محمد زكريا:المكان :قلعة القاهرةعندما كان البرق يلمع ويضيء القاهرة المعزية الذي لفها الظلام الدامس ، والرعد يزأر كزئير الأسد الغاضب الجريح ، والمطر الغزير ينهمر من السماء كأنه قرب ماء تصب على العباد والبلاد . كان السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي يذرع المكان ذهابا وإيابا في مقر حكمه بقلعة القاهرة الشامخة التي تطل على المدينة العتيقة , وظهر على وجهه ملامح الغضب الشديد , وبصوت قوي ونبرات غاضبة يستدعي حاجبه نور الدين ، ويطلب منه أن يستدعي أخاه قائد الجيش توران شاه في التو والحال . ولم يمض وقت قصير حتى حضر توران شاه بين يدي السلطان , وكان يبدو عليه الانزعاج والقلق الشديدين .[c1] * في دمشق:-[/c]توران شاه : يبدو أيها السلطان المعظم أن هناك شيئا جللاً وخطيراً استدعيتني من أجله للمثول أمامكم بهذه السرعة. يتوقف توران شاه برهة عن الكلام ، ويمضي في حديثه قائلا : هل هناك إضطرابات وقلاقل ، وفتن أشعلها الحاقدون في بلاد الشام ، هل ترغب أن أزحف بجيشنا لإخمادها . ويسترسل توران شاه : أنني على استعداد في اللحظة والتو على التوجه فورا إلى بلاد الشام إذا أمرتم بذلك .السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي ، ينظر إلى أخيه توران شاه بن أيوب ، والغضب يطل من عينيه .قائلا : ـ بصوت عميق ونبرات واثقة ـ أن الأحوال في دمشق وأعمالها هادئة ، والأمور هناك تسير على خير ما يرام , ولكن هناك ـ ويصمت السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي برهة ـ ويخفض رأسه ثم يرفعه . وقد أزداد ملاح الغضب على وجهه .ينظر توران شاه إلى أخيه السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي ، بتعجب شديد متسائلاً ما الأمر الذي أزعج سلطاننا المعظم الناصر صلاح الدين إلى تلك الدرجة؟! ويستطرد قائلاً:أيها السلطان المعظم ، الحقيقة لا أدري ما الأسباب التي جعلتكم ، تقلقون ذلك القلق الشديد الذي أطل على وجهكم ؟ والمعروف عنكم أنكم لا تغضبون ولا تنزعجون أمام المحن ، والخطوب ، والفتن . ولقد كان يتسرب إلينا القلق جميعا ولكنك الوحيد التي كنت تشعرنا بالثقة والثبات والنصر المبين في ساحة القتال وفي مواجهة الأخطار الجسيمة التي مازالت تحدق بنا من كل مكان من جانب الفرنج الصليبيون في بلاد الشام ، وفلسطين الذين مازالوا يدنسوها بأقدامهم .[c1] *بزوغ فجر القدس:-[/c]ويمضي توران شاه في حديثه : لقد تمكنتم بحنكتكم العسكرية ، وخبرتكم الواسعة في نظام الحكم والسياسة أن تتغلبوا على كافة الصعوبات الواحدة تلو الأخرى . ولقد تحطمت كل محاولات حملات الإفرنج المؤخرة التي جاءت من أوربا على صخرة إصراركم , وعزيمتكم القوية التي لا تلين , ولقد شهد لكم العدو قبل الصديق ذلك. ويمضي في حديثه ، قائلا : وهاهو بزوغ فجر تحرير القدس قريبا بإذن الله بعد أن ظل حبيس الفرنجة الصليبين ردحا من الزمن , وهاهي إمارات الفرنجة تسقط الواحدة تلو الأخرى في قبضتكم القوية كما تسقط أوراق الشجر اليابسة في الخريف .[c1] *مع الخلافة العباسية:-[/c]((و يقطع السلطان الناصر صلاح الدين حبل كلام توران شاه فجأة . وقد جلس على سرير المُلك )) , وقال متسائلا : " ألم نسقط الدولة الفاطمية في مصر ونقضي على نفوذها السياسي نهائياً ؟ بعد أن استمرت نحو أكثر من قرنين من الزمن تحكمها وتحكم بلاد الشام .(( ويستطرد السلطان الناصر صلاح الدين يوسف الأيوبي )) ، قائلا : ألم نقطع اسم الخليفة الفاطمي العاضد من الخطبة ؟. ودعونا على منابر الجوامع في مصر والشام اسم الخليفة العباسي المستضيء ؟ . وبذلك عادت مصر أكبر الولايات وأهمها وأخطرها في العالم العربي والإسلامي إلى سلطان الخلافة العباسية التي كانت قد فقدتها منذ زمن بعيد .[c1] *" وقعنا في شبك الوهم ":-[/c](( ويصمت السلطان المعظم الناصر صلاح الدين الأيوبي , ولقد همه كرباً شديداً ظهر على تعبيرات وجهه )) . ويقول : لقد ظننا أننا قضينا على النفوذ الفاطمي السياسي نهائيا في الوطن العربي ، وصار أثرا بعد حين ، ولكننا أخطأنا يا توران شاه , ولكن قل إن شئت وقعنا في شباك الوهم والغرور الذي سيطر على تفكيرنا بأن الفاطميين قد محوناهم من خريطة العالم العربي السياسي . في الوقت الذي يسيطرون في تلك اللحظة على بقعة هامة من الوطن العربي والتي لا تقل خطورة وأهمية عن مصر. وهي اليمن التي تعد أكبر الولايات في العالم العربي التي تتحكم بالبحر الأحمر.[c1] *اليمن ومصر:-[/c]ويستطرد السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي ، فيقول : لقد ترامت إلى مسامعنا أخبار خطيرة وهي أن نفوذ الفاطميين مازال مسيطراً على عدد من مدن اليمن على سبيل المثال عدن ثغر اليمن الذي يحكمها الآن حكام بني زريع وهم امتداد للنفوذ الفاطمي وهي كما تعلم أنها تمثل المدخل الحقيقي لجنوب البحر الأحمر , والمطلة على البحر العربي وعلاوة على قربها من الحجاز ، و أخشى ما أخشاه أن يستغل الفرنجة الصليبيون موقعها وينفذون منها إلى بلاد الحجاز ومن ثم يهددون الحرمين الشريفين مكة و المدينة المنورة ، ويسترسل قائلا: والحقيقة أن اليمن تعيش في تلك اللحظة فراغ سياسي كبير ، فالقلاقل والإضطرابات والفتن مشتعلة في كل مكان فيها . ونحن نرى أنه من الضرورة بمكان أن نسيطر على الأوضاع السياسية في تلك الولاية الكبرى الهامة من الوطن العربي ـ ، فمصر واليمن يكملان بعضهما البعض وبينهما جغرافية وتاريخ مشترك . فمصر تتحكم بطرف شمال البحر الأحمر واليمن تتحكم بطرفه الجنوبي .[c1] *تتقاذفها الأهواء السياسية:-[/c]توران شاه الأيوبي : وأنني أكاد أجزم أن الصليحيين في اليمن ذهب ريحهم , وانكسرت شوكتهم، وخصوصا بعد وفاة أعظم سلاطين وملوك الدولة الصليحية وهي الملكة الصليحية سيدة بنت أحمد الصليحية في سنة 532هـ . وصارت اليمن ـ كما قلتم أيها السلطان المعظم ـ تتقاذفها الطموح ، والأهواء السياسية , ولم يعد على حسب علمي شخصية سياسية قوية أو قوى سياسية تستطيع أن تصل اليمن إلى شاطئ الأمان والاستقرار السياسي . ويمضي في حديثه , قائلا : " وتلك فرصة سانحة للانقضاض على اليمن , وأعادت الأمن والهدوء فيها , وأولا وقبل كل شيء القضاء على البقية الباقية من النفوذ الفاطمي . هذا إذا كان هناك نفوذاً لهم في اليمن .