(الهايس) بطل من هذا الزمان
(الهايس) بطل من هذا الزمان، لا يعرف في الحق لومة لائم، كان القلم سلاحه كصحفي في حربه ضد مافيا الأموال العامة والآثار ورغيف العيش، لا يلقى بالاً لمصالحه ورغباته الشخصية ولا تشده الأضواء مثل بعض الصحفيين، وقد حاولوا عدة مرات احتواءه ثم اعتقاله واغتياله، لأنّه قرر أن يقف في صف المواطن الغلبان المغلوب على أمره ولهذا رفض التعامل القمعي مع الجماهير والتغني بالديمقراطية مدحاً وخطباً كذابة، ثقافته استمدها من إنجازات المشروع الوطني المستقل فاستحق أن يكون رجل المبادئ الذي تحمل مسئولية المواجهة من دون عنف ومن خلال "القلم" سيفه الوردي.حرصاً من الفن الدرامي الجميل على ما جرى ويجري في الواقع العربي، وحرصاً على دور الفن أنتج التلفزيون المصري مسلسلاً هادفاً عن صحفي نبيل لم يكتب لمجرد الكتابة، ولم يتواطأ مع أحد ضد بلاده وفي كلتا الحالتين لم يستسلم للإغراءات أو لقبوله سياسة الأمر الواقع التي توازي رضوخه للأبد، بل كان كما يجب أن يكون رجلاً مثله قال كلمته التي كانت بمثابة صرخة مفعمة بالإرادة مستندة على ثقتها بحب الوطن، ذلك الحب الذي حارب المستعمرين طويلاً، وعليه أن يستمر في حربه لكافة رموز الظلام.بذلك استحق (الهايس) (صلاح السعدني) سيفه الوردي الذي يعتبر فاتحة عهد جديد في مسار النضال الفكري لا على المستوى الإعلامي فحسب بل على المستوى الإنساني.وقد يكون الفنان (صلاح السعدني) من الفنانين القلائل الذين واجهوا انتقادات لاذعة بحجة أنّه لا يعقل أن يكون قد أباد كل مصالحه ورغباته بسبب المبادئ، وكجزء من تضحياته هذه يقوم أيضاً بذبح حبه الوحيد كما تذبح النعاج وخلافاً للرأي القائل :(لا يملك المحب إلا فوزه بقلب من أحبه).ولكن الحب من وجهة نظر (السعدني) ثورة حتى في النعيم، بمعنى أنّ الحب الذي يستأثر بكل شيء يستحق أن يضرب بعرض الحائط، لذات السبب جعل مشروعه النضالي امتداداً لكل ما هو محب للوطن من خلال تأكيده على نكران ذاته (نعم لقد تعفن التاريخ المهدر طويلاً في قلب الحكايات الموغلة بقصص العاشقين وقد لاحظنا كيف أنكر حبه (لحبيبه فرغلي) (نرمين الفقي) المرأة التي أحبها حتى الثمالة.لهذا نقول على العكس، فإنّ دور (الهايس) في هذا المسلسل الجميل كان منطقياً، لأنّ المبدأ حظي باهتمام خاص على صعيد الدراما الإنسانية بعد أن أصبح الجفاف يضرب كل شيء في معظم مسلسلاتنا العربية.(الهايس) وصفه البعض بأنّه ذات منحى اشتراكي متطرف، بينما بعض الآخر يقول إنّ حكايته مع المبادئ لا تزيد عن كونها غطاء يخفي مخالفات كثيرة، بكلام واضح ينطبق عليه معنى ( خالف تُعرف).وفي كل الحالات (الهايس) ينظر للأمة على أنّها الثروة الحقيقية في الثقافة والتقاليد والعادات النبيلة والوفاء هذه هي ثروة الأمة، أما مسألة امتلاك الأراضي والجري المحموم وراء السلطة والنهب والسلب والتهليب ظاهرة دشنها الحاقدون وما أكثر الحاقدون، في هذه البلاد وهم من الإرهابيين والمهربين والمخربين.