لعنة المُلك (الجزء الأخير )
[c1]* ظل مثقلاً بإرثه الملكي فعاش في صراع مع الذات[/c]كان(ابن المعتز)يرى نفسه أحق بالخلافة،فهو من نسل ملكي “يبدأ من أبيه المعتز بالله وينتهي بالخليفة أبي جعفر المنصور”.(1)كذلك،قلده أبوه الإمارة،وأعده لتولي الملك من بعده،وضرب الدنانير باسمه،(عبدالله بن المعتز).غير أن الأمور سارت دون ذلك.!فقد قتل الأب،ونفي الابن،وإذا بالخلافة أمنية دونها الموت(...أمنية جلبت منيه)..لذا كان على(ابن المعتز)إسقاطها من حسبانه،والإذغان للأمر،بحزن وصبر::ملكنـا الهوى حيناً وكان وكانـا [c1] *** [/c] فأرخـصـنـا دهر كـيـف تـرانـاألم نـتلف الحـادثـات بـصبرنا [c1] *** [/c] وكم جـازع للـحـادثـات سوانا [c1](2)[/c]حصيلة التاريخ...ومعطيات الواقع السياسي،والأذغان،والصبر،كل ذلك،لم يدم طويلاً!!..وكأن المأساة قد أبت إلا بلوغ ذروتها،دافعة به إلى أمنية قاتلة،ليلقى مصير أبيه وجده وعمه!!.وذلك حينما رفض كبار الدولة والقضاة،وأهل الرأي مبايعة(المقتدر بالله)لصغر سنه(ثلاث عشرة سنة)،إذ لا تجوز ولاية قاصر لم يبلغ الحلم..وأتفقوا على مبايعة(عبدالله بن المعتز)الذي قبلها قائلاً:((..قدآن للحق أن يتضح وللباطل أن يفتضح))..غير أن خلافته لم تدم سوى(يوم وليلة)!.إذ تمكن أتباع(المقتدر) من القبض عليه لتفرق أنصاره عنه، وقتل عام(296)هـ،وله من العمر تسعة وأربعون عاماً...حقيقة(ابن المعتز)أن يكون فناناً،لا رجل سياسة وسلطة...إلا أنه حينما عاند حقيقته،وتجرد من طبيعته،وخالف تكوينه،لم يقو على البقاء سوى يوم وليلة،دافعاً حياته ثمناً لهروبه وتمرده على طبيعته...!!..ودون شك أن الحصيلة التاريخية المأسوية المتمثلة في مقتل خمسة خلفاء من أسرته،كانت إضافة إلى تجذرها في وعيه،تؤكد له ذات المصير،وتقتاده بإصرار ودون إرادة منه..إلى حتفه..وهكذا عاش(ابن المعتز)على يقين أن مخالب الموت التي أجهزت على أسرته،لا محالة ظافرة به،حتى وإن كان في بروج منيعة..!!فذلك إرث السلف للخلف!!..ولعنة الملك التي اختصوا بها!!..هذه الرؤية،أو الهاجس الذي تحول إلى وسواس قهري،ظل ملازماً له ومسيطراً عليه بشدة.وهذا ما يفسر حضور الموت وسيطرت صوره على عالمه الشعري:ومـازال أخـذ الـموت أهلـي وجـيـرتي [c1] *** [/c] يـحـدث غـنـي أن سيأتي عـلى نـفسيفقد صرت محمولاً على الموت مكرهـاً [c1] *** [/c] وإن حُثت الكـاسات طـال لها حبسي (ص231)ما مأساة(ابن المعتز)إلا اختزال درامي لمأساة عصر صارع سكرات موته بالبحث عن صيغة أخرى تبرر استمراره،بعد أن فقد شرعية وجوده،واستنفد أرصدة بقائه وتداعت أعمدة بنائه،فاضطربت أحواله،بين فتى تناثرت،وثوارت تكاثرت..وبين مذاهب اشتد افتراقها،وطائفية إزداد انشقاقها..-(وما أشبه الليلة بالبارحة!)