[c1] *الأيوبيون قادمون:-[/c]السلطان الناصر صلاح بن يوسف أيوب : لقد وصلني رسالة من الخليفة العباسي المستضيء بالله يحثني على تحريك عساكرنا إلى اليمن لبسط سيطرة الخلافة هناك وذلك بعد طلب وإلحاح من أشرافها اليمنيين . ولقد بعث الكثير من وجهائها ، وعلمائها ، وفقهائها رسائل لي وللخليفة بضرورة الإسراع لإنقاذ اليمن من مخالب عبد النبي بن علي بن مهدي الذي نهب , وسلب ، وخرب وأحرق الأخضر واليابس وأهلك الضرع والنسل . وقيل لنا أنه من الخوارج . ويواصل السلطان الناصر بن أيوب حديثه ، فيقول : على أية حال علينا بتجيش الجيوش بأسرع ما يمكن ، والتحرك بها نحو اليمن وأعادت الاستقرار والهدوء إلى ربوعه من ناحية والقضاء على البقية الباقية من نفوذ الفاطميين فيه من ناحية أخرى .[c1] *الطريق إلى زبيد:-[/c]وتذكر المصادر التاريخية أن عسكر السلطان الناصر صلاح الدين بن أيوب تحركت صوب اليمن بقيادة توران شاه , وكانت أول المدن اليمنية الساحلية الهامة التي سقطت بقبضة الأيوبيين هي زبيد وذلك في يوم الاثنين 9 شوال 569هـ . وفي 13شوال من سنة 569هـ ، قتل عبد النبي بن علي بن مهدي على يد توران شاه وبذلك انتهت دولة بني مهدي في زبيد من خريطة اليمن السياسي . وزحف الأيوبيون على العديد من مدن اليمن الهامة مثل تعز ، والجند وغيرها من مدن اليمن . ويقال أن من الأسباب الحقيقية وراء سقوط المدن اليمنية الهامة بيد الأيوبيين بتلك السهولة والسرعة يعود إلى أن اليمنيين سأموا الحروب الداخلية بين الأمراء المستمرة والتي كانت عليهم وباءاً وشراً مستطيراً على أمنهم واستقرار حياتهم من ناحية أن الأيوبيين كانوا قوة كبيرة في العدد والعدة تمكنت من التغلب على القوى السياسية المحلية المتفرقة والمتناحرة من ناحية أخرى .[c1] *عدن الخزانة العظيمة:-[/c]والحقيقة أن السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي ، قبل رحيل وتحرك قوات توران شاه صوب اليمن البالغة ثلاثة آلاف ـ حسب قول أحدى الروايات التاريخية ـ أوصاه بضرورة الاستيلاء على عدن وأحكام قبضته عليها لأنها تمثل الخزانة العظيمة لكل من يسيطر عليها ، فهي تمثل فرضة اليمن لكونها ميناء هام يربط عبر الطريق البحرية مصر , والهند , وتجار الشرق والغرب فهي مورد مالي ضخم لخزانة الدولة . وأوصاه عند دخوله المدينة بعدم التعرض لأهلها ، وعدم النهب ، والسلب فيها , فإن أهلها أناس مسالمون لينوا العريكة فضلا عن أن بها جالية كبيرة من القاهرة ، والإسكندرية ، والصعيد .[c1] *بني زريع:-[/c]وكيفما كان الأمر ، فلقد ذكرت المصادر التاريخية أن توران شاه بعد أن احكم قبضته على تعز , والجَند ، وأعمالها من القرى المختلفة , وجد أن الطريق مفتوحاً إلى عدن ـ الخزانة العظيمة على حسب ما قاله السلطان الناصر صلاح الدين بن أيوب ـ . وتذكر ـ أيضاً ـ المصادر التاريخية بأن عدن سقطت بيد الأيوبيين في 20ذي القعدة سنة 569هـ / 1174م بعد معارك سريعة وقصيرة مع بقايا بني زريع الذين كانوا ولاة للصليحيين في عدن ، ثم انسخلوا منها تماما وخصوصا بعد وفاة الملكة الصليحية سيدة بنت أحمد الصليحي سنة ( 532هـ /1138م ) ,آخر ملوك الدولة الصليحية في اليمن .[c1] *كيف سقطت عدن ؟