أضواء
ظلت “المناصحة” مقصورة على الموقوفين في السجون بتهمة اعتناق الفكر المتشدد. وهدفها تغيير قناعاتهم الناشئة عن بعض التأويلات لبعض النصوص الدينية التي يسوغون بها الأفكار التي يعتقدون والأعمال العنيفة التي ينفذون.وتوحي بعض التقارير بنجاح هذه الحملة في إقناع بعض الموقوفين بخطأ تأويلاتهم وما يقومون به من أعمال العنف مما سمح بخروجهم من السجون لاستئناف حياتهم الطبيعية.وهذه المناصحة مستمرة منذ أربع سنوات تقريبا. لكن ما يلفت النظر أن أعداد معتنقي الفكر المتشدد لا تزال تتزايد في مجتمعنا، على الرغم من الجهود الواضحة التي تُبذل في مكافحته. ويصل بعض معتنقي هذا الفكر إلى الطرف الأقصى فيخرج من المملكة للمشاركة في بعض الفتن الداخلية في بلدان متعددة بحجة “الجهاد” ونصرة المسلمين، ويُقتل أكثرهم في هجمات انتحارية ربما يكونون مرغمين عليها. ويقبع كثير منهم في سجون البلدان المختلفة مهددين بفترات سجن طويلة أو بما هو أسوأ.وظل بعض منهم على مستوى أقل من العنف فلم يَخرج؛ لكن كثيرا من هؤلاء يُفرِغون طاقاتهم الملتهبة في بعض أعمال تصب في مسار العنف، وليس أقلها التشغيب على المناسبات الثقافية والاجتماعية واستخدام أيديهم في تغيير ما يرونه منكرا.ولفت هذا التزايد في أعداد معتنقي هذا الفكر أنظار المسؤولين في وزارة الداخلية مما جعلهم يتحققون من أن الحد من هذا الفكر لا يتطلب “مناصحة” مَن وقع في الشَّرَك فقط؛ بل لابد من تجفيف المنابع الحاضنة التي تغذيه وتنميه وتنشره بين صغار السن خاصة.وكان كثير من الكتّاب والباحثين السعوديين قد أشاروا منذ سنوات إلى بعض تلك المصادر. ومن المصادر التي خُصَّت بالإشارة المدارسُ وبعض النشاطات التي تقام في المساجد وبعض النشاطات في “المخيمات الصيفية”، واستغلال حلقات تحفيظ القرآن الكريم.وتعرض هؤلاء الكتاب والباحثون إلى كثير من اللوم والتشنيع والتهديد ممن يدافعون ـ بحسن نية أو بسوئها ـ عن الممارسات الخطرة التي كانت تنشط في هذه البيئات.لكن ما تفعله وزارة الداخلية ممثلة في “لجان المناصحة” الآن يشهد بصحة موقف أولئك الكتاب والباحثين الذين لم يكونوا يتحدثون من فراغ، بل من معرفة حقيقية بخطر ما كان يمارس من تلك النشاطات التي يحاول المدافعون عنها تبرئتها.ومما يشهد بتحقق وزارة الداخلية من خطر تلك المصادر ما نشرتْه بعض الصحف عن قيام “لجان المناصحة” بنشاطات اجتماعية خارج السجون.لكن كثافة تلك النشاطات تبرهن على أننا لا نزال نعاني من مشكلة التشدد الذي يمكن أن يفضي إلى العنف، إلا أنها تشير كذلك إلى أننا بدأنا نعترف بهذه المشكلة من غير تحفظ.وأشار بعض “المناصِحين” إلى القصور في أداء بعض المسؤولين في مكافحة هذا الفكر. ومن ذلك ما قاله الدكتور عزام الشويعر في محاضرة بعنوان (أمور قد تخفى على المربين والمعلمين) “... أوضح من خلالها الدور الكبير والمهم للمعلم والمربي وذلك من خلال معايشته لحالات الموقوفين، بينت أهمية هذا الدور للمعلم، مستشهداً بكثير من القصص والروايات وأكد على أهمية التصدي لمثل هذه الأفكار والانحرافات الفكرية وإنكارها وعدم المجاملة على حساب الوطن وولاة الأمر والعلماء ومقدرات الوطن».ويؤيد هذا ما أشرتُ إليه في مقال قبل سنوات بعنوان “دعاة لا معلمون” من تحوُّل بعض المعلمين والمعلمات عن واجباتهم التعليمية ليصيروا وعاظا لا همَّ لهم إلا الحديث عن “الجهاد”، والموت، وهو ما يدخل في مفهوم “المنهج الخفي” الذي يعني أن بعض المعلمين والمعلمات ينفِّذون منهجا موازيا للمنهج الذي تقره وزارة التربية والتعليم ينشرون من خلاله كثيرا من الأفكار المتطرفة، بل ربما يصل الأمر إلى دعوة الطلاب إلى الخروج “للجهاد”، ورفْع “الشباب” السعوديين المشاركين في الفتن الخارجية إلى مراتب “الرموز” التي تستولي على إعجاب الطلاب الصغار وتغريهم باتباع طريقهم.