محمد زكريا المؤرخ الراحل النابغة عميد التاريخ اليمني الإسلامي القاضي إسماعيل بن علي الأكوع يتحفنا بمؤلف غاية في الأهمية بعنوان (( أئمة العِلم المجتهدون في اليمن )) يؤرخ فيه فترة من فترات تاريخ اليمن التي سادت فيها التيارات الفكرية المتصارعة بين التقليد والاجتهاد ، والبعض منها نادى بالاجتهاد وعدم الانعزال ، و البعض الآخر رأى أنّ الخروج عن التقليد الذي نهجه الشيوخ الأوائل هو اختراق صريح وخطير للفكر الإسلامي . ويلقي مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع أضواء كاشفة على رائد من رواد وحملة لواء التجديد في الفكر الإسلامي في اليمن هو العالِم المتجدد المجتهد الإمام محمد بن إبراهيم الوزير المتوفى ( 840 هـ / 1436م ) الذي وضع بصمات مضيئة في جبين الفكر الإسلامي في اليمن .[c1] التاريخ ماثل للعيان[/c]والحقيقة إنّ دراسات ومؤلفات وتحقيقات مؤرخنا الكبير القاضي إسماعيل الأكوع . قد بهرت ولاتزال الكثير والكثير جدا من المؤرخين والكتاب والباحثين اليمنيين وغير اليمنيين بسبب دقته المتناهية وتمحيصه الكبيرين للوقائع من ناحية والوقوف عند الأحداث وتحليلها تحليلاً عميقاً من ناحية أخرى فيزيل عنها غبار الاضطراب ، والغموض ، والتخبط فيصل بها الى نور الحقيقة الساطعة من ناحية أخرى وإنّ أسلوبه المفعم والمليء بالعاطفة الجياشة الصادقة لليمن وتاريخه الإسلامي يجعلك تشعر شعورًا حقيقيًا بحرارة الأحداث والوقائع التاريخية الساخنة والملتهبة أو بمعنى آخر أنه يجسدها تجسيدًا حيًا كأن الأحداث ماثلة للعيان.[c1]قصة الكتاب[/c]والحقيقة إنّ مؤرخنا الكبير الراحل القاضي إسماعيل بن علي الأكوع كان دائماً وأبداً يتحفنا وينفحنا بالمؤلفات القيمة والجديدة والتي تسد فراغًا كبيراً في رفوف المكتبة التاريخية اليمنية ومنها هذا الكتاب الذي بين أيدينا، كتاب بعنوان (( أئمة العلم المجتهدون في اليمن )) ــــ كما قلنا سابقا ـــ . ويذكر القاضي إسماعيل الأكوع ــــ رحمه الله ـــ أن مشروع ذلك الكتاب ، كان في تفكيره منذ فترة ليست قصيرة . وفي هذا الصدد, يقول : « كنت عازمًا منذ ما يقرب من عقدين من الزمان على إفراد كل عالم مجتهد اجتهاداً مطلقا بكتاب مستقل به ، لذلك فقد لبيت هذه الرغبة فانتزعت تراجم أئمة الاجتهاد من الكتاب وجمعتها إلى بعضها وأصلحت ما فيها من أخطاء « . ويضيف ، قائلاً : « وأضفت إلى كل ترجمة مزيداً من الفوائد المتعلقة بصاحبها لتكون مستوفاة من النواحي . . . وسميته (( أئمة العلم المجتهدون في اليمن )) . ولسنا نبالغ إذا قلنا إنّ مؤلفات القاضي إسماعيل الأكوع المتنوعة في التاريخ الإسلامي اليمني بصورة خاصة والتاريخي اليمني بصورة عامة كلما دارت عجلة الأيام والسنين عليها ازدادت تألقاً ولمعاناً وبهاءً ــــ رحمه الله رحمة واسعة ـــ فمؤرخنا الكبير القاضي إسماعيل الأكوع دون مبالغة يعد من كبار المؤرخين اليمنيين المشهورين لدى المؤرخين العرب والغربيين المهتمين بتاريخ اليمن الإسلامي . والجدير بالذكر ، أنه من فترة ليست قصيرة منحت الدولة التركية مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع الجائزة التقديرية عرفانا لجهوده الكبيرة والرائعة في تاريخ اليمن الإسلامي . وهذا إنّ دل على شيء فإنه يدل على مكانته العلمية في العالم الإسلامي من جهة ودور اليمن الكبير على خريطة الثقافة العربية والإسلامية من جهة أخرى . [c1] حريــــة الفكــــر[/c]
