لم يأتِ البيان الرسمي الذي أصدرته السلطات الأمنية السعودية يوم السبت حول اعتقال واستجواب عدد من الأشخاص (من المواطنين والأجانب) بتهمة الاشتباه في قيامهم بنشاطات جمع الأموال لدعم النشاطات الإرهابية، لم يأتِ مفاجئاً لكل متتبع لسياسية المملكة الأمنية. فقرار القيادة السياسية في الدولة بتبني كل جهد ممكن من أجل اجتثاث جذور الإرهاب داخلياً وخارجياً هو قرار صادق ونابع من صميم مبادئ وقيم الدولة السعودية. فخلال عمر الدولة الطويل، لم تتمكن أي جهة من توفير الأدلة الصادقة على قيام المملكة بدعم النشاطات الإرهابية. فصفة الدولة "الراعية للإرهاب" التي وُصمت بها دول عديدة في العالم، حقاً أو باطلاً، بقيت المملكة بعيدة عنها. وكانت المملكة سباقة في اتخاذ الإجراءات الهادفة لمحاربة الإرهاب حين أمْسَت المملكة ومواطنوها ضحية الإرهاب قبل أن تكون الولايات المتحدة أو الدول الغربية ضحية له. وتمثل مكافحة تمويل الإرهاب جزءاً أساسياً من الاستراتيجية العامة والشاملة لمكافحة الإرهاب التي تبنتها المملكة خلال السنوات الماضية. فالمملكة لم تكتفِ باقتصار التعامل مع الإرهاب عبر الوسائل الأمنية لوحدها، بل امتدت استراتيجيتها لتشمل التعامل البنـّـاء مع الجانب الفكري والعقائدي لظاهرة الإرهاب، إلى جانب البعد المادي للظاهرة المتمثل بتبني جميع الوسائل لتجفيف المصادر المالية الداعمة للنشاطات الإرهابية.ولم يكن اتخاذ الإجراءات الكفيلة بالسيطرة على تمويل الإرهاب مهمة سهلة أو ميسرة في مجتمع فريد في خصائصه العقائدية ومكانته الدينية وتطوره التاريخي والحضاري كالمجتمع السعودي. فالمجتمع السعودي هو مجتمع يمثل فيه العمل الخيري والعطاء والبذل الإنساني إحدى أهم دعائمه وجزءاً من عقيدته الدينية والاجتماعية والأخلاقية. وسيدرك كل مطلع على طبيعة وخصائص المجتمع السعودي مدى عظمة ومشقة المهمة التي جابهت صناع القرار في اتخاذ الوسائل الكفيلة بتجفيف مصادر تمويل النشاطات الإرهابية داخلياً ودولياً. فالسلطة لا ترغب ولا تقدر على إيقاف أو تعطيل بذل الأموال من أجل العمل الخيري والإنساني. وفي الوقت نفسه، وبعد الويلات والمآسي التي ولدتها النشاطات الإرهابية داخل المملكة وخارجها، وجدت السلطات نفسها ملزمة بمهمة مكافحة الإرهاب، ومن ضمنها وجوب اتخاذ الوسائل الناجعة لإيقاف نشاطات تمويل الإرهاب.وقد جابهت المهمة معضلتين أساسيتين: الأولى إيجاد آلية دقيقة وعادلة للتفريق بين المؤسسات التي تجمع المال من أجل الأعمال الخيرية والإنسانية التي تنبع من صميم قيم المجتمع من جهة، والمؤسسات التي تستخدم غطاء العمل الإنساني والخيري كواجهة لتحويل الأموال لدعم النشاطات الإرهابية من جهة أخرى. ولم يكن من اليسر أو السهولة وضع خط فاصل لتصنيف هذه المؤسسات لوجود عوامل واعتبارات كثيرة تُعقد المهمة وتعرقل اتخاذ القرار الصائب والعادل. وتمثلت المعضلة الثانية بصعوبة إيجاد آلية ناجعة ومؤثرة تعمل على تتبع ومراقبة الأموال التي تُبذَل للعمل الخيري أو الإنساني والتيقن من وصولها، وعلى نحو نهائي وكامل، إلى الجهة المستفيدة. وهي مهمة أقل ما يُقال عنها إنها مهمة جمع معلومات استخبارية دقيقة ومعقدة، وخصوصاً أن أغلب هذه الأموال تُمنَح في صورة أموال نقدية لا تمر عبر قيود النظام المصرفي.