- وقد جسد(ابن المعتز)تلك الأوضاع بإيجاز بليغ في قوله:وضاعت الأحكام والشرائع [c1] *** [/c] ولم يكن للنـاس أمر جامع (414)عصر تداخلت فيه الأمور،حتى غاب تمايزها.!.فإذا بالعقل لا يستقر على أمر،..وإذا بالقلب لا يطمئن لشيء.،,وإذا بالشر يعم الجميع دون استثناء: إني أرى شراً تـأجـج نـاره [c1] *** [/c] وغـديـر مـملكة كثـير الـوالغ والناس قد ركبوا مطايا باطـل [c1] *** [/c] والـحـق وسـطـهـم بـرحل فـارغ (ص268)ونتيجة للتدهور الشامل،الناجم عن فساد الإدارة السياسية وتحولها إلى أداة قمع وجباية،كان أن “استفاض الشعور باليأس وخيبة الأمل في القطاعات الشعبية وبخاصة في العراق حيث مركز الخلافة”(3)إذا كان الفقر،وساد الخوف،فأصبح البؤس يلف بغداد،نتيجة طمع الحكام وجشعهم وظلم عسكرهم:أفـما ترى بلداً أقمت به [c1] *** [/c] أعلى مساكـن أهله خصوولاتـه نبط زنـادقـة [c1] *** [/c] ملأى البطون وأهلها خمصإلى جانب غلاء يرهق الشعب وسيحقه،بينما يجد فيه الحكام سعادتهم:ويرون رخص السعر اغبط في الـ [c1] *** [/c] بلوى وليس بدرهم رخصفكان من الطبيعي،أن تزداد أعداد المحرومين اقتصادياً واجتماعياً،وأن يتحول هؤلاء،إلى قوة معارضة،ربما استغلها المعارضون في مواجهتهم السلطة،.وبخاصة أن تلك الأوضاع،هيأت مناخاً مناسباً،لظهور حركات سياسية ودينية معارضة،وثوارت عدة.،.و الأخطر من ذلك،أنها ساعدت في تكوين كيانات مستقلة عن السلطة المركزية في بغداد،كالطولونيين الذين استقلوا بمصر والشام(254-292هـ)و السامانيين(261-389هـ)والصفاريين(258-295هـ)..وقد حرص(ابن المعتز)على ذكر هذه الثورات،في أرجوزته البالغة أربعمائة وعشرين بيتاً.إذ قدم فيها صورة عن الأحداث والثورات،التي عصفت بالخلافة،منذ منتصف القرن الثالث الهجري حتى أواخره.حيث تناولها من منظور سلطوي مبعثه عصبيته للبيت العباسي،أخذاً على عاتقه مسؤولية الرد على الخصوم،وفضح أهدافهم..فهو في أرجوزته يمثل الناطق الرسمي بسم الخلافة،الذي لا يتوانى-أحياناً عن اللجوء إلى المغالطة التاريخية،في سبيل تأكيد مُلك أسرته،والتغني بانتصارات الخلفاء العباسيين كالمعتمد،والمعتضد،و(المكتفي)الذي سحق دولة(الطولونيين)سنة(292هـ)،وأعاد الشام ومصر،إلى حاضرة الخلافة وكثيراً ما أشاد(ابن المعتز)بالخليفة(المعتمد)وأخيه(الموفق)في هزيمة الزنج والصفاريين:جاء من الشام إلى الفسـطـاط [c1] *** [/c] يحـث عـدو الـخـيل بالسياط وحـارب الـصفار بعد اـلزنـج [c1] *** [/c] فـطـار،إلا إنه في سرج (ص409)كذلك تناول باهتمام ثورات(القرامطة)وما أحدثوه من رعب،وما اقترفوه من جرم،إلى أن تمكن(المكتفي)من كسر شوكتهم:-والقرمطيون ذوو الأجـام [c1] *** [/c] صفوا فقد باؤوا مع الأثـاموأهلكوا إهلاك قوم عاد [c1] *** [/c] وشرعوا شرائـع الفساد (ص421)وفي أرجوزته شخص(ابن المعتز)أسباب ضعف الخلافة،فرأى أن الأتراك،هم بيتُ الداء،واصل البلاء خانوا الخلافة،واستبدوا بأمرها،بل وقتلوا خلفائها..