القاضي إسماعيل بن علي الأكوع
والحقيقة أنّ علماء اليمن ، تميزوا عن علماء البلدان الإسلامية بمسألة مهمة وهى أنهم أطلقوا العنان للاجتهاد لسببين هما أنّ المذهب الزيدي ـــ نسبة إلى الإمام زيد بن علي المتوفي سنة 121 هـ / 739م ـــــ يؤمن إيمانا عميقا بفتح باب الاجتهاد من جهة وعدم تمسك هؤلاء العلماء بالمذاهب الإسلامية المعروفة من جهة أخرى . وهذا ما أكده مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع ، قائلا : « أمّا سبب تفرد اليمن بظهور علماء مجتهدين ، ملتزمين بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، غير ميالين إلى أي مذهب من المذاهب الإسلامية المعروفة ، فيرجعُ إلى أنّ المذهب الزيدي في أصل دعوته يسمح بالاجتهاد ، فلم يحجُر على أتباعه حرية التفكير ، ولا قيدهم بالتزام نصوصه ، ولكنه أطلق العِنان ، وترك لهم الخِيار ، بعد أنّ جعل بابَ الاجتهاد مفتوحًا لمن حذق علومه واستوفى شروطه ، فكان هذا حافزا لمن وهبه الله ذكاءً وفِطنة ، ورزقه فهمًا وبصيرة أنّ يعمل بما أوصله إليه اجتهاده في أدلة الكتاب والسُنة « . ويذكر القاضي إسماعيل الأكوع عددًا من العلماء الإجلاء الذين كان لهم سهم وافر في ميدان الاجتهاد باليمن ، فيقول في هذا الصدد : « فكان الإمام محمد بن إبراهيم الوزير أبرز من بلغ أقصى درجات الاجتهاد المطلق ، وقد تلاه آخرون ، كالحسن بن أحمد الجلال ( 1014 هـ ـــ 1084 هـ ) ، وصالح بن مهدي المقبلي ( 1038 ـــ 1084هـ ) ، ومحمد بن إسماعيل الأمير ( 1099 ـــ 1182 هـ / ) ، وعبد القادر بن أحمد بن عبد القادر شرف الدين ( 1135 ـــ 1207 ) ، ومحمد بن علي الشوكاني ( 1173 ـــ 1250 هـ ) » .[c1] الإمام الشوكاني[/c]
صنعاء القديمة
ويوضح القاضي إسماعيل بن علي الأكوع الأسباب التي دعته إلى اختيار هؤلاء العلماء الذين رفعوا لواء الاجتهاد والتجديد في إطار الشريعة الإسلامية السمحاء الذي تحدث عنهم قبل قليل ، فيقول : « ولم أخص هؤلاء بالذكر إلا لأنهم نعوا على العلماء المقلدين جمودهم وحثوا المسلمين على العمل بالكتاب والسنة ، فهذا شيخ الإسلام الشوكاني يستطرد في ترجمته للإمام إبن الوزير استنكاره على العلماء المقلدين ، فيقول : « وإني لأكثر التعجب من جماعة من أكابر العلماء المتأخرين الموجودين في القرن الرابع ( القرن العاشر الميلادي ) وما بعد كيف يقفون على تقليد عالم من العلماء ويقدمونه على كتاب الله وسنة رسوله » .[c1]مــــولـــــده[/c] والحقيقة أنّ مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع دائمًا وأبدًا يتبع منهج البحث التاريخي في مؤلفاته وأبحاثه ، وتحقيقاته الذي يقوم على الاستقراء ، والاستنباط ، والتحليل ، وهذا ما اتبعه وسلكه في ترجمة العالِم المتجدد الإمام المشهور محمد بن إبراهيم الوزير ، فيقول : « ولد ( أي ابن الوزير ) على المشهور الصحيح في رجب سنة ( 775 هـ / 1374م ) بهجرة الظهراوين من شظب ، بيد أنّ المؤرخ عبد الوهاب بن عبد الرحمن البريهي ذكر في تاريخه ـــ وهو مترجم له ـــ ما لفظه : « قلت : قرأتُ مولده منقولاً من خطه ، قال : مولدي في رجب الفرد سنة ست وسبعين وسبع مائة « . ويذكر مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع أنّ السخاوي صاحب (( الضوء اللامع )) ، أخطأ في ميلاد محمد الوزير ، فيقول : « بـأنه ولد تقريبًا سنة 765 ، فلا صحة لذلك , وقد فند هذا الوهم شيخ الإسلام الشوكاني في (( البدر الطالع)) في ترجمته ، حيث قال : (( وهذا التعريب بعيد والصواب الأول )) ( أي في سنة 775 هـ ( 1374م ) « .[c1]حياته العلمية[/c] والحقيقة إنّ مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع وهو يلقي الأضواء القوية على حياة العالم الجليل الإمام محمد الوزير ، فإنه ، كان يسجل أيضًا الحياة الثقافية والعلمية التي كانت سائدة في عصره التي اتسمت بالازدهار والنشاط الكبيرين . حقيقة كانت هناك مدرسة إسلامية تقليدية في دراسة العلوم الشرعية . وعلى الرغم من ذلك تخرج من تحت معطفها الكثير والكثير جدًا من العلماء الإجلاء الذين أضاؤوا مشاعل التجديد في الحياة الفكرية باليمن أمثال الإمام الوزير والإمام الشوكاني وغيرهما . ويروي مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع عن الأسباب الحقيقية التي جعلت الإمام محمد الوزير يتفوق على أترابه في أثناء طلب العلم ، وفي هذا الصدد ، يقول : « نشأ الإمام الوزير في هجرة الظهراوين بين أهله الذين آثروا طلب العلم على ما سواه ، وانقطعوا له ، واشتغلوا به درسًا وتدريسًا، وتأليفا ، فأخذ يسيرُ على منهجهم ، ويقتفي أثر من سبقه منهم ، متبعًا، وملتزمًا بمسلكهم ، فحفظ القرآن الكريم ، وجوّده واستظهره ، وحفظ متون كتب الطلب من نحوٍ وصرفٍ ومعانٍ وبيان وفقه وأصول ، ثم أخذ في قراءة شروحها المختصرة ، ورحل إلى صعدة ، فأخذ عن أخيه الأكبر العلامة الهادي ابن إبراهيم الوزير في جميع الفنون تحقيقا واستفاد منه كثيرًا حتى في علم الأدب » .[c1] شاطئ السلام[/c] وعن الشيوخ الإجلاء الفطاحل الذي درس على أيديهم أمهات الكتب ، يقول المؤرخ القاضي إسماعيل الأكوع : « وأخذ عن القاضي العلامة محمد بن حمزة بن مظفر المشار إليه في علوم العربية واللغة والتفسير . وقرأ علم الأصول على القاضي العلامة عبد الله بن حسن الدواري ,»ويستطرد : « ثم رحل إلى صنعاء ، فأخذ عن القاضي علي بن أبي الخير (( شرح الأصول )) وهو معتمد الزيدية في اليمن « . وكيفما كان الأمر ، فقد عاش الإمام محمد الوزير في شبابه يبحث وينقب عن مواطن العلم والعلماء في مختلف مناطق اليمن . وعندما شب الإمام محمد الوزير عن الطوق أخذ يخطو خطوات واثقة وثابتة صوب باب الاجتهاد . لقد كان الإمام الوزير أشبه بسفينة في وسط بحر لُجي تتقاذفها الأمواج المتلاطمة والعواصف الشديدة .. ظلمات بعضها فوق بعض . . فإذا ببصيص نور ينبثق من الظلام الحالك ويرشده إلى شاطئ السلام . ونقصد بشاطئ السلام هى علوم الكتاب والسنة . وفي هذا الصدد ، يقول الإمام الوزير : « فرجعت إلى كتاب الله وسنة رسوله ( صلى الله عليه وسلم )، وقلت : لا بد أنّ يكون فيها براهين وردود على مخالفي الإسلام ، وتعليم وإرشاد لمن اتبع الرسول عليه الصلاة والسلام ، فتدبرت ذلك ، فوجدت الشفاء كله دقه وجله ، وانشرح صدري ، وصلح أمري وزال ما كنت به مبتلى ، وأنشدت متمثلاً :“ فألقت عصاها واستقر بها النوى [c1] *** [/c] كما قرّ عينًا بالإياب المسافر “ .