[c1] [/c]محمد زكريا في سنة 569هـ / 1173م، زحفت الجيوش الأيوبية على اليمن بقيادة توران شاه الأيوبي أكبر أخوة السلطان الناصر صلاح الدين . وكانت من أوائل المدن التي سقطت بيد الأيوبيين مدينة عدن . والحقيقة أن تلك المدينة كانت دائما الشغل الشاغل في تفكير صلاح الدين الأيوبي المتوفى في سنة ( 589هـ / 1193م) أثناء حروبه مع الصليبيين في فلسطين . فقد كان يعدها الخزانة الضخمة التي تستطيع أن تمول حروبه الضارية ضد الفرنج الصليبيين والتي تتطلب الكثير من الأموال الطائلة من ناحية و كانت عدن تمثل بالنسبة له موقع استراتيجي مهم وخطير في قتاله معهم في مياه البحر الأحمر لكونها المدخل الحقيقي لجنوبه من ناحية والقضاء على بني زريع الذين كانوا من بقايا نفوذ الفاطميين في مصر من ناحية أخرى .[c1]ما أسباب الفتح الأيوبي لليمن ؟[/c]والحقيقة أن الكثير من الأقوال ، والآراء طرحت حول العوامل والأسباب التي دفعت بالسلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي أن يرسل جنوده إلى اليمن . فهناك من يقول أن السلطان صلاح الدين الأيوبي أراد أن تكون اليمن له قاعدة أو عمق استراتيجي في حالة فشله في ترسيخ حكمه في مصر ضد الخلافة الفاطمية . ونرى أن ذلك الرأي أبعد ما يكون عن الصواب والحقيقة . فالسلطان صلاح الدين الأيوبي صارت له قامة سياسية عالية ، ونفوذ قوي راسخ في تربة مصر السياسية قبل وفاة الخليفة العاضد آخر الخلفاء الفاطميين المتوفى سنة ( 567هـ / 1170م ) . ورأي آخر يقول أن صلاح الدين الأيوبي كان يهدف أبعاد أخيه الأكبر توران شاه الذي كان دائما يصرح بأنه الأولى في السلطنة من أخيه صلاح الدين الأيوبي ,[c1] وكانت القضاء على النفوذ الفاطمي[/c]من الطبيعي أن تترامى تلك الأقوال إلى مسامع صلاح الدين . ولكن الحقيقة أن من الأسباب الحقيقية وراء إرسال صلاح الدين الأيوبي جيشا ضخما إلى اليمن هو السيطرة على مواني البحر الأحمر من ناحية والاستفادة من موقع عدن التجاري المهم الذي كان يدر أموالا كبيرة تساعده على تحمل أعباء نفقات الحروب ضد الفرنج الصليبيين ـ كما قلنا سابقا ـ وأيضا القضاء على البقية الباقية من نفوذ الفاطميين في اليمن من خلال القضاء على الصليحيين الذين حكموا اليمن زهاء أكثر من تسعين عاما (439 ـ 532هـ /1047 ـ 1137م) والذي كان حكمهم امتداد للنفوذ الفاطمي في اليمن بسبب العقيدة المذهبية الشيعية الواحدة التي تربطهم ببعض . وربما كان هنا مناسبا أن نقتبس فقرة من أقوال الدكتور سيد مصطفى حول تلك العوامل والأسباب الحقيقية وراء مجيء الأيوبيين إلى اليمن , إذ يقول : " ولا شك في أن امتداد نفوذ الفاطميين إلى اليمن كان من بين العوامل التي شجعت صلاح الدين الأيوبي على إرسال جنوده إلى اليمن ... وكان صلاح الدين يرى في مد نفوذه إلى اليمن تدعيما لمركزه في مصر بعد أن قضى على الدولة الفاطمية وأعلن الخطبة للخليفة العباسي ، كما كان يهمه أن يبقى نفوذ مصر في اليمن والحجاز مثلما كان الأمر في عهد الفاطميين "[c1]ميناء عدن والأيوبيون[/c] . وحول أهمية سيطرة صلاح الدين الأيوبي على موانئ البحر الأحمر من ناحية و الاهتمام بميناء عدن اهتماما كبيرا من ناحية أخرى . يقول سيد مصطفى : " وحتى تستفيد خزائنه من جراء سيطرته على موانئ البحر الأحمر حتى اليمن جنوبا . ومن المعروف أن الأيوبيين قد اهتموا بتنمية ميناء عدن بعد دخولهم إلى اليمن ، فارتفعت إيراداته إلى أربعة أضعاف ما كانت عليه في العهد السابق عليهم ". [c1]اليمن والفوضى