جمال محمد عبيدات لدى مقاربة موضوعة «أزمة التنمية العربية» يفاجأ المرء بتعقيدات الأزمة وتشابك خيوطها.. ولعل هذا التشابك يفسر تعثر مبادرات الإصلاح الجزئية ويضع المفكرين والمخططين والفاعلين في عملية التنمية أمام الكثير من الأسئلة التي لابد من تدبرها قبل المسارعة في إجابات عشوائية غير منتجة. لقد شهدت التنمية العربية في العقد الأول من الألفية الثالثة تصاعداً في وتائر المناداة بالإصلاح , مبادرات إصلاحية على الصعيدين الحكومي والأهلي.. كان منها «بيان مسيرة التطوير والتحديث» الذي صدر عن القمة العربية 2004. وعلى المستوى الأهلي صدر «إعلان صنعاء» عن المؤتمر الإقليمي حول «الديمقراطية وحقوق الإنسان ودور المحكمة الجنائية الدولية ـ 2004»... و«وثيقة الاسكندرية» عن مؤتمر «قضايا الإصلاح العربي، الرؤية والتنفيذ» ـ الاسكندرية 2004.. كما شهد هذا العقد تحركات باتجاه الإصلاح السياسي من قبل القوى السياسية في الوطن العربي.. نجح بعضها في تحقيق اختراقات مهمة (في المغرب والبحرين.. وسوريا).. وأعلن «الإخوان المسلمون» في مصر «مبادرة للإصلاح السياسي في مصر»، كما أعلنت الحركة الإسلامية الأردنية وثيقة «رؤية الحركة الإسلامية للإصلاح».. فضلاً عن مبادرات مماثلة شهدتها المملكة العربية السعودية. ولكن ما يلفت الانتباه أن مآلات معظم هذه المبادرات كان الإحباط والفشل.. إذ اصطدمت جهود الإصلاح بجملة من المعوقات البنيوية والسياسية جعلت التقدم فيها أمراً بالغ التعقيد.. لعل في مقدمة هذه المعوقات تعدد واتساع الانتهاكات التي تكاد تطال كل شيء. فهناك انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والمدنية.. وهناك حالات من عدم الاستقرار التشريعي.. وحتى التشريعات المستقرة كثيراً ما يجري تعطيلها وتصفيدها بقوانين الطوارئ والمحاكم الاستثنائية في أكثر من دولة عربية.. لقد اصطدمت مبادرات التنمية في غير بلد عربي بالكثير من المعوقات والنواقص الذاتية لخصتها تقارير التنمية الإنسانية في العالم العربي.. بنقص المعرفة، والحرية، وتمكين المرأة.. وهي تحديات أثرت دون أدنى شك في تراجع التنمية وتواضع مخرجاتها... فعلى الرغم من الكثير من الملامح الإيجابية في ميدان التعليم، إلا أن معدلات الأمية الهجائية المرتفعة غير مقبولة.. لدينا مجتمعات عربية تبلغ نسبة الأمية فيها ما بين 40 إلى 50 وأحياناً تفوق ذلك في بعض البلدان.. وهناك من يقدر حجم الأمية الهجائية في عام 2002 بحوالي ثلث الرجال ونصف النساء في الوطن العربي بعامة.. أما بالنسبة للطفولة فما زالت ظاهرة حرمان بعض أطفال العرب من حقهم الأصيل في التعليم الأساسي موجودة.. وتشير التقديرات إلى أن هناك عشرة ملايين طفل عربي في سن التعليم الأولي غير ملتحقين بمدارس، وليست لهم الفرصة أيضاً في الالتحاق بمدارس.. وفي هذا السياق نكتفي بالإشارة إلى نتائج الدراسات التي أجريت على خمسة عشر بلداً عربياً، وكشفت عن أن 32 مليون شخص يعانون نقص التغذية، أي ما يقارب 12% من مجموع سكان هذه الدول! إذن هناك فجوة تعليمية ومعرفية ضاغطة جداً على كل موضوعة التنمية في المنطقة العربية.. وسوف تزداد اتساعاً ما استمرت الحروب والاحتلالات. أما بالنسبة لنوعية التعليم فإنها تنعكس في ضعف مهارات المتعلمين الأدائية والمهنية، وفي مهارات التعلم الذاتي، والتفكير النقدي والتحليلي والإبداعي والابتكاري.. وهي عيوب خطيرة تستدعي جهودا نوعية