هند . . .
كمال محمود علي اليماني كنت قد قلت لكم حين تناولت رواية القاصة الصاعدة بتألق هند هيثم (حرب الخشب) إن هنداً قادمة فافسحوا لها الطريق، وهاأنذا اليوم قد انتهيت قبل ساعات من قراءة رواية جديدة لها. وهي الرواية التي اختارت لها هند عنواناً صوفياً فأسمتها (الأنس والوحشة) لفظتان متنافرتان في معناهما، متلازمتان في تاريخنا العربي القريب والبعيد.الجو الصوفي الذي يحيط بالرواية يقابلك من الوهلة الأولى حالما تلامس عيناك صفحة الغلاف ثم هذه الابواب التي تقودك خلال الرواية فـ (باب التيه) الى (باب ارتحال في السديم) ثم (باب مؤتلف في مخاتلة الوجود) . ولماذا الانس والوحشة؟.. لماذا لم تختر هند لروايتها اسما آخر؟ .. الجواب يأتيك في ثنايا الرواية وتتلمس يداك المفتاح في ص 106 تحديداً حيث تقرأ " وحتى تهديدات ابي جعفر المنصور للناس بألا يخرجوا من انس الطاعة الى وحشة المعصية" . هكذا ارتسمت حياتنا العربية تاريخاً وحاضراً ـ في مخيلة الروائية هنا، وهي تونس بين حالتين اثنتين لا ثالث لهما .. فلا خيار وسط بينهما ، فإما ان تطأطئ رأسك للملك (كرديف للسلطة) اوان تطأطئه للمقصلة.اما اذا دار في خلدك سؤال عن ماهية العلاقة بين الجو الصوفي والرواية وهو سؤال منطقي ولا شك فإني أرى ان هنداً قد اختارت ان ترصع روايتها بتلكم الجواهر واللآلئ لتضفي على الرواية ذلكم الجو المتجانس مع ما يمكن ان تحمله الرواية من فنتازيا، ومن تلاق للارواح الحاضرة بالماضية وبعثها في أحداث جديدة بعد فنائها.ان الصورة التي ارتسمت لحياتنا العربية من خلال الرواية في اذهاننا - نحن القراء قد تبدو متشائمة وسوداوية بيد أنها واقع حال لا مفر من الاعتراف به والتسليم بجبروته. إنها إدانة جلية وواضحة لحالنا العربي التعيس، لاسيما والامة العربية تعيش اسوأ حالاتها، والهيمنة الامريكية تكاد او هي فعلاً تحرك قطع الشطرنج على الرقعة العربية كما يشتهي عقلها المدبر ولا يملك قادتنا ازاء ذلك الا ان يتحركوا يمنة ويسرة، أماماً ووراء كيفما تحركت بهم الأصابع الامريكية واليهودية.إن هنداً لتؤكد من خلال هذه الرواية أن التاريخ يعيد نفسه، ولأننا امة لا تقرأ تاريخها فتفيد منه في حاضرها وبناء مستقبلها. فلقد آثرت الروائية ذاتها ان تقوم هي بدور القارئ المتفحص لهذا التاريخ، حاملة في يدها سراجاً يضيء ظلمات دروبنا .. وفي اليد الاخرى جرساً تقرعه عل رنينه يوقظ الأمة من سباتها.والحق أن الرواية ليست ككثير من الروايات غيرها، لا سيما اليمنية منها، اذ ابتعدت كثيراً عن الشكل التقليدي للرواية وسلكت فيها الروائية مسلكاً ربما رآه الكثيرون ممن تعودوا على القراءة السهلة والكسل الذهني . وممن يجدون المتعة في قراءة الروايات ذات التسلسل الزمني والسردي المنتقل من فصل إلى آخر بالرتابة المعهودة ، أقول إن هؤلاء سوف يجدون الرواية صعبة المراس ، ولسوف تتأبى عليهم كشف خباياها وجلو أسرارها . إنها رواية تأبى إلا أن تراك منتبهاً ، تسير في دهاليزها بخطوات وئيدة ترسل عينيك وفكرك حيث تضع قدميك قبل أن تحركها .. إنها لا تقبل منك السير وأنت مغمض العينين .. عليك أن تقرأ وأنت حاضر الذهن، صافي الخاطر، فالشخصيات والأحداث تسير في نسق متداخل غير منتظم لكنه مترابط يفضي بعضه إلى بعض.إنها رواية تستنطق التاريخ .. هل معنى ذلك أنها رواية تاريخية؟ استنتاج ساذج ولا شك، إذ الماضي يمتزج بالحاضر ويختلطان الى درجة لا تستطيع معها أن تفرق بينهما، فالماضي غدا حاضراً ، والحاضر أضحى أثراً من آثار التاريخ، كيف لا وأنت تلتقي شخصيات كالحجاج وأبي مسلم الخراساني وخولة ودعد في مجلس واحد مع احمد شاه مسعود.ويجلس أمامك سيبويه يتصفح في شبكة الانترنت، ويدبر الرئيس أبو جعفر المنصور عملية فاشلة لاغتيال أبي مسلم يفر على اثرها الى الولايات المتحدة، ومنها يخرج ليستقر في ألمانيا حيث يبدأ نشاطات معادية لبغداد بهدف إسقاط النظام هناك.تقابلك على صفحات الرواية أسماء صدام، اسامة بن لادن، معمر القذافي .. وتقرأ مصطلحات وتعابير حديثه كاليمين المتطرف والاستخبارات العامة والكي جي بي.انها رواية تؤكد أن كاتبتها ليست روائية عادية كغيرها من الروائيات .. إنها روائية تأبى إلا أن تخط لنفسها طريقاً غير الذي خطه الآخرون .. وتسلك درباً ربما بدا موحشاً غير معبد لكن دروب التحدي كلها تبدو كذلك وهي كاتبة لا يمتعها الا ان تسير في مثل تلك الدروب الموحشة غير المعبدة.