السياسية[/c]هناك أيضا عامل مهم دفع بالسلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي بجنوده إلى اليمن وهو أنها كانت تعيش في حالة من الفوضى والاضطراب السياسي ، وذلك بعد سقوط الدولة الصليحية مما أدى إلى حدوث فراغ سياسي خطير في المنطقة , وأطلت الصراعات بين القوى المحلية ، وتمزق عقد اليمن , وصار كل أمير أو حاكم يحكم إمارة أو ومنطقة أو مدينة . ويرسم لنا الدكتور محمد الشمري صورة مأساوية عما كانت عليه اليمن بعد غياب الدولة الصليحية عن مسرح اليمن السياسي ، قائلا : " تفرق شمل بلاد اليمن وتجزأت إلى دويلات وإمارات متناحرة . فكانت عدن وأبين وتعز ومخلاف الجند لبني زريع ، وصنعاء وبلاد الظاهر حتى بلاد الأهنوم في حاشد للسلطان علي بن حاتم الهمداني ... وبلاد زبيد وأطرافها إلى حدود حرض لعبد النبي بن علي بن مهدي . وكانت صعدة والجوف بيد الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان ، والمخلاف السليماني بيد الشريف غانم بن يحيي بن وهاس ، وشهارة وما يليها لبني القاسم العياني ، وكانت ذمار ومخاليفها لسلاطين جنب ومشايخها , وقد تميزت العلاقات بين معظم تلك الدويلات والإمارات بكونها متوترة وعدائية ... " [c1]الأيوبيون والمقاومة[/c] . وعلى الرغم أن اليمن كانت تضربها الفوضى والقلاقل من جراء التناحر بين حكامها المحليين ، وتمزق نسيج الوحدة السياسية إلا أنه عندما دخل الأيوبيون اليمن فقد واجهات معارضة قوية من العناصر اليمنية الأصيلة ضدهم لأن طبيعتها تنفر من العناصر الغريبة عنهم . فقد كان جل الجنود الأيوبيين من الأكراد ، والترك والذي كان يطلق عليهم أهل اليمن على الأخيرين بـ ( الغز ) .[c1]سياسة السلاطين الأيوبيين [/c]وكيفما كان الأمر ، فإن تلك العوامل مجتمعة دفعت بالسلطان الناصر صلاح الدين أن يرسل بجنوده إلى اليمن بقيادة أكبر أخوته توران شاه ـ كما مر بنا سابقا ـ .والحقيقة ان علاقة السلاطين الأيوبيين في اليمن بصفة عامة وعدن بصفة خاصة كانت علاقة سيئة أو بعبارة أخرى كان هؤلاء السلاطين بعيدين عن قضايا اليمنيين المختلفة وخاصة فيما يتعلق بحياتهم المعيشية أو بمعنى أخر كان هناك جسورا مقطوعة بينهم وبين الناس . فإذا أطلعنا على أعمال توران شاه أو أخيه طغتكين الأيوبي المتوفى سنة ( 593هـ / 1196م ) ، والسلطان المسعود المتوفى وأيضا على أعمال نوابهم على المدن اليمنية مثل عدن وغيرها فإن المرء يشعر أن هؤلاء الحكام كانوا بعيدين كل البعد عن اليمنيين , وكان شاغلهم الشاغل هو البحث عن (الأحمر ، والأبيض) أي عن الذهب والفضة ليملئوا خزائنهم الخاصة بهم ومن جراء ذلك فرضوا على اليمنيين الضرائب ، الجباية والإتاوات دون النظر إلى أوضاعهم الاقتصادية واستخدموا في ذلك أساليب عنيفة وقاسية . قلنا سابقا أن عدن كانت من أوائل المدن التي بسطت الدولة الأيوبية سيادتها عليها لكونها ميناء هام يدر أموال ضخمة من ناحية وأن بنو زريع كانوا يحكمونها قرابة أكثر من خمسين عاما ( 532 ـ 569هـ / 1137 ـ 1173م) , وكانوا يحملون لواء الدعوة الفاطمية الشيعية في مصر من ناحية وعلى وجه التحديد في الأيام الأخيرة من حياة الخلافة الفاطمية . [c1]عدن والأمير عثمان الزنجيلي[/c]وكان من الطبيعي بعد أن قضى السلطان توران شاه على بني زريع في عدن قضاء مبرما كان على عليه أن يختار حاكما يتحلى بالقوة ، والشجاعة والإقدام وكان ذلك النائب على عدن هو الأمير عثمان الزنجيلي المتوفى سنة ( 583هـ / 1188م ) . والحقيقة أن صفاته تلك ستدفعه