وعلى الرغم من هذه الصعوبات والعوائق استطاعت مؤسسات الدولة تبني سياسة أثبتت فاعليتها في تحقيق الهدف، ترافقت مع محاولة جادة للمحافظة على قيم المجتمع والالتزامات الدينية لأبنائه. فإلى جانب الإجراءات الأمنية التي هدفت للتحقق من فعاليات المؤسسات العاملة في مجالات جمع الأموال للأعمال الخيرية ومحاولة تحديد هوية المؤسسات التي تورطت في توفير الدعم المادي للنشاطات الإرهابية، قامت المملكة بإصدار تشريعات قانونية صارمة هدفها التعامل الفعال مع ظاهرتي غسيل الأموال وتمويل الإرهاب. فقد تم سن القوانين والتشريعات التي هدفت، وبلغة واضحة، إلى تجريم نشاطات غسيل الأموال ونشاطات تمويل الإرهاب. وتمثلت هذه السياسية في أغسطس 2003 بتشريع نظام مكافحة غسيل الأموال وإصدار لائحته التنفيذية التي نصت على تجريم عمليات تمويل الإرهاب. وقامت الدول بتبني التوصيات الدولية الأربعين الخاصة بمكافحة غسيل الأموال، فضلاً عن التوصيات التسع الخاصة بمكافحة تمويل الإرهاب. وقامت بالموافقة والتنفيذ الفعلي للمعاهدات الدولية الخاصة بهذا المضمار والاستجابة الفعالة لقرارات مجلس الأمن الدولي المعنية بهذا الشأن، وخصوصاً الإيفاء بجميع متطلبات لجان مكافحة الإرهاب التابعة لمجلس الأمن الدولي. وعلى الصعيد العملي، قامت سلطات المملكة بوضع ضوابط جديدة تحكم سير العمل الخيري، وقامت كذلك بإغلاق وسحب التراخيص من المؤسسات الخيرية التي أُثيرت الشكوك حول نشاطاتها، وقامت بفرض إشراف ومراقبة وزارة الشؤون الاجتماعية على نشاطات ما لا يقل عن 245 جمعية خيرية خاصة لا تزال تمارس نشاطاتها الإنسانية داخل المملكة. وفي الوقت نفسه، قامت بإنشاء "الهيئة السعودية الأهلية للإغاثة والأعمال الخيرية في الخارج" لتتولى عملية الإشراف والمتابعة المركزية للنشاطات الخيرية خارج المملكة. وعلى الجانب الإجرائي، قامت السلطات بإنشاء لجان دائمة لتنفيذ سياستها في مكافحة الإرهاب وتمويله، منها إنشاء اللجنة الدائمة لمكافحة غسيل الأموال، وتنصيب لجنتين متخصصتين بمتابعة جهود مكافحة الإرهاب، هما اللجنة الدائمة واللجنة العليا لمكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى إنشاء وحدة للتحريات المالية تابعة لوزارة الداخلية تتابع التحقيق في النشاطات المالية غير المشروعة.وعبر هذه الإجراءات العديدة والمعقدة، كان الهم والشاغل الأساسي لصناع القرار في الدولة هو إيجاد حالة توازن وتوافق بين استمرارية العمل الخيري والإنساني الذي هو من صلب ودعائم المجتمع، وبين التزام الدولة بمكافحة آفة الإرهاب التي أمست تهدد أمن واستقرار الدولة والمجتمع. فالمملكة لم تغلق باب العطاء والبذل للعمل الخيري، وما تم إغلاقه هو باب دعم الإرهاب. ولا تزال أجهزة الدولة تنظر إلى كل قضية بناءً على معطياتها. فالتحقيقات التي تجريها أجهزة الدولة تهدف إلى منع استغلال الدوافع الحسنة والطيبة لمقدمي الخير ممن ساهموا ربما بتقديم الأموال مؤمناً وواثقاً بدوافع القائمين على جمعها، غافلاً عن احتمال سوء استخدام هذه الأموال. فقرار التحقيق في قضايا تمويل النشاطات الإرهابية هو حق وواجب على أجهزة الدولة الالتزام به. ونحن لدينا الثقة الكاملة في أن الدولة في تحقيقاتها مع الأشخاص الذين تم التحفظ عليهم ستستنير بالحقائق والقرائن والأدلة لفرض العدالة والإنصاف، ورعاية هيبة القانون وحماية المواطن، والمحافظة على سمعة الدولة[c1]كاتب سعودي [/c]
تمويل الإرهاب : بين النية الحسنة والدوافع السيئة
أخبار متعلقة