[/c]ونرى أنه من الأهمية بمكان أن نذكر ما قالته المصادر التاريخية عن تلك المعارك التي دارت رحاها على أرض عدن وبالأحرى بالقرب منها وعلى وجه التحديد في لحج . , والأسباب التي أدت إلى هزيمة القائد ياسر بن بلال آخر قادة بني زريع أمام الأيوبيين , ونقتبس ما قالته الرواية التاريخية في ذلك الصدد : " ... وقد أنحى ابن الأثير ، وابن كثير باللائمة على ياسر، لتركه عدن وهربه منها ، وذكرا أن بمقدوره مقاومة الأيوبيين والوقوف أمام زحفهم وذلك لو بقي في عدن ولم يخرج منها ، فيعودوا خائبين ، لكن جهله هو الذي حمله على الخروج ومباشرة قتالهم " . ويعترض الدكتور محمد كريم الشمري على قول ابن الأثير وابن كثير على أن أسباب هزيمة القائد ياسر بن بلال آخر قادة بني زريع من الأيوبيين هو عدم تحصنه في المدينة , وهروبه منها ، قائلا : " وفي رأينا أن ياسراً لم يكن بمقدوره مقاومة الأيوبيين وصد زحفهم على عدن إلا لبعض الوقت ثم يضطر للاستسلام ؛ بسبب كثرة الجيش الأيوبي وقوته , إلى جانب ضعف إمارة بني زريع في عدن في أواخر عهدهم بصورة خاصة ".. ويعطينا حسن صالح شهاب في كتابه (( عدن فرضة اليمن )) معلومات أكثر وضوحاً حول كيفية استيلاء توران شاه لمدينة عدن فهو يقول أن الأيوبيين بقيادة توران شاه عندما اقتحمت عدن انقسمت إلى قسمين قسم أتجه صوب البحر ، وقسم آخر أتجه نحو البر وبعبارة أخرى أن القوات الأيوبية لم تخترق عدن من جهة البحر فحسب بل من طريق البر لكي تضمن النصر على قوات بني زريع من ناحية وتحكم قبضتها على منافذ عدن من ناحية أخرى . وفي هذا الصدد ، يقول : " ويبدو أن فتح توران شاه لعدن كان من جهة البر والبحر". ويقول صالح شهاب بما معناه : " توران شاه استعمل مراكب حربية لم تكن معروفة من قبل في اليمن وهي الشواني ( جمع شونة ) ، لم يأت بها توران شاه من مصر إلا لغرض محاصرة الموانئ اليمنية ومهاجمتها من ناحية البحر . ففتح عدن من جهة البر كان أمراً صعباً ، ولم يكن يتم إلا بتواطؤ حاميتها المرتبة على الجبال المحيطة بها من جهة البرزخ , وربما يقصد من جهة باب العقبة .[c1] *المؤامرة:-[/c]والحقيقة هناك مسألة يجب الوقوف عندها وهي أن اقتحام عدن من جهة البر أمر صعب ـ حسب قول حسن شهاب ـ وذلك لوجود الحامية العسكرية في حصونها المتربعة على قمم رءوس الجبال والتي في إمكانها أن تمنع القوات المعادية التي تحاول اختراق عدن من جهة البر وتحدث بها خسائر فادحة ، وتردها على أعقابها خاسرة . ولكننا نستشف أنه كانت هناك مؤامرة مدبرة أو قل إن شئت خيانة من الحامية التابعة لقوات بني زريع لترك القوات الأيوبية العبور إلى عدن عبر البر . وهذا ما أكده حسن شهاب ما نصه : " ولم يكن يتم إلا بتواطؤ حاميتها " . وكيفما كان الأمر, فقد سقطت عدن في حوزة توران شاه وصارت تحت حكم الدولة الأيوبية .