مركزة حتى يصبح التعليم رافداً من روافد التنمية الإنسانية، فضلاً عن أن يكون محركاً لها.. وهذا يستدعي ربط قضية التعليم بتأهيل العمالة وأسباب البطالة، وجسر الفجوة بين مسارات التعليم واحتياجات المجتمع من التعليم.. فالعامل البشري هو العنصر الأساسي في قضية التنمية، إذ يقدر الخبراء أن 64% من أداء النمو هو عنصر بشري.. وأما ما يتعلق بحالة الحريات في وطننا العربي فحدث ولا حرج.. لقد أكدت خبرة العقود الأخيرة من القرن المنصرم أن هناك تراجعا بيناً على صعيد الحريات بعامة وحرية التعبير والتنظيم بخاصة. فحالة الأحزاب وكذلك منظمات المجتمع المدني، أو المنظمات غير الحكومية.. لا تسر صديقا. وعليه فإن حالة الحريات بعامة انعكست في تراجع غير محمود على المشاركة السياسية التي تتراجع بدورها، كما تشير أعداد ونسب المقترعين في جميع الانتخابات المحلية والنيابية. ويعتبر الارتكاز إلى المشاركة الشعبية الفعالة من أهم عناصر التنمية الإنسانية، كما أن صون الحرية بما يضمن توسيع خيارات الناس، يحمي بالضرورة جوهر التنمية الإنسانية. وأما بالنسبة لما يطلق عليه تمكين المرأة، فإن النساء بشكل عام يعانين من الإقصاء المزدوج.. هناك إقصاء اجتماعي تاريخي، نشأ عنه وصاحبه إقصاء سياسي.. وانعكس هذا الإقصاء في نصوص قانونية تمييزية، فضلا عن عجز في توفير الحماية للنساء ضد العنف والتمييز وانتقاص الحقوق المشروعة.. مما يعني تهميش كتلة بشرية وازنة في المجتمع، وتغييبها عن لعب دورها كشريك وفاعل في عملية التنمية. أما عن البعد الخارجي للتنمية، فقد شكل التدخل الخارجي من خلال الغزو والاحتلال والهيمنة وإملاءات العولمة الجائرة، حائطاً لصد معظم مساعي التنمية.. فالاحتلالات القائمة في غير مكان من الوطن العربي، فضلاً عن مضامينها التدميرية للكيان السياسي والجغرافي للدول، كانت لها تداعياتها التدميرية على التنمية الإنسانية، حيث نشأ عنها انفلات أمني غير مسبوق، وتصاعد في وتائر العنف والإرهاب، وتدمير البنى التحتية والهياكل التنموية والمؤسسات.. وأفقدت الإنسان العربي في هذه المنطقة بعامة والمناطق المحتلة بخاصة، أبسط مقومات الحياة وأساسياتها... فكيف لهذا الإنسان أن يتفرغ للتنمية؟! إن حوار التنمية يصطدم بالعديد من الإشكاليات، لعل أبرزها القيد السياسي الداخلي، وأزمات المنطقة السياسية المستمرة، والحجر القمعي على العقل العربي.. فإذا ما اقترن القمع بهجرة العقول العربية، فإننا نجد أنفسنا أمام تحد يتمثل في كيفية استرجاع هذه العقول وتعبئتها لصالح إحداث التنمية المنشودة.. ناهيك عن أزمات المياه والغذاء والبطالة، وعدم تنفيذ المشروعات.. وارتفاع معدلات النمو السكاني وما في هذا النمو من اختلالات.. وتدني مستوى الخدمات وتزايد المديونية الخارجية.. وتفاقم حالة استنزاف الموارد المالية والبشرية العربية.. حيث أموالنا العربية تواصل تدفقها نحو المراكز العالمية الكبرى، إما ردّا لديون متراكمة وإما تسديدا لثمن سلاح، أو بقصد الاستثمار هناك. خلاصة القول أن منطقتنا العربية تزخر بالعقول البشرية التي من شأنها المساهمة مباشرة في تطور الحال العربي وترقيته.. المهم هو استثمار هذه الطاقات في بيئة حاضنة لا طاردة.. بيئة توفر الأمن لكافة الناس.. لا بيئة يكون فيها كاتم الصوت هو الخصم وهو الحكم.[c1]نقلا عن / صحيفة (البيان) الإماراتية [/c]
التنمية العربية .. الإشكاليات والفرص
أخبار متعلقة