أن يستقل بحكم عدن , ويمد بصره إلى مناطق أخرى من اليمن مثل الجند وغيرها . والحقيقة لقد اتسمت أعماله بالقسوة والبطش ضد خصومه أو المعارضين لحكم الأيوبيين في حضرموت والتي كانت من توابع عدن أي أنها تحت سيطرته حيث أعمل السيف في الفقهاء ، والعلماء في مدينة تريم وفي هذا يقول المؤرخ بامخرمة : " ... فقتل عالم عظيم من فقهائها وقرائها " . ولقد وصفه المؤرخ الجندي بأنه كان حاكما يسعى فسادا في الأرض. وفي رواية أخرى ، يصفه قائلا : " فظاهر أفعاله الفسق الشنيع ... " . وكان من الطبيعي أن تعيش عدن وأهلها في ظلال حكمه في أوضاع غاية في الصعوبة أو بمعنى آخر أن تذوق العذاب الغليظ . وخاصة عندما توفى توران شاه حيث أستقل بحكم عدن ، وضرب السكة باسمه , وخطب باسمه على مساجد المنابر . ويشرح المؤرخ بامخرمة المتوفى سنة ( 947هـ/1540م ) الأسباب التي دعت نواب السلطان توران شاه في اليمن الاستقلال أو الانسلاخ عن نفوذ الدولة الأيوبية ومن بينهم صاحب عدن الأمير عثمان الزنجيلي , بقوله : " ولما رجع المعظم ( يقصد السلطان توران شاه ) من اليمن إلى الديار المصرية في شهر رجب 571هـ استناب في اليمن نوابا منهم الأمير عثمان ... على عدن ... وكان النواب يحملون خراج جهاتهم إلى المعظم بالشام ، فلما طالت غيبته وتوفى بالشام ... قطعوا الإتاوة التي كانوا يرسلونها كل سنة ثم ضرب كل واحد منهم سكة باسمه ومنع رعيته المعاملة بغيرها , وذكر اسمه على المنابر " . والحقيقة أن ما قاله المؤرخ بامخرمة يجعلنا نقف على بعض القضايا الاقتصادية وهي العملة أو المسكوكات وفي واقع الأمر لا نعلم علم اليقين ما هي العملة أو النقود التي ضربت في عدن وما جودة نقاءها ؟. وهل هي عملة محلية أو عملة أيوبية كانت متداولة بين الناس في الأمصار العربية والإسلامية مثل مصر ، والشام . وهذا يحتاج من المختصين في المسكوكات أن يمدوننا بمعلومات حول تلك الأمور , ومما لا شك فيه أن البحث في ذلك الجانب سيتمخض عنه نتائج قيمة ومثيرة ، وممتعة . والحقيقة أن الأمير عثمان الزنجيلي صاحب عدن الذي استقل بحكمها عن الأيوبيين عندما هرب من عدن كان يحمل أموالا طائلة ، وأقمشة وشحنهم في السفن ، ونستدل من تلك الرواية التاريخية أنه من المؤكد أنه أذاق عدن وأهلها ألوانا من العذاب والشقاء الغليظين ولم يهتم بأحوال المدينة ، وإنما اهتم في كيفية جمع القناطير المقنطرة من الذهب والفضى بمختلف الوسائل المشروعة وغير المشروعة .[c1]شق عصا الطاعة[/c]والحقيقة أن من الأسباب الحقيقية التي تكمن وراء انفصال نواب أو ولاة الأيوبيين في اليمن عن الدولة الأيوبية بأنه بسبب وفاة توران شاه ـ على حسب قول بامخرمة ـ . ولكن أيضا هناك مسألة أخرى لم يذكرها وهي أن تضاريس اليمن الطبيعة الوعرة والصعبة بجبالها ، ووديانها ، وهضابها من ناحية وبعدها عن مقر الحكم الأيوبي كانت من ضمن العوامل التي شجعتهم أن يخرجوا من جلد الأيوبيين . وأيضا من الأسباب التي شجعت هؤلاء النواب أن ينفردوا بحكم إماراتهم هو أن الدولة الأيوبية لم تتابع عما كان يحدث على أرض اليمن السياسي أو بعبارة أخرى أن الدولة المركزية الأيوبية في مصر قطعت جسورها بينها وبين نوابها في اليمن . ويبدو أن ذلك يعود إلى انشغالها في الحروب الصليبية التي كانت تدور في البر والبحر في فلسطين من ناحية وصراع الأيوبيين الداخلية فيما بينهم من ناحية أخرى . ويضيف الدكتور محمد كريم الشمري في توضيح سبب أو أسباب انفصال النواب الأيوبيين في اليمن أو العوامل التي شجعت أن ينفردوا بحكم إماراتهم وأن، ويشقوا عصا الطاعة في وجه الدولة الأيوبية , فيقول : " ... ويرجع سبب ذلك إلى عدم وصول المسؤولين الأيوبيين إلى اليمن ، لتفقد أحوالها والإطلاع على مشكلاتها " .