نماذج بشرية من القرآن الكريم
كان أكرم خلق الله في وقته موسى بن عمران عليه السلام، أما أخس خلقه وأذلهم في حكمه وأكثرهم ضلالاً وأشدهم كفراً فكان فرعون، وكان على شاكلته ممن انتظم معه في سلك الغرور، وتزيين الشر والفساد هامان وزيره، وقارون الذي نافق بعد إيمان، وضل بعد أن أضاء له نور الهداية، ولكونهم رؤوس الضلال قرنهم الله في قوله من سورة غافر : (ولقد ارسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب) بعث الله أخص عباده إلى أخس عباده رحمةً من سبحانه فقوبل الرسول الكريم بالتكذيب والنسبة إلى السحر، ووجد منهم الصد والغلظة والحسد وسوء الأدب.. وجاءت قصة ضلال قارون وفتنته في سورة القصص، بعد قصته ادعاء فرعون الانفراد بالإلهية، فزاد في ضلاله على عبدة الاصنام الذين جعلوا أصنامهم شركاء وقال لهامان : (فاجعل لي صرحاً لعلي أطلع إلى إله موسى)، فزاد في طغيانه من شايعه على كفره. أما هامان فهو بطانة السوء، ومزين الشر، وأداة الفساد، واشترك مع فرعون في الغلظة والقسوة، وحب الباطل، وشاركهم قارون في الاقبال على متاع الحياة الدنيا.. إن فرعون لم تعصمه من النكال جنوده ولا أمواله، ولم ينفع قارون أعوانه، ولا كنوزه، لأن ستار الغفلة غطى على البصيرة، وأعمى القلب فلم يهتد بنور الحق. لعب الشيطان بفؤاد قارون وعقله، فلم يلتجئ إلى ربه يستعينه، ويستعيذ به، ولكنه أجاب نداء حب الدنيا في وجدانه فأخرجه اللعين من عزلة العابدين الزهاد إلى جلبه شوق الغافلين، وكلما أزداد كسباً، ازداد حرصاً وإقبالاً على هذه السوق، وصارت كثرة ماله سبب هلاكه، ولم يتخذها سلماً لسعادة روحه، ونجاة مهجته، وخلاص نفسه من عذاب الأبد. (إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة). وهذا بيان لكثرة أمواله وخزائنه. فالعاقل الحكيم يستعمل نعم الله في طاعة الله، ويستخدمها فيما هيئت لأجله لتظهر فائدتها، وتتم حكمتها. لذا قال أهل الحكمة : كل نعمة لا تقرب من الله فهي بلية، لذا نصحوا قارون بان يطيع الله ويعبده كما أنعم عليه وأن يصل المساكين ببره ويحسن إلى عباد الله بالتواضع والرفق والمواساة، فقالوا : ( وأحسن كما أحسن الله إليك) وهي عبارة تنبه قلب المتأمل إلى معانٍ جميلة. وقالوا له : (ولا تبغ الفساد في الأرض) إذ إن الساعي في الفساد لا يكون محسناً (إن الله لا يحب المفسدين) لسوء أفعالهم، بل يحب المصلين النافعين. درر غالية من النصائح العالية. لكنها وجدت من قارون قلباً مغلقاً وآذاناً صماء، وفاجأ أولي البصائر من قومه بجواب المغرورين الهالكين من قبله (قال إنما أوتيته على علم عندي). إنه الغباء وضآلة النفس وعمى القلب، ولو كان المال والولد مما يدل على فضل وخصوصية لما أهلك الله عز وجل عاداً وثمود وغيرهما من الأمم التي ملكت المال والقدرة المادية والعقلية مع بسطة الأجسام وسعة النفوذ، ولذا جاء التقريع لقارون الذي قرأ التوراة وكان كحمار يحمل أسفارا فلم تنفعه عبرها. لقد كان خروجه خروج المباهين الفخورين المختالين المظهرين للنعمة على وجه البطر والكبرِ والترفع، فكانت عاقبة طغيانه وانصرافه عن شكر الله على نعمته، أن انزل الله عنه لباس النعمة، وأذاقه وبال أمره، فخسف به وبداره الأرض، وذهب وكنوزه وأعوانه ورياشه إلى حيث لا يعلم إلا الله، ولم يجد معيناً ولا نصيراً (فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين) .* فريد محسن علي