البطل في هذا الموضوع كصحفي واقعي ملتزم بخط معين يقوم على المبادئ من هنا ظهرت المشكلة بأبعاد سياسية غير مرضية (للسلطة) التي نجحت في اعتقاله بمرحلةٍ قد تكون لامست فيه موضعاً حساساً ومعقداً استأثر بإهماله لكل رغباته الشخصية التي أعلن التحرر منها نهائياً مع التزامه بموقف واحد يلخص إيمانه بقضية العامة من أبناء شعبه وبحق الشعب الفلسطيني في النضال من أجل التحرر لهذا السبب بُح صوته ولكن قلمه لم يعجز عن إظهار ما عجزت حنجرته عن إظهاره بقوة ولم يقف موقف المحايد يوماً من تجار الموت والمخدرات وسرقة الآثار ورغيف العيش، وأصحاب شركات غسيل الأموال، بل وقف في طريقهم وضد مصالحهم الرخيصة وجهاً لوجه ورأينا كيف أحبط مؤامراتهم دون رحمة، ولقد أعطى مثلاً على ذلك لكل زملائه من حملة الأقلام الشريفة.وكان من الطبيعي أن يتبنى (الهايس) خط الدفاع عن أبناء شعبه المغلوبين على أمرهم، ومن خلال هذه النظرة المبدئية كانت مقالاته الصحفية مثار سخط وجدل (الكبار) الذين أسقطوا ضحاياهم يومياً بالعشرات، ويبدو أنّ إصرارهم على ملاحقة البطل ومضايقته قد فسرته المحكمة عندما رفضت التعويض من حيث المبدأ، لأنّه قام بشتم واحدٍ من أصحاب البلايين وأتهمه بالباطل في مقال ساخن من دون شهود سوى إيمانه بالقضية واعتماده على مجموعة تحت الضغوط استسلموا للدولارات ولعبوا دوراً كبيراً في إضعاف جبهة الهايس عند طلبه للشهادة.ورغم أنّ الفلوس لعبت بمشاعرهم ونجحت في استقطاب ذوي النفوس الضعيفة ممن عانوا الفقر والقهر، إلا أنّ هذه المسألة دفعت البطل إلى الدفاع عنهم والتسامح معهم، لأنّه قرر أن يساهم بتربية أجيال بكاملها من خلال مقالاته التي أخذت تنتقل بالتدريج إلى مواقع الطبقات الشعبية الكادحة وإلى المسئولين وقد لاحظنا في المسلسل كيف ناقش المسئولين وكيف تصدى لهم، بمقالاته في الصحف والمجلات من منظور واضح اتخذ شعار المواجهة من دون عنف وأخذت هذه المواجهة الطابع المباشر الذي اكتسب مع الوقت بعده السياسي والثقافي في تجرِبة الهايس.ورغم محاولات احتوائه لم يقبل بالوزارة ولا بعضوية المجلس الموقر وفضل أن يكون في صف الشعب كواحدٍ من الجماهير التي تآمرت ضدهم السلطة.وانطلاقاً من نهجه هذا وجهت إليه تهمة الخيانة، لأنّه انتقد سياسة الدولة بشأن سكوتها على المخربين، وكانت التهمة غير منصفة ولا حتى المحاكمة ومضت الحملة المضادة بقوةٍ وسبب ذلك وقع في مشاكل كثيرة لم تقتصر على سجنه بعد ما أعفي من عمله بل هددت لقمة عيشه في أكثر من موقع بل وتحمّل ضربات كثيرة من الأصدقاء قبل الأعداء من المأجورين والفاشلين وكان الوقوف ضده مقصوداً ليتجنبوا الوقوع في شبهته.وهكذا ووسط هذه الأجواء أصبح شعار قلمه النضال كطريق وحيد يعني في جوهره رفض المصالحة مع تجار الموت بل وأستطاع أن يشخص بوضوح المهمات المطروحة أمام الصحافة الحرة والشجاعة ولعل هذا التوجه قد ضخم المجال أمام تطور أكبر في الفهم السياسي والخلفية الثقافية لمجموعة من الشباب تبناهم الهايس وقد ساعده ذلك على إدراك أفضل لحقيقة الدور الذي يؤديه القلم في إنهاض سائر أشكال ووسائل النضال.من هنا أيضاً جاءت أهمية تصعيد الهايس لقضية الكفاح ضد العدو الصهيوني كإحدى المهمات الرئيسة للإعلام العربي خصوصاً في ظل الظروف التي تمر بها فلسطين في الداخل.