[c1] *"جئنا لنملكها ونعمرها ":-[/c]والحقيقة أن المصادر التاريخية تذكر أن العسكر الأيوبيين بعد هزيمة بقايا بني زريع دخلوا المدينة , وقاموا بنهبها وسلبها لمدة ثلاثة أيام بلياليها , وساد الذعر والخوف بين سكانها وتقول أحدى الروايات التاريخية بأن توران شاه لم يستطع في الأيام الأولى السيطرة على الجند عند دخولهم عدن الذين قاموا بنهب وسلب المدينة ، وترويع أهلها وكان من جراء ذلك أن التقى وجهاء المدينة ، وعلماءها ، وفقهاءها ، وكبار مشايخ الطرق الصوفية توران شاه يطلبون منه وقف ذلك النهب والسلب للمدينة وعدم ترويعهم لأهلها الآمنين . وبالفعل استجاب توران شاه فورا إلى مطالبهم . وأصدر أمره إلى عساكره بالتوقف عن أعمال السلب والنهب, وترويع الأهالي , قائلا لجنده : " ما جئنا لنخرب البلاد ، وإنما جئنا لنملكها ونعمرها وننتفع بدخلها " . وتشير الرواية التاريخية أن توران شاه نشر الأمن والطمأنينة والعدل بين الناس . ويقول الخزرجي ما نصه : " وقد سار توران شاه في الناس سيرة حسنة عادلة ، فأحبوه وأقام فيها أياماً " . وذكرت المصادر أن عدناً في عهد حكم توران شاه شهدت ازدهاراً ونشاطاً اقتصادياً كبيراً ، وحركة تجارية واسعة . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم في كتابه (( الفتح العثماني الأول لليمن )) ما نصه : " ومن المعروف أن الأيوبيين قد اهتموا بتنمية ميناء عدن بعد دخولهم إلى اليمن ، فارتفعت إيراداته أضعاف ما كانت عليه في العهد السابق عليهم " .[c1] *ووقع في حبها:-[/c]ويقال أن توران شاه كان معجبا بمدينة عدن إعجابا كبيرا أو قل إن شئت لقد وقع في حبها . ولقد سكن في دار السعادة ـ وقيل أنها كانت لبني الخطباء : " تجار من أهل مصر" ـ وهو مكان يقع على تل مرتفع يطل على البحر ، وقريب من جبل صيرة وعلى وجه التحديد في ( حقات ) . ويقال أن توران شاه كان ينوي البقاء فترة طويلة فيها . وأن تكون أقطاعية له وذلك بعد موافقة السلطان الناصر صلاح الدين بن أيوب مثلما وهب له أقطاعية قوص في صعيد مصر . وبالفعل بدأ يعد العدة في عدن للاستقرار والإقامة فيها فترة طويلة من الزمان , فبدأ يتقرب إلى العلماء ، والفقهاء ، وتجار المدينة ووجهاؤها ـ قلنا سابقا ـ , وقام بتحسين مينائها ، مما ساعد على ازدياد حركة نشاط التجارة في الميناء أو فرضة اليمن ـ حسب قول المؤرخون القدامى ـ .[c1] *تحصين المدينة:-[/c]ويذكر صاحب سيرة توران شاه أنه أهتم بتحصين المدينة وخاصة من جهة جبل صيرة ، فعمل على أعادة بناء سورها بشكل متين بعد أن تهدم في عهد بني زريع حيث كان سوراً ضعيفاً البنيان وكان بناؤه بهدف عدم التعرض للإغارة من الطامعين الغزاة من ناحية البحر . وإلى جانب ذلك وضع ثلة من الجنود في القرب من البحر لمراقبة أية خطر قد يداهم المدينة وأهلها . وتقول المصادر أنه في عهده أقام الكثير من الحصون والأبراج على بعض جبال عدن . ولقد شحنها بالرجال ، والسلاح ، والمؤن . ولذلك شهدت عدن وغيرها من مدن اليمن المهمة كتعز ، والجَند الأمن والاستقرار السياسي ، وانتعشت الحياة الاقتصاد فيها انتعاشاً كبيراً في عهده ـ كما سبق وأن شرنا ـ .