[c1]نواب عدن [/c]والحقيقة أن نواب عدن من قبل الأيوبيين أتسمت سيرتهم ، وأعمالهم فيها بالغموض والضبابية ولم نعلم على وجه اليقين سوى أسمائهم على سبيل المثال نائب عدن الجديد الأمير عين الزمان في عهد السلطان طغتكين الأيوبي الذي عينه بدلا من الأمير عثمان الزنجيلي الذي هرب إلى الشام خوفا من قبضته . وهذا الأمير الجديد عين الزمان لم تورد عنه المصادر التاريخية اليمنية أو المؤرخين المعاصرين من قريب أو بعيد عن سيرته في عدن هل سار سيرة حسنة في أهلها . وما هي بصماته في وجه تاريخ المدينة . وكل الذي نعرفه أنه عين نائبا عن السلطان طغتكين الأيوبي . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور محمد الشمري : " أصبحت مدينة عدن تحت سيطرة السلطان سيف الإسلام طغتكين بن أيوب ، فعين واليا عليها ابن عين الزمان سنة 579هـ / 1183م ، غير أن معلوماتنا عنه تكاد تكون مجهولة تماما ، ولم تسعفنا المصادر بمعلومات توضح لنا حياته ، أو أعماله في عدن أثناء توليه إمارتها ". ولقد وصل الأمر ، بأن اضطربت المصادر التاريخية في عزل الأمير عين زمان ، فهناك رواية تقول أن عين الزمان عزل من منصبه في حكم عدن ولكنها لم تورد أسباب ذلك العزل ، بل أن تاريخ عزله يلفه الضبابية . ولقد ذكر مؤرخان متأخران عن تاريخ عزله إذ يقولان أنه عزل في سنة ( 585هـ / 1189م ) , ولكن لم يوضحان المصادر التي استقيا منها تلك المعلومة . ولقد تعاقب على حكمها عدد من النواب أو الولاة على سبيل المثال الأمير شجاع الدين مهكار بن محمود ، والشريف مرعش وغيرهما كثير ولم توضح المصادر التاريخية بصورة مفصلة عن أعمالهما في عدن . [c1] تورا ن شاه في اليمن[/c]ولقد مر بنا أن من أحدى الأسباب التي دفعت بالسلطان الناصر صلاح الدين إرسال جيشه إلى اليمن هو التخلص من أخيه الأكبر توران شاه الذي كان يقول أنه أولى بالسلطنة من أخيه صلاح الدين , وقلنا سابقا أن تلك الأقوال كانت تترامى إلى مسامع الأخير ، ومن أجل أن يغري أخيه الأكبر توران شاه إلى الرحيل إلى اليمن . فقد جعل اليمن خراجها له إلى جانب منحه الكثير من الأراضي الخصبة في مصر . وفي هذا يقول الدكتور محمد كريم : " طموح توران شاه في التوسع واعتبار اليمن إقطاعا له يجبي أموالها ويصرفها على رغباته الخاصة ، كما كنت مدينة قوص إقطاعا له في مصر. رغبة السلطان صلاح الدين في التخلص من توران شاه ، أو إبعاده عن مصر ". [c1]سياسته القاسية[/c]ونستدل من ذلك أن السلطان توران شاه وضع نصب عينيه سياسة في اليمن تقوم على جمع الضرائب ، والإتاوات ، والجباية . وتلك السياسة الاقتصادية من ثم ستكون عواقبها وخيمة على اليمن واليمنيين حيث استعملت القوة والظلم والجور في نزع الأموال من الناس حتى تفي بأطماع السلطان الكردي توران شاه الخاصة والذي يعد بعيدا كل البعد عن همومهم , ومتطلباتهم الحياتية الضرورية . وكان هم السلطان الكردي هو القضاء على خصوم الدولة الأيوبية بشتى الوسائل المشروعة وغير المشروعة ونقصد بهم الصليحيين في جبلة وتوابعها . وعدن مركز بنو زريع , وبعض القوى المحلية مثل بنو مهدي والذين كان مقر حكمهم مدينة زبيد . فكان ذلك القتال المستمر على أرض اليمن لا بد أن يلقي بظله الثقيل على حياة الناس المعيشية والاقتصادية . وان القتل