[c1]القـــــدح المعلـــى[/c] وصار الإمام محمد بن إبراهيم الوزير سراجًا منيرًا في سماء الاجتهاد . وقد تحدث مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع عن رسوخ الإمام الوزير في علوم القرآن والسُنة ، فيقول : “ فقد رسخ هذا الإمام في علوم القرآن والسُنة حتى فاق أقرانه وزاحم شيوخه وتخطاهم وبلغ من علوم الاجتهاد ما لم يبلغه أحد منهم . كما أشار إلى ذلك العلامة أحمد ابن عبد الله الوزير في كتابه ( الفضائل ) ، بقوله : “ وله ( أي الإمام الوزير ) في علوم الاجتهاد المحل الأعلى والقدح المعلى ، وجمع وقيد وبنى وشيد ، وكان اجتهاده اجتهادًا كاملا مطلقا لا كاجتهاد بعض المتأخرين “ . وينقل مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع عن الإمام الشوكاني المتوفي سنة ( 1268 هـ / 1852م ) في وصف الإمام محمد الوزير ، فيقول : “ وما أصدق ما قاله شيخ الإسلام الشوكاني رحمه الله فيه حيث يقول : والذي يغلب على الظن أنّ شيوخه لو جُمِعُوا في ذاتٍ واحدة ، لم يَبلغ علمهم إلى مقدار علمه ، وناهيك بهذا ، ثم يقول : بعد كلامٍ طويل : (( ولو قلت : أنّ اليمن لم تُنجب مثله لم أبعِد عن الصواب )) “ .[c1]خصـــومـــه[/c] و لقد تعرض الإمام محمد بن إبراهيم الوزير إلى حملة شرسة وقاسية من خصومه من العلماء الذين تجمدوا وتقوقعوا على أنفسهم ، فأصابهم التقليد الأعمى , واعتبروا أنّ الخروج عن مألوف ما جاء به الأوائل من شيوخهم من أفكار وآراء في فروع الشريعة الإسلامية هي جريمة نكراء. وأكبر الظن إنّ تلك الحملة القاسية التي تعرض لها الإمام الوزير من هؤلاء العلماء التقليديين لم تكن بسبب آرائه وأفكاره الصريحة والواضحة في تجديد فروع المذهب الزيدي أو بعبارة أدق في تجديد فروع الفقه الإسلامي فحسب بل يعود إلى الحسد والحقد اللذين كانا يأكلان قلوبهم من الإمام الوزير الذي بلغت شهرته آفاق اليمن ، وصار فارس من فرسانها بلا منازع في ميدان الاجتهاد . وهذا ما أكده مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع ، قائلا : “ ولما بلغ من العلم ( أي الإمام الوزير ) هذه الدرجة من العليا ، وبخاصة في علوم القرآن والسُنة التي بَرّزّ فيها ، وأقبل على العمل بكتاب الله ، وما صح من سنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )داعيًا إلى الاجتهاد ، ومنددًا بعلماء عصر الذين التزموا بالتقليد ، لم يَرُق لهم خروجه على ما ألفوه من التقليد ودعوته لهم إلى نبذه ، والرجوع إلى العمل بكتاب الله وسنةِ رسول الله( صلى الله عليه وسلم) ، فناصبوه العداء ، وشنعوا عليه ، وشككوا في دعوته ، وصدُوا الناس عن سلوكِ هذا المنهج القويم “ . ويضيف القاضي إسماعيل الأكوع : “ وقد صف ( أي الإمام الوزير ) لنا ما جرى له منهم بقوله : (( وإني لما تمسكت بعروة السنن الوثيقة ، وسلكت سنن الطريقة العتيقة تناولتني الألسنة البذيئة من أعداء السُنة والنبوية ، ونسبوني إلى دعوى في العلم كبيرة ، وأمور غير ذلك كثيرة ، حرصًا على ألا يُتبع ما دعوت إليه من العمل بسنة سيد المرسلين والخلفاء الراشدين والسلف الصالحين ، فصبرت على الأذى ، وعلمت أنّ الناس مازالوا هكذا . ما سلم الله من بريته [c1] *** [/c] ولا نبيُ الهدى فكيف أنا ؟ .[c1]أنصـــاره[/c] ومثلما كان للإمام الوزير خصوم أشداء ، كان له أيضًا علماء مؤيدين له شدوا أزره ووقفوا معه . وفي هذا الصدد ، يقول القاضي إسماعيل الأكوع : “ حظي بثناء كثير من العلماء الذين عرفوا قدره وعلو منزلته العلمية ، وغزارة معارفه ، فقد وصفه الأديب البارع وجيه الدين عبد الرحمن بن أبي بكر العطاس في (( تاريخه )) بقوله : (( الإمام الحافظ أبو عبد الله شيخ العلوم وإمامها ومن في يديه زمامها ، قلد فيها وما قلد ، وألفى جِيدَ الزمان عاطلاً ، فطوقه بالمحاسن وقلّد ، وصنف في سائر فنونها ,ألف كتبًا تقدم فيها وما تخلف ، وله في حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) الباع المديد والشأو البعيد ، الذي ما عليه مزيد ، وله شعر تحسده زهر النجوم ، وتودّ لو أنها في سلكه المنظوم “ .[c1]عزلتــــه[/c] ولقد أشتد أعداء التجديد ضراوة على الإمام محمد الوزير الذين ظنوا أنّ أفكاره وآراءه تمثل خطرًا حقيقيًا على أفكارهم وتقاليدهم العتيقة البالية بل أنّ البعض منهم من أتهمه تهمة خطيرة وهى أنه خرج عن المِلة وهذا ما دفع الإمام الوزير أنّ يعتزلهم ، وينكب على العبادة في مناطق نائية وكذلك الابتعاد عن الناس والأهل . وفي هذا الصدد ، يقول القاضي إسماعيل الأكوع : “ وقد ابتعد الإمام الوزير عن الناس حتى عن أهله ، ومال إلى الزهد والورع ، واشتغل بالذكر والعبادة ، كما ذكر أحمد بن عبد الله الوزير في كتابه (( الفضائل )) ، وملازمة الخلوات ، والأماكن الخالية ، كمسجد وهب ، ومسجد نُقم ، ومسجد الروية ، ومسجد الأخضر ، وفي المنازل العالية على سطح الجامع ينقطعُ في بعض هذه الأماكن ثلاثة أشهر : رجب ، وشعبان ، ورمضان ، ويعتذِرُ عن مرافقة أهله وأرحامه ، وسألهم إسقاط الحق من الزيارة وعن غيره “. ويضيف القاضي إسماعيل الأكوع : “ كما كان يذهب إلى المفاوز ، وشِعاب الجبال ، وبطون الأودية “. ولسنا نبالغ إذا قلنا أنّ تلك العزلة اكسبته قوة وصلابة ، وزادته إيمانًا بقضيته بضرورة التجديد وفتح آفاق الاجتهاد في العلوم الشرعية التي تقوم على القرآن الكريم والسُنة النبوية الشريفة .[c1]الحـــركة العلميــــة[/c] ولسنا نبالغ إذا قلنا أنّ الحياة القاسية التي عاش في ظلالها الإمام الوزير المتمثلة بمعارضة بعض العلماء الضارية أصحاب النفوذ على الحياة الفكرية في اليمن على العالِم المتجدد حامل لواء الاجتهاد ابن الوزير ، فإنّ الحقيقة تظل ماثلة للعيان وهى أنه في تلك الفترة التاريخية ، كانت هناك حركة أو نهضة فكرية وعلمية حيث خرج من معطفها الكثير من العلماء الإجلاء الذين كانوا بحق كواكب دُرية في سماء الاجتهاد وعلى رأسهم الإمام محمد بن علي الشوكاني ، الإمام الحسن بن أحمد الجلال ،الإمام صالح بن المهدي المقبلي ، الإمام محمد بن إسماعيل الأمير .