[c1] *صفات توران شاه:-[/c]ويذكر صاحب سيرة توران شاه ، أنه كان شاعرا مجيداً ، وكانت الأغلب والأعم من شعره في الحماسة وبعض منها في شعر الغزل العفيف . وكان مجلس حكمه في ( دار السعادة ) في حقات بالقرب من جبل صيرة لا يخلو من الأدباء ، والشعراء ، والعلماء ، والفقهاء ، وفي مجلسه هذا كانت تدور الكثير من مسائل العلوم الشرعية وفي مجلسه كان الشعراء يلقون الشعر أمامه. ولقد ضم في مجلسه الكثير من مشايخ الصوفية الكبار من مختلف فئات الصوفية . ولقد كان حفيا بهم يقربهم إليهم بسبب بما كانوا يتمتعون به من نفوذ بين الخاصة والعامة من أهل عدن . والحقيقة أن بين أيوب وعلى رأسهم سلطانهم صلاح الدين الأيوبي كان يقربهم إليه بهدف القضاء على النفوذ السياسي الفاطمي في مصر والذين كانوا في عداء شديد مع الفاطميين . ولقد أدوا ـ كذلك ـ دورا مهماً في إثارة حماسة الناس في أثناء الحروب الصليبية أو بعبارة أخرى في تعبئتهم ضد الفرنج الصليبيين . وقيل أن توران شاه كان صدره واسعاً لمختلف الآراء ، والأفكار التي كان يسمعها من وجهاء المدينة وشيوخها الكبار . ويذكر أيضاً صاحب سيرته أن بابه كان دائما مفتوحا لشكاوى العامة من الناس . وأنه ذو نظرة ثاقبة ، وحكمة عميقة ، ورؤية متأملة . ويرسم المؤرخ بامخرمة في كتابه ( تاريخ ثغر عدن ) صورة واضحة ودقيقة عن ملامح شخصية توران شاه ، قائلا : " ... كان ملكا ضخما شجاعا شهما فارسا مقداما " . وذكر المؤرخون بأن اسم توران شاه يعني ملك المشرق. وكان من الطبيعي أن تلك الصفات في توران شاه أن تنشر رداء الطمأنينة في الرعية ، وتستقر الأوضاع السياسية ، وتزدهر الحياة الاقتصادية ـ كما قلنا سابقا ـ .[c1] *صلاح الدين وتوران شاه:-[/c]وتروي إحدى الروايات التاريخية أن توران شاه أكبر أخوة السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي ، فكر وقدر على تأسيس ملكاً عضوضاً له ولأبنائه من بعده في اليمن ومن بينها عدن , ويبدو أنه كان يشعر بينه وبين نفسه أنه أفضل من السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي أو نداً له . وهذا ما أكده محمد الشمري نقلا عن ابن تغري بردي ، قائلا : " ويذكر ابن تغري بردي أن توران شاه كان أكبر سنا من أخيه صلاح الدين ، وكان الأخير يحترمه ويرجحه على نفسه ، وكان في نفسه من المُلك ، ويرى أنه أحق من أخيه ، وتصدر منه كلمات في سكره ضد أخيه صلاح الدين ، وبلغ ذلك صلاح الدين ، فأغزاه بلاد النوبة في جمادى الأول سنة 568هـ / 1172م لفتحها ، فوجدها لا تساوي التعب ، وعاد منها بغنائم كثيرة ، وأضاف أن صلاح الدين أبعد توران شاه حين بعثه إلى اليمن ، وذلك حين عرف بسوء سيرته وإيقاعه به في كلامه عند سكره " .[c1] *نفوذ مصر في اليمن:-[/c]ونرى أن ما قاله ابن تغري بردى أن سبب إرسال السلطان الناصر صلاح الدين أخوه توران شاه إلى اليمن هو أبعاده عن مصر والتخلص من مشاكله . فقد جانب الصواب , في الواقع أن الأسباب الحقيقة وراء إرسال الناصر صلاح الدين أخوه الأكبر توران شاه إلى اليمن هو دعم نفوذه السياسي والعسكري فيها , وهذا ما أكده الدكتور قاسم عبده في كتابه ( في تاريخ الأيوبيين والمماليك ) ، بقوله : "... أن فتح اليمن على يد توران تاه كان دعمّاً لمركز صلاح الدين السياسي والعسكري من جهة ، وضماناً لسيطرته على البحر الأحمر بما له من أهمية دينية واقتصادية من جهة أخرى . ويزيد الدكتور سيد مصطفى سالم في توضيح الأسباب الحقيقية والمباشرة التي دفعت صلاح الدين إلى فتح اليمن ، فيقول : " ولا شك في أن امتداد نفوذ الفاطميين إلى