والسجن والتشريد كان اللغة السائدة في عهد السلطان الكردي توران شاه المعروف بقسوة وبطشه . وكان لا بد أن يترسم نوابه في اليمن خطاه في قتال المتمردين والمعارضين لسياسة القمع بصورة بشعة . وهذا ما حدث مع الأمير عثمان الزنجيلي الذي أسرف في قتل العلماء , والفقهاء ، والقراء في حضرموت وخصوصا في مدينة العلم والعلماء تريم في سنة ( 575هـ 1179م ) وذلك في عهد السلطان توران شاه . ويقول الدكتور محمد كريم في هذا : " ذكر المؤرخون أن عثمان الزنجيلي أخضع حضرموت لسلطته بعد مقاومة شديدة من قبل سكانها ، فقام في تلك الغزوة بقتل عدد كبير من الفقهاء والعلماء خاصة في مدينة تريم " . وكان من البديهي أن يسخط عليه المؤرخون الحضارمة سخطا شديدا ويصفوه بأوصاف قاسية . وهذا المؤرخ الحامد يصفه بأنه كان رجلا قاسيا سفاكا للدماء " . والحقيقة أن من الأسباب التي جعلت ألأمير عثمان الزنجيلي هو الذي يقود حملة على حضرموت هو أنها كانت تابعة لعدن أي أن حضرموت كانت تحت ضمن حكمه ـ كما قلنا سابقا ـ. [c1]توران شاه يغادر اليمن[/c]وكيفما كان الأمر ، فقد استطاع السلطان توران شاه أن يبسط نفوذ الدولة الأيوبية في مختلف مناطق اليمن . وفي هذا يقول محمد الشمري : " ذكر المؤرخون أن توران شاه استطاع السيطرة على بلاد اليمن ، وفتح معظم حصون وقلاعها , ونشر الأمن فيها ". وحول بقاءه في اليمن ، يقول الشمري : " وقد مكث في اليمن مدة عام ، لكنه لم يستطبها فاشتاق إلى مصر " . فطلب من السلطان صلاح الدين أن يستأذن له بمغادرة اليمن , وأذن له السلطان بذلك " فلما استتبت الأمور وعاد السلطان صلاح الدين إلى مصر ، أناب توران شاه على دمشق وأعمالها في بلاد الشام ". ولكن هناك رواية أخرى تقول أن السلطان صلاح الدين هو الذي شجع أخيه الأكبر توران شاه على مغادرة اليمن والتوجه إلى الشام وتسلم مقاليد الأمور فيها وذلك من خلال ما بعثه من رسالة إلى توران شاه يخبره فيها أن السلطان محمود أبن زنكي صاحب الشام ، قد مات , وأنه استولى على مملكة الشام . ويبدو أن السلطان صلاح الدين كان يرى في أخيه الأكبر توران شاه القدرة على ضبط الأمور في الشام وخصوصا دمشق . ولقد صفه بامخرمة ، قائلا : " كان ملكا ضخما ، شجاعا ، شهما فارسا ... " فتلك السجايا كانت من الأشياء التي زكته أن يكون نائبا على الشام . وعاد بعدها مؤسس الدولة الأيوبية صلاح الدين الأيوبي إلى مقر حكمه في مصر . وعلى أية حال غادر توران شاه اليمن في سنة (571 هـ / 1176م ).[c1]عدن وتوران شاه[/c]والحقيقة أنه بعد أن دخول السلطان توران شاه اليمن ـ كما مر بنا سابقا ـ فإنه أول الأعمال التي قام بها هي السيطرة على عدن ، " وحدد بعض المؤرخين دخول تروان شاه عدن يوم الجمعة 20 ذي القعدة سنة 569 هـ / 1173م . وقد تمت السيطرة عليها بعد هزيمة أميرها ياسر بن بلال ـ وهو أحد أتباع بني زريع ـ الذي هزم بعد انكساره وعدم قدرته على مقاومة الجيش الأيوبي ، وقام جنده بنهب مدينة عدن وما فيها ". وبعد أن استقرت الأمور في عدن للسلطان توران شاه . يقول بامخرمة بأن شاعر عدن أبوبكر بن أحمد العيدي مدحه بقصيدة طويلة على نصره المظفر على أعدائه في اليمن , وكيف دخل عدن دخول الفاتحين ، وإكليل النصر يزين رأسه ومنها ذلك البيت , إذ يقول : " " وسمت إلى عدن عزائمك التي *** صدقت وعيدا في الورى ووعودا " .