ولمناصحة المعلمين والمعلمات هدفان: الأول أن يُقلعوا هم أنفسهم عن الفكر المتشدد، والثاني أن يتوقفوا عن النشاطات الموازية التي كانوا يمارسونها لغرس الأفكار المتشددة في طلابهم. ويمكن لهذا أن يقضي على مصدر مهم من مصادر نشر الأفكار المتشددة.وشارك الدكتور ماجد المرسال بمحاضرة بعنوان (أمور قد تخفى على الخطباء والوعاظ) أشار فيها إلى “... أهمية أن يعي من يتصدر للخطابة أو الدعوة حال المتلقين، فنسبة كبيرة من المتلقين تتأثر بالخطاب المدعم بالآيات والنصوص بدون التفكير أحياناً بمضمونها أو مغزى الخطيب...».ويشير هذا إلى مسؤولية بعض الخطباء عن نشر الأفكار المتشددة، أو عدم قيامهم بواجباتهم في مكافحتها.وشارك الدكتور إبراهيم الميمن بمحاضرة بعنوان (رسالة إلى كل مسؤول)، بيَّن فيها”... خطورة هذه الأفكار على المجتمع وموضحاً أيضاً خطورة التقليل أو التبرير أو التساهل في هذه الانحرافات وأثرها على الوطن والدين وكذلك بين أثر التفاعل والتكامل بين أفراد المجتمع في معالجة ومحاربة الأفكار الهدامة، فالمسؤولية كبيرة ليس على رجل الأمن فحسب بل الأسرة والمدرسة والمسجد ورجال الدعوة وكل مسؤول».وهذا النشاط المحمود مهم لأنه يتضمن اعترافا، طال انتظاره، بالمصادر الحقيقية التي تغذي هذا الفكر وترعاه. ومع ذلك فهناك بعض الملحوظات على المنطلقات التي ينطلق منها بعض المناصِحين التي ربما تعمل على عدم نجاح هذه المناصحات. فعلى الرغم من تأكيد أكثر المناصِحين على الأسباب الداخلية الثقافية والدينية التي تنتج عنها هذه الأفكار، وهي التي بيَّن الدكتور سعيد الوادعي بعضها في قوله إن”... هناك أخطاء واضحة وقع بها شبابنا وسبب ذلك قلة العلم الشرعي وصغر السن وأخذ المعلومة من مصادر مجهولة وغير دقيقة.... و(أن) العديد من أسباب انحراف الشباب مصدرها الشاب نفسه أو الأسرة أو المدرسة أو الخطيب أو الواعظ،...”، إلا أن بعض المناصِحين لا يزالون يكررون الحجج القديمة التي تتمثل في إلقاء اللوم على المؤامرات الخارجية التي استغلت “شبابنا” وغررت بهم، واستغلتهم في مخططاتها. ومن ذلك ما قاله الدكتور محمد بازمول الذي تحدث عن مسؤولية “... الصهيونية العالمية (التي) تتربص بالإسلام”، وما نتج عن ذلك من حرب إعلامية شرسة ضد المسلمين (الرياض، 28/4/1429هـ).ومع أنه لا يمكن أن نأمل خيرا من الصهيونية، فهي في حالة حرب مع المسلمين منذ أكثر من مئة سنة، وهي حريصة على أن تعمل أي شيء يمكن أن يضر بالمسلمين، إلا أن السؤال الصعب الذي يجب أن نواجه به أنفسنا هو: لماذا يسهل وقوع “الشباب” السعوديين في شباك هذا الأخطبوط؟ وإلقاء اللوم على الآخرين سهل جدا، لكنه لا يحل مشكلاتنا، بل يمكن أن يعمي أبصارنا عن الطرق الصحيحة لعلاجها. أما الطريق الصحيح والأقرب لحل مشكلاتنا فهو الاعتراف بشجاعة بأن بعض جوانب ثقافتنا تدفع شبابنا للوقوع في هذه المشكلات، ومن أهمها: “... الشبهات التي يعاني منها الشباب مثل “التكفير” و”الولاء والبراء” وضوابط الجهاد والبيعة والطاعة لولي الأمر، والموالاة، وإخراج المشركين من جزيرة العرب...” التي أشار إليها مدير التوجيه والتوعية في وزارة الداخلية وعضو لجنة المناصحة الدكتور علي النفيسة (الحياة، 5/5/2008م). وهذه مشكلات ثقافية ودينية داخلية بامتياز، ولا علاقة للعوامل الخارجية بها. لكن صعوبة هذا الاعتراف تأتي من أنه يفرض علينا أن ندين أنفسنا أوَّلا، وأن نقوم بجهد كبير لمراجعة ثقافتنا ـ العزيزة علينا ـ التي توجِّه نشاطاتنا وتعليمنا وخطب مساجدنا لكي ننتزع منها أسباب هذا التشدد الذي يقود إلى التطرف، وإلى العنف ضد الآخرين وضد النفس في نهاية المطاف. وهذه مهمة شاقة عمليا ومؤلمة نفسيا، لكن لا مفر من القيام بها إن أردنا العودة إلى سويتنا التي كنا نتمتع بها قبل استفحال هذا الفكر.[c1]- عن / صحيفة “الوطن” السعودية[/c]