
لكن ما يحدث اليوم في اليمن مع الحوثيين هو العكس تمامًا. فقد اختار هؤلاء الانقلابيون “الأقفاص” ليقيدوا بها حرية الشعب، وحرموا المواطن والدكتور والعامل من أبسط حقوقه. مثال واضح على ذلك الدكتور محمد الظاهري، الأستاذ الجامعي المرموق في العلوم السياسية بجامعة صنعاء، الذي حُرم من مستحقاته المالية رغم سنوات من الجهد والتفاني، ومضى صامتًا وهو يقاوم الظلم بعقل متقد وضمير حي. رحيله اليوم يمثل خسارة ليست فردية فحسب، بل فقدان صوت وطني وأكاديمي قاوم العتمة بالكلمة وواجه الاستبداد بالحجة والعقل.
كان الدكتور الظاهري نموذجًا للأستاذ الجامعي الذي جعل من قاعة الدرس منبرًا للنقاش والوعي. إلا أن هذا الفكر الحر لم يرق لسلطة الميليشيا الحوثية، التي حولت الجامعة إلى ساحة للولاء الطائفي، وحاولت إذلال الأكاديميين وحرمانهم من حقوقهم المالية. ومنذ سيطرتها على جامعة صنعاء، تعرض المئات من الأساتذة للفصل والحرمان من الرواتب لمجرد رفضهم الانصياع لمشروعها الكهنوتي، في مؤشر واضح على أن العقل في نظر هذه الجماعة يشكل تهديدًا وجوديًا. لقد حاولت الجماعة قتل الجسد اليمني بالسلاح، والعقل اليمني بالتجهيل، لكنها لن تنجح، لأن العقول الحرة لا تُقهر، والضمائر لا تُشترى.
هذه “الأقفاص” التي فرضتها الميليشيا ليست مجرد قيود مادية، بل هي سجون للوعي، تمنع الناس من التعلم والنمو، وتفرض واقعًا قمعيًا يُحرم فيه اليمنيون من أبسط حقوقهم في التعليم والعمل والصحة. الحوثي بهذا يقتل طموح الإنسان اليمني، ويحول المجتمع إلى جمهور عاجز عن التفكير الحر، تمامًا كما يُقتل صوت الطيور عندما تُحجز في أقفاص بلا أشجار.
رحل الظاهري بصمت الكبار، لكنه ترك أثرًا خالدًا في طلابه وزملائه وكل من عرفه، كشمعة أضاءت دروب الفكر في زمن تغشاه العتمة. نم قرير العين، دكتور الظاهري، فقد أدّيت رسالتك ومضيت بشرف وكرامة. وسيظل التاريخ يكتب أن اليمن لا يُهزم بالجهل، بل ينتصر بالعلم، وأن الجامعات ستنهض من جديد، لأن نور الفكر أقوى من أقفاص الجهل.
إن خلاص الشعب اليمني لن يتحقق إلا بكسر هذه الأقفاص، وغرس “الأشجار” التي تُمكّن كل فرد من المعرفة والحرية والكرامة، لتُسمع تغاريد الطيور مرة أخرى، ويعود المجتمع قادرًا على الحياة والنمو بعيدًا عن الجهل والقهر. فكما قال كونفوشيوس “البيئة التي نخلقها لأجيالنا هي التي تحدد مستقبلهم، فإذا أردنا حرية العقل والوطن، علينا أن نغرس أشجار التعليم والمعرفة والوعي، لا أقفاص الخوف والتجهيل”.
اليمنيون بحاجة اليوم إلى غرس الأشجار في كل بيت ومدرسة وجامعة، لتعود الحرية لقلوبهم وعقولهم، ويعيشوا كطيرٍ حرٍّ في فضاء وطنه، لا كبشر مكبلين في أقفاص الجهل.