[c1]مراحل الأيوبيين في اليمن[/c]وفي الحقيقة أن السلطان توران شاه على الرغم من بقائه عام في اليمن استطاع أن يرفع لواء الدولة الأيوبية في طول وعرض اليمن وذلك بفضل خبرته وحنكته السياسية والعسكرية من ناحية وضخامة الجيش الذي معه من ناحية ثانية وتمزق اليمن إلى وحدات سياسية هزيلة من ناحية أخرى . ونستطيع أن نطلق على تلك المرحلة مرحلة تأسيس الدولة الأيوبية في اليمن التي استمرت زهاء أكثر من خمسين عاما, وتعد تلك المرحلة من أصعب المراحل الأخرى في حياة الأيوبيين في اليمن , ولكن سجايا وصفات السلطان توران شاه التي حملت القوة ، الشجاعة ، الإقدام و الفروسية تمكن ـ كما قلنا سابقا ـ أن يؤسس الدولة الأيوبية في اليمن ( 569هـ ـ 627هـ / 1173 ـ 1229م ) . وأما المرحلة التالية فهي مرحلة ترسيخ جذور الدولة الأيوبية في اليمن وذلك في عهد السلطان طغتكين الأيوبي الذي حكم اليمن زهاء أكثر من أربعة عشر عاما والذي وصلها في سنة ( 579 هـ / 1183م ) . وصفه المؤرخ بامخرمة بأنه " كان ملكا شهما ، شجاعا ، أديبا لبيبا ، عاقلا أريبا حازما عازما . بعثه أخوه الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب الديار المصرية إلى اليمن في ألف فارس , وخمسمائة راجل " . كل تلك الصفات أهلته أن ينشر النفوذ الأيوبي ويرسخ جذوره في تربة اليمن السياسي .[c1]أفول نجم الأيوبيين [/c] وأما المرحلة الأخيرة فهي مرحلة تدهور السيطرة السياسية الأيوبية أو بعبارة أخرى أفول نجم الدولة الأيوبية عن سماء اليمن السياسي وذلك بعد وفاة السلطان طغتكين في سنة ( 593 هـ / 1196م ) . وتولى من بعده ابنه المعز إسماعيل طغتكين والذي كان بعيدا كل البعد عن سجايا وصفات والده . فقد كانت شخصية متناقضة و قيل أن عقله قد مسه الجنون فيرسم بامخرمة صورة له ظلالها الطيش ، والعنف ، وألوانها البذخ المفرط والسفيه , وعدم المبالاة بأمور الحكم , وعواقب الأمور ، فيقول : " فارسا شجاعا جوادا على الشعراء وأهل اللهو ... ووهب وذهب في الجود كل مذهب ... كان سفاكا للدماء سريع البطش شديد العقوبة ، شاعرا فصيحا متأدبا " . ويمضي في حديثه ، قائلا : " خولط في عقله فادعى أنه قرشي النسب وخوطب بأمير المؤمنين ... وطال ظلمه للرعية ، ومنع الجند أرزاقهم ، وصرفها للمساخر والشعراء " وكان من الطبيعي أن يخرج ذلك الملك المستهتر عن مسرح الحكم بصورة درامية مأساوية . فقد قتل على يد جنود من الأكراد في سنة ( 598هـ / 1201م) أي أنه جلس على سرير الحكم تقريبا خمسة سنوات . ولكنها كانت خمسة سنوات عجاف لليمن وأهلها ومن بينها عدن الذي تولى حكمها نائبه المعتمد التكريتي , ولكننا لم نعثر على معطيات توضح لنا سيرته في عدن ـ وكما قلنا سابقا ـ أن تاريخ ولاة عدن في عهد الأيوبيين يلفه حجب كثيفة من الغموض . وتروي الروايات التاريخية أن عدن وقعت بيد الأتابك سنقر بعد مقتل المعز بن طغتكين الذي كان الحاكم الفعلي في اليمن حيث كان وصيا على أخوه الملك الناصر أيوب ، وكان صغير السن , وقيل أن الأتابك سنقر هذا كان ظالما للرعية في عدن . وتوفى سنة ( 608 هـ / 1211م ) وقيل مات مقتولا . ولقد اضطربت الأوضاع السياسية في اليمن اضطرابا شديدا بعد وفاة الأتابك سنقر مما أنعكس ذلك سلبا على الحياة الاقتصادية في عدن . ويقول الدكتور محمد الشمري حول تولية الملك المسعود حكم اليمن بعد الاضطرابات السياسية التي سادت اليمن ـ كما مر بنا سابقا ـ أنه وصل إلى اليمن في سنة (611هـ / 1214م ) وذلك لإخماد الفتن والقلاقل التي أطلت برأسها في كل مكان من اليمن . [c1]الملك المسعود[/c]ولكن في حقيقة الأمر ، أن الملك المسعود الشاب الذي لم يتجاوز من العمر السابعة