وهنا نجد(ابن المعتز)وقد مزج الخاص بالعام،أو بالأصح،مزج مأساته بمأساة الخلافة،فهما وجهان لعملة واحدة:وكل يـوم ملـك مـقـتـول [c1] *** [/c] أو خائـف مروع ذليل أو خالع للعقد كيما يغنى [c1] *** [/c] وذلك أدنى للردى وأدنى (ص404)فالأتراك قد أمعنوا في إنهاك الخلافة،واستنزاف مواردها،حتى ساد الفقر البلاد،وانتشر الرعب،وعم الخراب:-ويطلبـون كل يـوم رزقـــا [c1] *** [/c] يـرونـه ديـنـاً لـهـم حـقا كذلك حتى أفقروا الخلافة [c1] *** [/c] وعـودوها الرعب والمخافة (ص404)وعلى الرغم من موقف(ابن المعتز)المعادي للمعارضين،وتحيزه الواضح للسلطة بفعل خليفته العباسية،وعلى الرغم من تواضع مستواه الغني في تلك الأرجوزة،التي اقتربت في بنائها من الشعر التعليمي،إلا انه أكسبها قيمة عظيمة،بما ضمنها في أحداث ووقائع،حولتها إلى وثيقة تاريخية عن الحياة الاجتماعية والسياسية في النصف الأخير من القرن الثالث الهجري.وفيها رأينا(ابن المعتز)باحثاً اجتماعياً ومؤرخاً سياسياً..كذلك أظهر من خلال إرجوزته،قوة عصبيته لأسرته(آل عباس)،وإخلاصه وحرصه الشديد على إرثها في الخلافة،مثلما هو حاله في معظم شعره،الذي أظهر فيه صدق نصحه،ودعوته قومه(آل عباس)الحفاظ على ملكهم:يـا آل عباس لعـاً في عـثـرةٍ [c1] *** [/c] لا تركنن إلى الغواة الـحـسدأيـاكم مــن بعد ما أيـاكم [c1] *** [/c] كونوا لها كأراقـم في مرصدوخذوا نصائح حازم متعصـب [c1] *** [/c] بالشيب مجـتمع النهى متأسدشدوا أكـفكم عـلى مـيـراثكم [c1] *** [/c] فالحق أعطاكم خلافـة أحمدفابن المعتز لم يتمرد على أسرته،وإن هم قد أمضوا في ظلمه،والانتقاص من حقه،وسعوا إلى الإضرار به:نبئـت أن قومي [c1] *** [/c] قد دفنوا لي مكراطال عليـهم عـمـري [c1] *** [/c] فاستعجلوا بي القبراأجل،لم ينتفض،بل التزام وأذعن،انتماءً وحفاظاً على تاريخ أسرته،وصوناً لمكانتها،متحملاً ذله وانكساره وتنازله عن حقه في دم أبيه،وفي ملكه الضائع،في سبيل بقاء ملك أسرته:أغمدت عنكم سيفي [c1] *** [/c] وقد ملكتُ اـلنصراصيـانة وعطـفا [c1] *** [/c] لـرحمي وغـفراوهكذا،ظل(ابن معتز)مثقلاً بأمانة الانتماء،فعاش ضد إرادته،يصد أحلامه،ويهزم ذاته،ممزقاً بين بين:الثورة والخضوع...الرغبة والواقع...السلطة والفن...ولما حانت اللحظة الفاصلة أصابته لعنة المُلك،أراد الثأر لنفسه فإذا به ودون إرادته يثأر من نفسه!!..فكان في مماته مثلما كان في حياته بين بين..!![c1]المصادر والمراجع:-[/c]1-د.مصطفى الشكعة:الشعر والشعراء في العصر العباسي-دار العلم للملايين-بيروت-الطبعة الثالثة-1979-ص(741)..2-ديوان عبدالله بن المعتز:تحقيق وضبط(د.عمر فاروق طباع)-توزيع دار القلم-بيروت-ص(351).3-د.عز الدين إسماعيل:في الشعر العباسي الرؤية والفن-المكتبة الأكاديمية،القاهرة-1994م-ص(269)..