منبر التراث
[c1]أقدم منبر في اليمن[/c]في صيف سنة 1990 ، زرت مدينة ذمار القديمة ، وتجولت في شوارعها ، وأزقتها ، وأحياءها ، وكانت الأمطار تغسل وجه المدينة العتيقة ، وأصوات الرعد كأنها زئير أسد غاضب يصم الآذان ، ويخترق البرق السحب الكثيفة الرمادية . وفي وسط المدينة الغارقة في تاريخ العصور الإسلامية الأولى . رأيت مسجداً جامعاً تطفو منه مئذنة عريضة شاهقة تكاد تلثم وجه السماء . وفي داخلها شاهدت منبراً خشبياً ضخماً راقداً على أرضية الجامع ، وتبدو من ملامحه أنهً بلغ من العمر عتيا . تفحصته بعناية ، جذبني منظره ، فالمنبر ليس منبر عادي ، بل يحتوي على زخارف فنية غاية في الجمال والرواء والرقة . أقترب إلىَّ أحد أبناء ذمار ، وعرفني بنفسه بأنه مدرس في إحدى مدارس ذمار . لفت انتباهه اهتمامي بالمنبر الخشبي الضخم . قال لي : " إن هذا المنبر الخشبي يعود تاريخه إلى زمن بعيد ، ولكن لا نستطيع تحديد زمنه بصورة دقيقة " . ويمضي في حديثه : " هناك تفكير من الجهات المسؤولة في محافظة ذمار على وضع ذلك المنبر الخشبي الجميل والعتيق في مُتحف ذمار " . [c1]في جامعة القاهرة[/c]ومرت الأيام ، والشهور ، والسنيين ، والمنبر الخشبي الذي شهادته ولمسته في جامعة ذمار الكبير مازالت صورته مطبوعة في ذهني ووجداني . وتشاء الصدف السعيدة أن أسافر إلى القاهرة المعزية في مصر المحروسة من مالي الحُر من فترة ليست قصيرة. والتقي أحد أساتذة الآثار والفنون الإسلامية ووكيل كلية الآثار - جامعة القاهرة وهو الأستاذ الدكتور ربيع حامد خليفة . ولقد كان أستاذا في جامعة صنعاء منذ بداية تأسيسها وتحديداً منذ إنشاء كلية الآداب قسم التاريخ ، وتطرقنا إلى موضوع ذلك المنبر العتيق في جامع ذمار الكبير التي رأيته ، ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة ، وعرفت سر تلك الابتسامة العريضة . فقد رأى ذلك المنبر العتيق في جامع ذمار وهو مكتمل الصحة والشباب أو إذا شئت فقل قبل أن يصاب بالشيخوخة وتهزمه غوائل الزمان ويبعد عن الخدمة في الجامع . قال لي الدكتور ربيع حامد ، لقد تفحصت ذلك المنبر الخشبي ، وقمت بدراسة كاملة عليه، ونشرت تلك الدراسة في مجلة " الإكليل " اليمنية في صنعاء في سنة 1408هـ / 1988م،. [c1]هدية الخليفة الفاطمي المستنصر[/c]ويواصل حديثه قائلا : " الحقيقة لقد اكتشفت بعد دراستي الأثرية له أنه منبر قديم يعود تاريخه إلى الدولة الفاطمية ( 358 - 567 هـ / 969 - 1171 م ) والتي كانت تربطها باليمن وخصوصاً في عهد الدولة الصليحية بسبب وحدة المذهب الديني . ويبدو أن ذلك المنبر يعود تحديدا إلى الخليفة الفاطمي المستنصر آخر الفاطميين العظام ـــ الذي ظل في الحكم ستين عاماً . ولقد كانت تربطه بالملك علي بن محمد الصليحي المقتول سنة ( 459هـ /1068 م ) علاقة قوية ، وكان يقدر الملك الصليحي تقدير كبيراً ويثني عليه ثناء حاراً لخدماته الجليل للدعوة الفاطمية في مكة ، واليمن ، والهند في رسائله التي كان يبعثها إليه ، ويبدو أن ذلك المنبر كان هدية من الخليفة الفاطمي المستنصر إلى الملك الصليحي . ودليل ذلك أنني عثرت على تاريخ صناعته في زمن كان الملك الصليحي مازال يحكم اليمن أي قبل اغتياله بسنوات عديدة . [c1]في مُتحف ذمار [/c]ويسترسل الدكتور ربيع حامد خليفة . ولقد قمت بمقارنة ذلك المنبر الخشبي بمنبر آخر في مسجد الحاكم في القاهرة المعزية في عهد الدولة الفاطمية سنة ( 393 هـ / 1004 م ) ، فوجدت تطابق كامل بين المنبر القائم في جامع ذمار الكبير ، والمنبر الموجود في مسجد الحاكم الفاطمي بمصر. وفي ختام حديثه ، قال لي : ونستشف من ذلك أن منبر جامع ذمار الكبير يعد أقدم المنابر الخشبية في اليمن " . وإن لم يكن في البلدان الإسلامي . ونأمل أن يكون ذلك المنبر العتيق. قد اهتمت به الجهات المعنية بالآثار ، ومحافظة ذمار وحفظته في مُتحف ذمار بشكل لائق يليق بتاريخ المنبر الذي يمثل صفحة من صفحات تاريخنا اليمني الإسلامي .