والعشرين عاما كانت شخصيته لا تأهله في نشر الأمن والأمان , وأعادت هيبة الدولة الأيوبية مرة أخرى في اليمن مثلما كان في عهد السلطان توران شاه أو طغتكين الأيوبي . ومثال ذلك عندما تأهب للرحيل إلى اليمن ، فقد أنفق على حملته تلك أموال طائلة حتى أن والده السلطان الكامل محمد أستكثر تلك الأموال الضخمة التي أنفقها على رحلته إلى اليمن . وهذا دليل بأن الملك المسعود لم يتحل بالعزم والإرادة والصلابة في مواجهة الصعاب التي ستقابله في اليمن . وأعتبرها نزهة سرعان ما يقضي على خصوم ، وأعداء الدولة الأيوبية . ولكن وجد الأمر غير ذلك وبدلا أن يواجه المشاكل مواجهة مباشرة ، أحالها على نوابه وقادته في اليمن . بل أن الملك المسعود كان يلح على والده في أثناء حكمه على اليمن إلى العودة إلى مصر حيث " أكثر من الشكوى من أن اليمن لم توافقه لأنها لم تقم بحاله فعرض عليه والده دمشق بعد أن توفى صاحبها الملك المعظم عيسى بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب فسر بذلك سرورا عظيما ". [c1]عدن ونور الدين الرسولي[/c]والحقيقة أن عدن أصابها الظلم والجور في عهد الملك المسعود مثلها مثل سائر مدن اليمن الذي لم يلتفت إلى مصالح الناس وترك شئون الحكم إلى نوابه وقادته ـ كما مر بنا سابقا ـ يلعبون بمقادير البلاد وأهلها . ولقد ترك لنائبه على اليمن قبل مغادرته مصر في سنة 620هـ / 1223م ، نور الدين عمر بن علي بن رسول المتوفى سنة ( 647هـ /1250م ) ـ مؤسس الدولة الرسولية ـ مقاليد الحكم يتصرف فيها كيفما يشاء . ولقد ذكر المؤرخون أن نور الدين عمر هذا عندما استولى على عدن في سنة ( 624هـ / 1226م ) " استخدم القوة في معاملة من كان بها من غريب وقريب ، قوي ، وضعيف ، رجل ، وامرأة حرة ، ومفسودة ( هكذا ) ، وتجلى ظلم الأمير نور الدين وعسفه في تلاعبه بأسعار الكثير من البضائع والمنتجات الواردة إلى عدن والصادرة منها ، والحق بالتجار وأصحاب المصالح الاقتصادية أضرارا بالغة ، ووصل التعسف حدا لا يطاق من التلاعب بالأوزان وضمان معظم مصالح السكان الحيوية من قبل الدولة ، إلى أشخاص ضامنين منها لقاء أجور يدفعونها ثم يستوفونها من السكان بفرض الأجور العالية وتحميلهم الأعباء الباهضة ( الباهظة) ، مما أدى إلى تدهور أحوالهم المعيشية وتعرضهم لأنواع الظلم والتعسف". ويسدل الستار عن تاريخ الدولة الأيوبية في اليمن بوفاة الملك المسعود سنة 626هـ/ 1228م والذي أمتد حكمها أكثر من خمسين عاما ( 569 ـ 627هـ / 1173ـ 1229م ). لينفرج الستار عن مشهد جديد في أحداث اليمن وثغرها عدن المحروس باستقلال الملك المنصور عمر بن علي بن رسول في حكم اليمن عن الدولة الأيوبية في مصر والذي استمرت حكمها قرابة أكثر من مائتي عام . [c1]ما أسباب السقوط ؟[/c]والحقيقة أنه من الأسباب الرئيسة وراء أفول نجم الدولة الأيوبية في سماء اليمن السياسي يعود إلى مسألة هامة لم يذكرها المؤرخين وهي أنه بوفاة السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي في سنة ( 589هـ / 1193م ) والتي كانت بمثابة إرهاصا إلى جنوح الدولة الأيوبية عن سماء مصر والعالم العربي والإسلامي , ويقول الدكتور قاسم عبده قاسم في تلك المسألة : " بوفاة صلاح الدين حدث فراغ سياسي وعسكري على الجانب الإسلامي ؛ إذ إن خلفاءه جاءوا على غير شاكلته ، وتفسخت دولته عقب وفاته مباشرة وتنازع أجزاءها ورثته من أبناء البيت الأيوبي". فكانت الصراعات الدامية الداخلية بين البيت الأيوبي نفسه من ناحية وسلاطين