مع الأحداث
* بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام- مباشرة- ورغم هول الحادثة التي هزت كبار الصحابة أنفسهم يجتمع المسلمون أنصاراً ثم مهاجرين، في سقيفة بني ساعدة ويمارسون لأول مرة في تاريخهم حواراً مفتوحاً يقوم على الكلمة والإقناع، لاختيار مرشحهم الذي سيخلف رسول الله في قيادة الأمة وسياسة دولتها الناشئة.. ما استل سيف ولا أريقت قطرة واحدة من دماء.يطرح الأنصار مرشحهم معتقدين أنهم الأحق بأن يكون الخليفة منهم وهم الذين أيدوا الرسول(صلى الله عليه وسليم) ونصروه وبإرادتهم أتيح للحركة الإسلامية ان تجتاز مرحلة الدعوة التي استهدفت تكوين الإنسان المسلم والجماعة المسلمة الى مرحلة الدولة التي تملك برنامج عمل سياسياً وتشريعياً لتغيير العالم بدءاً من جزيرة العرب.* ويهرع المهاجرون لإقناع الأنصار بأنهم الأحق بذلك فهم طليعة الإسلام الأولى وعلى أكتافهم شقت الدعوة طريقها في ظروف بلغت الغاية في عنفها وقسوتها يعود بعض الأنصار فيطرح فكرة القيادة الثنائية المشتركة فيصر المهاجرون على ضرورة وحدة القيادة وان بمقدور رفاقهم الأنصار ان يعملوا من خلالها ويعبروا عن طاقاتهم ومطامحهم في إطارها(منا الأمراء ومنكم الوزراء).ومن أجل ألا يطول النقاش وتنفتح ثغرة قد تتسلل منها المشاكل وتنفذ منها الحساسيات في وقت كانت وحدة الجماعة فيه تمثل المهمة الأكثر إلحاحاً تقدم عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لكي يشير إلى المرشح الذي لابد من تحديده في مناقشات كهذه وكان ابا بكر (رضي الله عنه) ولا ريب فثمة ماضيه العريق في خدمة الدعوة، وصحبته لرسول الله (صلى الله عليه وسليم) في أشد اللحظات خطورة وثمة مواقفه الحاسمة في تاريخ الكفاح وشهادات الرسول القائد(صلى الله عليه وسليم) في رفيقه وصديقه، وثمة -أيضاً- تعاطف المسلمين أنفسهم مع أول رجل في الإسلام بعد رسول الله(صلى الله عليه وسليم).تمت البيعة الأولى( الخاصة) في السقيفة نفسها، لكن ماتلبث جموع المسلمين أن تنهال على مسجد الرسول(صلى الله عليه وسليم) مبايعة خليفتها الأول البيعة العامة. وفي البيئات الحرة لا نكاد نلتقي بتجربة انتخابية يجمع فيها الناس كافة على مرشح واحد، لا نلتقي بحركة أرقام صماء تتجمع بإرادة مسلوبة .. لابد أن تكون هناك معارضة واعية وناضجة، ولابد أن تتضمن هذه المعارضة قدراً من الرفض لهذا السبب أو ذاك ولكن الأكثرية الساحقة هي التي اختارت ابابكر الصديق (رضي الله عنه).ليستلم الرجل المهمة الصعبة وليتحمل المسؤولية بالأمانة التي عرف عنها أصحاب الرسول (صلى الله عليه وسليم).وفي المسجد طرح ابوبكر( رضي الله عنه) برنامج عمله السياسي وتصوره العقلاني بكلمات قلائل قال:«أيها الناس إني وليت عليكم ولست بخيركم، ان أحسنت فأعينوني وان أسأت فقوموني- الصدق أمانة والكذب خيانة. والضعيف فيكم قوي عندي حتى اخذ له الحق والقوي فيكم ضعيف عندي حتى اخذ الحق منه ان شاء الله.لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله الاضر بهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط الاعمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم».ان الخليفة الأول يؤكد هنا على الحقائق الأساسية التي يتوجب إعلانها والالتزام بها إذا ما أريد للقيادة الجديدة ان تواصل السير على الطريق التي بدأها الرسول(صلى الله عليه وسليم) فالخليفة رجل من الناس، واحد من جماهير الأمة منحته باختيارها الولاية عليها وهو بسبب من ماضيه ومن تقييم النبي (صلى الله عليه وسليم) له ومن كفاءته الخاصة قد نال هذا الشرف، لكن هذا لا يعني انه رجل فوق سائر الناس من طينة أخرى غير طينتهم كما تصور الناس أو صور لهم في عصور الوثنيات وظلال الآلهة في الأرض.وهكذا من خلال أول تجربة انتخابية في تاريخنا السياسي، يحضر الخليفة الأول في أذهان الأمة هذه الحقيقة الخطيرة التي تمتد انعكاساتها إلى سائر مساحات الحياة وفاعلياتها أن الرجل المنتخب هو واحد من الناس وليس فوق الناس وأنه ليس ثمة ظل لله في العالم، فهو مجرد إنسان قد يخطئ وقد يصيب وهو بالتالي يريد أن ينمي الحس النقدي ومسئولية الرقابة في نفوس الناس.