الوسيلة الفضلى للحصول على النقود، ونحن عندما نقبض أي مبلغ من المال إنما نقبضه مقابل عمل قمنا به، أي أن النقود التي نحصل عليها إنما هي مقابل الخدمة التي نقدمها للمجتمع سواء كانوا أفراداً أم جماعات. وفي الوقت ذاته فإن أي مبلغ ندفعه إنما هو مقابل خدمة قدمت لنا، أي أننا ندفع أجرة العامل الذي أنتج السلعة وباعها لنا.وأجرة العمل لا تعني فقط أجرة العمال الذين أنتجوا السلعة في شكلها الأخير، ولكنها تشمل تكاليف إنتاج السلعة في مختلف مراحل إنتاجها فهي تشمل أجرة العمال الذين أسهموا في استخراج المادة الخام، وتشمل أيضاً مصاريف نقلها وتصنيعها، ونسبة التالف والمستهلك منها وتشمل كذلك تكاليف الآلات والمعدات المستعملة في العملية.ونحن عندما ندخر نقودنا إنما ندخر جهدنا الذي بذلناه في عملية الحصول على المال، وذلك لغرض الاستفادة منه في ما بعد، والقدر المدخر إنما هو مقدار ما ندين به المجتمع من خدمات أديناها له بدون مقابل نستفيد منه، وفي المقابل فإننا عندما نريد أن تقدم لنا خدمة بعد ذلك، فإننا ندفع النقود من مدخراتنا ويتم استيفاء الدين القديم دون إلزام طرف من الأطراف بشيء جديد، وهذه الميزة هي التي تشجع الناس على ادخار نقودهم في مقتبل عمرهم ليستفيدوا منها في شيخوختهم أي أنهم يدخرون جهودهم.ومن هنا تكتسب النقود أهميتها في الحياة، فهي قوة دافعة كبيرة للعمل، ولذلك من الطبيعي أن تتولد لدى كل شخص الرغبة في العمل للحصول على النقود. وهذه الرغبة هي التي حفزت الناس على بذل أقصى جهودهم للحصول عليه.وفي الوقت نفسه هناك أشخاص كثيرون دفعتهم الرغبة في الحصول على النقود إلى اتباع أحط الوسائل وأخس السبل لجمعها، وقد يستبد سعار الطمع بهؤلاء ويستولي عليهم جنون الجشع، فيصبح جمع النقود بالنسبة لهم غاية فليس لهم من هدف في الحياة إلا جمع النقود واكتنازها، بشتى الوسائل وبمختلف السبل، فصار هؤلاء عبيداً للنقود، بدلاً من أن تكون خادمة مفيدة لهم. وتناسى هؤلاء أن النقود إذا وضعت في موضعها الصحيح فإن لها القدرة على فعل كثير من الخيرات للمجتمع، وتؤدي إلى تقدم المجتمع وازدهاره في حين أنها لو وضعت في الموضع الخطأ فإن لها آثاراً مدمرة على أصحابها وعلى المجتمع.وليس بخاف أن النقود جذابة، ولها تأثير كبير في أصحابها، فهي متممة الأعمال ومحققة الآمال، ومنقذة الرجال، وقد فطر الإنسان على جمع النقود وحب المال، قال تعالى : “وتحبون المال حباً جما” (الفجر، 20) وقال تعالى : “المال والبنون زينة الحياة الدنيا” (الكهف، 46) ولكن الأجمل من المال إنفاقه في مواطنه، والتمتع به في أوانه، لأن المال يفقد قيمته عند عدم استخدامه وما فائدة المال إذا لم يخرج من خزائنه وينفق في مواضعه المشروعة.ومن المواضع المشروعة لإنفاق المال دعم المشروعات الخيرية في المجتمع، والمساهمة في امتصاص البطالة والحد من انتشار العاطلين عن العمل وذلك بإقامة المشروعات التي من شأنها تشغيل الأيدي العاطلة عن العمل، ومحاربة الفقر وتخفيف معاناة الفقراء.ولقد كان أجدادنا بالأمس البعيد ينطلقون في جنبات الحياة وأرجاء الكون عاملين غانمين، فيكسبون المال بالطرق المشروعة ويربحون عن طريق الحلال، فيجمعون الكثير من المال الطيب الحلال الذي يسر ويعجب ولكنهم لا يستأثرون به لأنفسهم بل يفيضون ينابيعه على أهليهم وأبناء أمتهم، لأنهم يتذكرون دائماً أن في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم، فكانوا يستجيبون لصرخة الملهوف، وأنات المكلوم وتأوهات المكروب، فيتسابقون على البذل والعطاء في أعمال البر والإحسان. في حين أن أغنياء اليوم لا ينفقون إلا لحزبية مشتتة أو لغنيمة مقبلة، أو لدعارة فاجرة، أو لشهوة آثمة مع أن المجتمع يعج بملايين الفقراء وآلاف العاطلين عن العمل، الذين يحتاجون إلى التفاتة من قبل الأثرياء الذين يموتون من التخمة في حين أن هناك آلاف الأشخاص بجوارهم يموتون من الجوع. فلو أعطى المتخمون للمحرومين ما زاد عن حاجتهم لاستقام الحال.وفي النطاق العالمي نرى الدول الغنية قد استأثرت بخيرات الأرض وجمعت الثروات الضخمة في الحقبة الاستعمارية واستعبدت الشعوب وأصبحت الولايات المتحدة اليوم تسيطر سيطرة كاملة على البنك الدولي للإنشاء والتعمير (IBRD) وعلى صندوق النقد الدولي (IMF) وهما المؤسستان الماليتان اللتان تتحكمان في الاقتصاد العالمي وهما اللتان تقومان بدور فاعل في توجيه العلاقات الاقتصادية العالمية سواء من حيث الاستقرار النقدي أو من حيث سياسات أسعار الصرف وحرية تحويل الأموال، وانتقال رؤوس الأموال، أو من حيث التحكم في السياسات الاقتصادية والمالية لعدد كبير من الدول، يضاف إليهما نظام تجاري عالمي وهو منظمة التجارة العالمية (WTO) التي خلقت اتفاقية الجات منذ 1995م وحوت قواعد ملزمة وآليات تحكم إجبارية وتعد نفسها لتصبح الحكم الفصل في ميادين التنافس والوصول إلى الأسواق العالمية والقوانين المتعلقة بالاستثمار.وفي ظل هذه الهيمنة الأمريكية على الاقتصاد العالمي صار من غير الممكن تحويل الأموال من بلد إلى آخر إلا بالمرور بإجراءات وضعتها الإدارة الأمريكية بحيث يمكن من خلالها مراقبة التحويلات المالية، وبسبب تلك الإجراءات امتنعت البنوك من تحويل الأموال إلى فلسطين وحرم الشعب الفلسطيني من حقه في الحصول على النقود اللازمة للعيش الكريم، والسبب في ذلك أن النقود صارت سيدة في عالم اليوم بدلاً من أن تكون خادمة للمجتمع البشري، وصار بإمكان من يمتلكها أن يتحكم في الناس ويسلبهم إرادتهم، ويحرمهم من حقوقهم المشروعة.[c1] *خطيب جامع الهاشمي بالشيخ عثمان[/c]