اليمن كان من بين العوامل التي شجعت صلاح الدين الأيوبي على إرسال جنوده إلى اليمن عندما استنجد به أمراء المخلاف السليماني في (( جيزان )) ضد علي بن مهدي الخارجي في (( زبيد )) . وكان صلاح الدين يرى في نفوذه إلى اليمن تدعيما لمركزه في مصر بعد أن قضى على الدولة الفاطمية وأعلن الخطبة للخليفة العباسي ، كما كان يهمه أن يبقى نفوذ مصر في اليمن والحجاز مثلما كان الأمر في عهد الفاطميين ، وحتى تستفيد خزائنه من جراء سيطرته على موانئ البحر الأحمر حتى اليمن جنوبا ".[c1] *اليمن والفرنج الصليبيون:-[/c]ويضيف قائلا : " وبالإضافة إلى هذا ، فقد كان استيلاء صلاح الدين على اليمن جزءاً من خطته لتدعيم سيطرته على أقاليم البحر الأحمر المختلفة وخاصة الحجاز للدفاع عنها ضد هجمات الصليبيين الذين كانوا قد وصلوا حينذاك إلى رأس خليج العقبة وأنزلوا سفنهم إلى مياه البحر الأحمر لتهديد الحرمين الشريفين , وباقي سواحل هذا البحر " . هذا بالنسبة للدوافع الحقيقية وراء إرسال صلاح الدين جنوده إلى اليمن .[c1] *عدن الخزانة العظيمة:-[/c]ومن المحتمل أن خروج توران شاه إلى اليمن كان لأمراً خاصاً به أو مسألة كانت تدور في ذهنه منذ أن قرر صلاح الدين إرساله على رأس حملة إليها وهي السيطرة عليها وخصوصا عدن التي كانت تمثل الخزانة العظيمة للدول التي تعاقبت على السيطرة عليها وهذا ما أكدته الأحداث فعندما حاصر الأسطول البرتغالي ميناء عدن في عهد السلطان عامر بن عبد الوهاب المقتول سنة ( 523هـ / 1517م ) . فقد " حرم الحصار البحري السلطان عامر من (( الخزانة العظيمة من المال ومن الذهب والفضة )) التي كانت تحمل إلى خزانة السلطان من (( عدن )) " . وعلى أية حال ، فقد أكد الدكتور قاسم الشمري بأن توران شاه كان يطمح ويخطط للاستيلاء على اليمن أو بعبارة أخرى أن تكون من ضمن إقطاعياته مثلما كانت مدينة قوص في صعيد مصر , وفي هذا الصدد يقول : " طموح توران شاه في التوسع واعتبار اليمن إقطاعا له يجبي أموالها ويصرفها على رغباته الخاصة ، كما كنت مدينة قوص إقطاعا له في مصر " .[c1] *عدن إقطاعية له:-[/c]وفي واقع الأمر ، أن توران شاه لم يكن ينوي أن يكوًَّن دولة خاصة به في اليمن , ويكون كرسي حكمه في عدن ــ كما قيل ــ ، أو بعبارة أدق أن ينسلخ عن كيان وجسد الدولة الأيوبية الذي أسسها السلطان صلاح الدين المتوفى سنة (589هـ /1193م ) . والحقيقة أنه كان ينوي أن تكون اليمن بصورة عامة وثغرها عدن بصفة خاصة التي كانت تمثل الخزانة العظيمة للدول التي تسيطر عليها والتي كانت تمدها بالمال ، والذهب ، والفضة ـــ كما قلنا سابقا ـــ إقطاعية له مثلها مثل قوص في صعيد مصر ، أو الإسكندرية ، تكون مورداً مالياً ضخماً يصرف فيها على شؤونه الخاصة به . والسؤال الذي يطل برأسه هو هل طلب توران شاه من أخيه السلطان صلاح الدين أن تكون اليمن إقطاعية له ؟ . والحقيقة أن الروايات التاريخية تحجب عن الإجابة على ذلك السؤال . ومن المرجح أن توران شاه أراد وضع أخيه صلاح الدين أمام سياسة الأمر الواقع بأن اليمن صارت إقطاعية له وذلك من خلال اتخاذه العديد من الإجراءات عديدة تتمثل في تقوية نفوذه السياسي في اليمن بصورة عامة ، وعدن بصفة خاصة منها على سبيل المثال فقد قام بتولية نواب له من أهل الثقة من القادة الذين يعتبرون من الموالين له في الكثير من مدن وحصون اليمن . وفي هذا يقول الدكتور محمد كريم الشمري : فقد " عين توران شاه نوابا في بلاد اليمن قبل مغادرتها ، فكان عز الدين أبو عمرو عثمان بن علي الزنجيلي أو ألزنجبيلي التكريتي ـــ نائبه في عدن وأعمالها ، وهذا يعني أنه كان نائباً على لحج وأبين والشحر وحضرموت وهي أعمال عدن وتوابعها ، مما يدل على قوة شخصيته ومكانتهالسامية عند توران شاه ، واعتماده عليه في ضبط تلك المنطقة , وإدارتها ".[c1] *عدن والأمير ألزنجبيلي:-[/c]والحقيقة أن الروايات التاريخية تشير إلى أن الأمير عثمان ألزنجبيلي استخدم أسلوب القسوة والعنف والشدة مع كل من يعارضه في طريقة حكمه بعدن , ويبدو أنه كانت هناك معارضة من قبل عدد من الفقهاء والعلماء ضد أسلوبه القاسي والعنيف إزاء الناس . وعلى الرغم أن الزنجيلي أو ألزنجبيلي قد بنى مسجدا إلاّ أن ذلك لم يشفع له عند المؤرخ الجندي بعد سمع عن قتله للعلماء والفقهاء واستعماله العنيف ضد أهالي عدن , فيقول : " ولقد كنت لما قدمت عدن ورأيت ما وقفه هذا الأمير الزنجيلي على الحرم والمسجد الذي بناه على الخان ( السوق ) بعدن استعظمت أمره ... حتى رأيت ما ذكره بن سمرة من قتله للفقهاء والقراء فصغر وحقر ما فعله من خير في جنب ما فعله من شر ... فظاهر أفعاله الفسق والشنيع " . ويعقب الدكتور محمد كريم الشمري على كلام المؤرخ الجندي ، فيقول : "ولا شك أن ما ذكره الجندي يمثل رأي واحد من مؤرخي اليمن المعروفين , وفي قوله تعبير عن السخط والحقد على الزنجيلي ،ويوضح أيضا بأن ما بذله الزنجيلي على الأعمال الخيرية لا قيمة له ، بسبب قتله الفقهاء والقراء , وأمراء البلاد ، وإذلال الناس " .[c1] *اليمن بعد توران شاه:-[/c]وكيفما كان الأمر ، فقد تمكن توران شاه أن يجعل اليمن ومنها ثغرها عدن إقطاعاً خاصة له قبل أن يغادرها إلى الشام في سنة 571هـ /1176م . ويقول في هذا الدكتور محمد كريم الشمري : " ... وهنا لا بد لنا من الإشارة إلى ناحية مهمة ، وهي أن توران شاه بعد احتلاله اليمن أصبحت إقطاعا له ، لهذا كانت الأموال ترسل منها بواسطة النواب إليه وهو في الشام ، فلما توفى ( توران شاه ) عادت اليمن إلى سلطان الدولة الأيوبية صلاح الدين بن أيوب " .[c1] *الهوامش :[/c]عبد الله الطيب بامخرمة ؛ تاريخ ثغر عدن ، الجزء الأول ، الطبعة الثانية ، 1407هـ / 1986م ، شركة دار التنوير للطباعة والنشر ، بيروت ـ لبنان ـ .الدكتور محمد كريم إبراهيم الشمري ؛ عدن دراسة في أحوالها السياسية والاقتصادية ( 476 ـ 627هــ / 1083 ـ 1229 م ) ، الطبعة الثانية 2004 م ، إصدارات جامعة عدن ، ـ الجمهورية اليمنية ـ .الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ الفتح العثماني الأول لليمن 1538 ـ 1635 م ،سنة الطبع 1969 م ، معهد البحوث والدراسات العربية ـ جامعة الدول العربية ـ مصر ـ .حسن صالح شهاب ؛ عدن فرضة اليمن ، مركز الدراسات والبحوث اليمني ــ صنعاء -
|
تاريخ
عدن في عيون ملك المشرق
أخبار متعلقة