[c1]مفتــــاح شخصيتــــه[/c] ولقد كان مفتاح شخصية الإمام محمد الوزير العالِم المجتهد هى أنه لم يخش في الله لومة لائم ، وقد آمان إيمانًا عميقا وراسخًا بالطريق الذي سلكه واتبعه وهو الالتزام بأحكام القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، والاجتهاد في فروع الشريعة الإسلامية السمحاء . وهذا ما أكده القاضي إسماعيل الأكوع ، قائلا : “ تبين مما عرضناه أنّ الإمام المجتهد المطلق المجدد محمد ابن إبراهيم الوزير رحمه الله ، قد ألتزم بالعمل بأحكام القرآن الكريم ، وصحيح السُنة النبوية في كل أمر من أمور الدين ، ولم يحفل بغيرهما ، وحث علماء عصره على إتباعهما ، كما دافع عن السُنة النبوية وأهلها دفاعًا شهودًا ، وأبلى في ذلك بلاءً حسنًا ، حتى قلاه بعض أهله وأقربُ الناس إليه ، بله غيرَهم , ، ولكنه لم يأبه لذلك على الرغم مما سبب له من متاعب ، ولم يخش إلا الله وحده ، وظل يُكثر من الإشادة بالسُنة في أعماله وأقواله ، فكان أكثرُ شعره في مدح الحديث ، ومدح أهِله ؛ فمن ذلك قصيدته الدالية ... وأولها : وتركتُ فيها جيرَتــــــــــــي [c1] *** [/c] ومحل ّ ترابي ومَوضع مولـــــدي إلى أنّ يقول : إني أحبُ محمدًا فـــورق الــــورى [c1] *** [/c] وبه ـــ كما فعــل الأوائلُ ـــ أقتديفقد انقضت خيرُ القرون ولم يكن [c1] *** [/c] فيهم بغير محمدٍ من يهتـــــــدي[c1] العواصــــم والقواصـــم [/c]والحقيقة إنّ مؤلفات الإمام الوزير مرآة صافية تعكس بوضوح أفكاره وآراءه حول فتح أبواب الاجتهاد في ظلال القران الكريم والسنة النبوية الشريفة ــــ كما قلنا سابقا ـــ . وفي هذا الصدد يقول القاضي الأكوع : “ اشتغل ( أي الوزير ) بالتأليف منذ سن مبكرة ، فقد صنف (( العواصم والقواصم )) وهو دون الثلاثين سنة ، ولم ينقطع عن التأليف حتى قرب وفاته رحمه الله “ . نقتطف بعض مؤلفات الوزير الذي ذكرها القاضي إسماعيل الأكوع ، وهى : “ الأمر بالعزلة في آخر الزمان ، واسمه (( أنيس الأكياس في فضل الإعراض عن الناس )) . إيثار الحق على الخلق في معرفة الله تعالى ، ومعرفة صفاته على مناهج الرسل والسلف . البرهان القاطع في معرفة الصانع وجميع ما جاءت به الشرائع . التأديب الملكوتي ، وهو مختصر ، وفيه عجائب وغرائب . تحرير الكلام في مسألة الرؤية وما دار بين المعتزلة والأشعرية . التحفة الصفية في شرح الأبيات الصوفية . ترجيحُ أساليب القرآن على أساليب اليونان في أصول الأديان . تنقيح الأنظار في علوم الآثار , ويمدح القاضي الأكوع الكتاب ، فيقول : “ وهو كتاب جليل القدر ، جمع فيه علوم الحديث ، وزاد فيه ما يحتاج إليه طالبُ الحديث من علم أصول الفقه ، وأفاد فيه التعريف لمذهب الزيدية “ . وترك الإمام الوزير ديوان شعر : “ وقد أشاد الإمام الشوكاني بهذا الديوان بقوله : طـــالــع الديـوان إنّ رمــ [c1] *** [/c] ســتَ يـوم الحشــر تسـد فـهـو فــي الإعجـاز عذري [c1] *** [/c] مــن بـــراهـــيـن محمــد “[c1]وفاتـــــه[/c] وفي الرابع والعشرين من محرم غرة ( 840 هـ / 1437م ) توفي الإمام العالم الجليل محمد بن إبراهيم الوزير بمرض الطاعون الذي انتشر في اليمن في سنة ( 839 هـ / 1436م ) وسنة ( 840 هـ ) . وترثي شمس الحور بنت أخيه الهادي بن إبراهيم الوزير فيه ، فتقول : رحـمَ اللهُ أعـظــم دفنـوهـــــا بالـرّويــات عن يميـن المُصـــلى “ . [c1]الهامش : [/c]القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ؛ أئمة العِلم المجتهدون في اليمن ، الطبعة الأولى 2002م دار البشير ، عمّان ـــ الأردن .