أيوبيين ضعاف لم يكونوا بطموح السلطان صلاح الدين الأيوبي ورباطة جأشه وحكمته وحنكته في الشئون السياسية والعسكرية , وقامته السياسية تولوا من بعده مقاليد حكم السلطنة الأيوبية من ناحية ثانية مما كان لها تداعياتها الخطيرة في أفول الأيوبيين في اليمن . فعندما كانت هناك شخصية قوية حازمة ممسكة بزمام أمور حكم الدولة الأيوبية في مصر مثل السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي . كانت هيبة الدولة الأيوبية تفرض على المناوئين لها أن يتواروا عن الأبصار , وأن تخضع لها العباد والبلاد . وعندما رحلت تلك الشخصية القوية صلاح الدين الأيوبي عن مسرح الوطن العربي والإسلامي السياسي ـ كما قلنا سابقا ـ لم يستطيع خلفاءه مثل أبناءه أو أخيه السلطان العادل محمد المتوفى سنة ( 615هـ / 1218م) أو السلطان الكامل محمد المتوفى سنة ( 635هـ / 1239م ) أن يبلغوا قامته السياسية , ويواصلون جهادهم ضد الفرنج الصليبيين . وفي عهدهم اندلعت الحروب الأيوبية ـ الأيوبية مما أفقد الدولة الأيوبية هيبتها وتوازنها أمام المتحفزين للانسلاخ عن جسد ها . وهذا ما ألقى بظله على اليمن المترامية الأطراف ذي التضاريس الطبيعة الوعرة ، فسعى الحكام المحليين أو العناصر اليمنية الأصيلة إلى التحرك ضد الأيوبيين مثلما حدث في حضرموت وغيرها كثير من مناطق اليمن . بل أن نواب الأيوبيين في عدن , و زبيد ، طمعوا بالاستقلال عن الدولة الأيوبية وذلك بسبب انشغالهم بمحاربة الصليبيين من ناحية وخصومهم الأيوبيين من ناحية أخرى وكان من الطبيعي أن تنقطع جسور الاتصال بين نوابهم في اليمن وبينهم أو بمعنى آخر بين الأطراف والمركز . وفي هذا الصدد يقول الدكتور محمد الشمري :" ... أن تمرد نواب الأيوبيين في اليمن يعود إلى عوامل عده ، منها : وفاة السلطان توران شاه ، فشعروا وكأن ارتباطهم بالدولة الأيوبية قد انتهى ، ذلك لأنه هو الذي عينهم نوابا من قبله ، وتأصلت تلك الفكرة ، بسبب عدم إرسال الأيوبيين من يتفقد أحوال اليمن بعد مغادرة توران شاه لها ثم وفاته ، إضافة إلى غرور هؤلاء النواب وطمعهم في الاستحواذ على المناطق الخاضعة لسيطرتهم وجباية الأموال الطائلة منها لتحقيق مآربهم الخاصة , وبصفتهم رجال حرب لا رجال إدارة ودولة ؛ وطمعوا في الاستقلال والانفصال كل في جهته " . ويضيف قائلا : " فخطب لهم على المنابر ، وتشبهوا بالخلفاء والسلاطين ، مما أثار روح الحسد والمنافسة فيما بينهم ، وتطورت إلى إثارة مشكلات وحروب ، سببت الويلات والكوارث في البلاد بسبب ما نجم عن تلك الحروب من خراب ودمار ، وقتل ، ونهب ، مما أدى إلى تفكك البلاد داخليا وانقسامها وضعفها ".[c1]الهوامــــــــش [/c]الدكتور محمد كريم إبراهيم الشمري ؛ عدن دراسة في أحوالها السياسية والاقتصادية 476 ـ 627 هـ / 1083 ـ 1229 م ، الطبعة الثانية 2004م جامعة عدن للطباعة والنشر ، الجمهورية اليمنية ـ عدن ـ . الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ الفتح العثماني الأول لليمن 1538 ـ 1635 م ، سنة الطبع 1969م ، معهد البحوث والدراسات العربية ـ جامعة الدول العربية ـ مصر. بامخرمة ؛ تاريخ ثغر عدن ، الجزء الأول ، الطبعة الثانية 1407 هـ / 1986م، شركة دار التنوير للطباعة والنشر ، بيروت ـ لبنان ـ دكتور قاسم عبده قاسم ؛ في تاريخ الأيوبيين والمماليك ، طبعة سنة 2003 م , الناشر : عين الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية جمهورية مصر العربية.
صورة نادرة لمدينة كريتر في الماضي