ربيع الجمال
منذ ان اوشك وعي يتفتح ، شعرياً وادبياً وثقافياً ، وعلاقتي بالاستاذ محمد سعيد جرادة / الشاعر والانسان / تتعمق ، وتزداد حميمية ، حتى بعد ان غادر الحياة الى العالم الآخر !! كان الجرادة ، على صعيد الشعر والثقافة والمسلكية الانسانية المدهشة ، مثار للتقدير والاعجاب والحب ، علماً انني لا اتجانس مع رؤيته الشعرية ، ومنزعه الفكري الذي ظل وفياً مخلصاً له حتى اخر لحظة من حياته .. ومع ذلك كان الجرادة / ومايزال / العملاق الشامخ الذي كلما احاول الكتابة عنه تنساخ الرؤى والافكار في ذهني حول تجربته الشعرية ، كما تتشطى الذكريات ، وتتبعثر المداعبات والمشاكسات التي لاتخلو من صرامة وجدية الموقف . !!من مداعبتي لاستاذي الكبير وشيخي الجليل ، انني في كا لقاء اقول له : انك ملك الغزل المتوج ، وعظمتك تكمن في قصائد مثل ( وقفة ) تلك القصيد التي تعملق في لحنها وادائها الفنان الذي اثبت انه كبير وهو في مبدأ تجربته الغنائية ، اذ كانت اول عمل غنائي لحنه : ( هي وقفة لي لست انسى ذكرها انا والحبيب في ليلة رقصت من الاضواء في ثوب قشيب ) اوقصيدة ( لقاء ) :( ياحيبي ، اي عيد ، اي سعد سوف تبقى هذه الليلة عندي ) اوقصيدة ( ذات الخال ) ( صفوا حسنها عندي وعطر دلالها فوصفي لها وحدي يعيب جمالها ) في هذه القصائد - دائماً اكرر عندما التقيه - يبدو الجرادة شاعر القمم الخالدات ، وقد زادها خلوداً ، اخراجها في قالب موسيقي وادائي جميلين .. وفي كل لقاء تتفتق ذاكرة الجرادة - رحمه الله -ليروي تفاصيل تجربته الانسانية الخاصة بكل قصيدة من هذه القصائد .ربيع الجمال .. وعناق القمتينبعد نجاح تجربة الجرادة / رحمه الله / الابداعية مع الفنان المبدع محمد مرشد ناجي / اطال الله في عمره / تفتحت شهية المطربين الكبار في البحث والمغامرة والدخول في تحد مع قدراته واستعداداتهم الموسيقية ، وكانت قصائد الجرادة بسمو فنياتها ، وصرامه هيكليتها افراساً للرهان على قوة مواهبهم .. وكان الفنان الكبير سالم بامدهف / بموهبته الفذة لحنا واداءً / احدهم عندما اقدم على اختيار احدى روائع الجرادة ، قصيدة ( ربيع الجمال ) لتلحينها اوادائها .. ومعلوم ان سالم بامدهف لم يدخل التجربة او يغامر في عملية تلحين هذه القصيدة ، الا وقد تأسست موهبته على تراكمات من الاعمال البديعة منذ بداية حياته الموسيقية ، وتحديداً في خمسينيات القرن الماضي ، عندما شكل ثنائياً جميلاً مع الشاعر الكبير الفقيد الدكتور محمد عبده غانم ، لاسيما بعد ان اعتور العلاقة بينه وبين الفنان خليل محمد خليل شيء من الفتور اوجفاء المحبين ! .. وكان بامدهف حظي بنصيب الاسد من نصوص رائد الشعر الغنائي ، لاسيما النص المكتوب باللهجة العدنية . اما اول لقاء جمع بين الجرادة وبامدهف فنياً ومثل - بحق - عناق القمتين فقد كانت اغنية ( ربيع الجمال ) وهي بكل المقاييس تعبير حقيقي عن عنوانها الذي ينطوي على نمو الاغنية اليمنية وازدهارها وجماليات قيمتها المؤثرة في نفوس سامعيها . ولعلني لا اخفي / وهذا لاجدال حوله / انني كلما اسمع ( ربيع الحب ) اوغيرها من الاغاني الخالدات تسمو وجداناتي ، وتتطهر روحي من الاتساخات التي تتراكم حولها بفعل سيل الغناء التي تبثه اجهزتنا العربية المرئية والمسموعة للدراويش من الذين دخلوا ساحة الطرب بالحق او الباطل بعد ان اضحت بوابتها مفتوحة وغابت المعايير وسادت الفوضى وتساوى الشعر مع اللاشعر ، واللحن مع اللالحن ، واعوذ بالله من كل مقتحم اثيم ساحة الفن العظيم !!ان قصيدة كربيع الحب بما تحتشد من قيم - على مستوى المضمون والشكل - تفجر امام النقاد - وربما المتلقي عبر الاحساس - عدداً من القضايا من المتعسر هنا من محاصرتها ، سواء فيما يتعلق بكيفية الادائية اللغوية ( تركيبة التعبير والجمل الشعرية ) او فيما يخص المسألة الايقاعية ، لاسيما وان القصيدة تمازج - عبر تناعم ابياتها - بين ابعاد ايقاعية مختلفة ، ونغمية يضخها بحر الرمل - وهو من اكثر البحور صخباً في موسيقاه ، لهذا فهو من اكثرها قرباً للغناء وتنغيمة تنبع من تلاحم وتعاضد المفردات مما يعمق الحالة او الموقف الانفعالي للشاعر ، ويكشف في الان ذاته طبيعة الصلة بين الشاعر المخاطب والحبيب المخاطب !!وهنا اتساءل - واعتقد ان لتساؤلي مشروعيته - الم اكن محقاً في قولي ان غزليات الجرادة اكثر سمواً من شعره / اوقل من بعضه (؟!) في الاغراض الشعرية الاخرى ؟؟