كنت مبهورا بهذا البيت لأمير الشعراء أحمد شوقي، إلى حدّ أنني وجدت في المعلم دوري في الحياة، هي رسالة سامية ، وما اجمل أن نكون رسل حب وسلام، رسالة بناء الانسان القادر على أن يرتقي بالأمة لمصاف الامم المحترمة .
قدري أن مسقط رأسي مدينة عدن، وهي تحت الاحتلال البريطاني، وجدت حقي في التعليم والتربية السليمة، كنت اشعر أنني انسان محاط باهتمام السلطات، ولي حقوقي في الرعاية، في كل صباح أقف في الطابور أجد كوباً من اللبن الطازج، ومعلماً مهتماً بشكلي وطريقة لبسي وأظفاري وقصة شعري ونفسيتي، مهتماً أن يجعل مني انساناً يمتلك ثقة و ثقافة وفكرا وسلوكا، يزرع بي كل خير وتفاؤل، ليصنع مني انسانا سليما محصنا بالعلم والمعرفة، و ممهورا بالسعادة والبشاشة، معلما كان مثلي الاعلى، وبيئة مدرسية يسودها الحب والحنان والأبوة، فيها الانصاف والاهتمام، بيئة مصغرة لمجتمع متحضر مدني محكوم بنظام وقانون، يحفظ للإنسان كرامته وتعزز فيه روح الثقة والابداع والرقي، لا مجال فيه لكسر الإرادة وتحطيم المعنوية.
عدن البيئة التي اكتسبنا منها روح التحدي، وانارة عقولنا وافكارنا، فيها تعلمنا اسس الوطنية والقومية العربية، وفيها اكتسبنا انسانيتنا في مواجهة صلف العصبية والجهل، والعقلية القادمة من الطبيعة الجافة والعنيفة .
كان الانسان أهم محور في العملية، إذا كسرت ارادته وروحه، كُسر المجتمع، وبالتالي ينكسر الوطن إلى قطع متناثرة من البقايا. شعرت بهذا الانكسار في منتصف السبعينيات عندما بعثنا كمعلمين في الريف، وكنا عرضة للتهديد بالقتل مما كان يسمى بالمرتزقة، يستهدفون المعلم ورسالته، والقادم ليضيء عتمة الجهل ويخلص الانسان من موروث العنف.
وبدأنا مشوار الرسالة التربوية من الريف الى المدينة، وإذا نحن زملاء لقامات تربوية كان لها الفضل في تربيتنا وتعليمنا، وشعرنا بحجم المهمة والتحدي، رغم الانكسارات، كان دورنا هو تربية الانسان، وترميم النفوس وتجبير الخواطر والكسور التي يحدثها عبث السياسيين .
ركزنا اهتمامنا بالشباب، تربيتهم الفكرية والثقافية والوطنية، الانشطة الشبابية والفكرية، ما زالت ماثلة في جيل ما بعد الثمانينيات، كنا في مواجهة حقيقية مع آثار عبث السياسيين ، ومطلوب منا أن ننظف مخلفاتهم من النفوس، لنعيد للإنسان روحه، وللمجتمع ألقه وأيقونته.
اتذكر حجم النفوس المكسورة في معارك عبث السياسيين، من احداث الحرب الاهلية، وتصفيات الكادر العدني ، حتى الانقلابات العسكرية في السلطة، آخرها حرب يناير الكارثة ، في كل منعطف صراع نحس بالضرر والنفوس المكسورة و نفسية ابنائهم .
رغم مآخذ تلك الفترة الاشتراكية، إلا أن أجمل ما فيها هو تحطيم القيود الطبقية، وسيادتها للنظام والقانون، المعلم محفوظ الحقوق وملتزم للواجبات، العلاوات والترقيات اوتوماتيكية، بعمل مهني يدوي منتظم، بنظام اجور موحد ومعايير عادلة وخزينة عامة من الصعب جدا أن تخترقها أياد آثمة أو تعبث بها، عليك أن تؤدي مهمتك دون أن تنشغل في امورك الخاصة .
لكن العبث تطور شيئا فشيئا، أحدث كسوراً وصلت للتربية والتعليم والنظام الاداري والمالي، وعندما تنكسر التربية وينكسر التعليم، ونفقد العدل الوظيفي نفتقد للوقاية والعلاج معا، وتتراكم الانكسارات، مما يؤدي لانكسار وطن، بدأ هذا الانكسار من عام 1994م، ولم يتوقف حتى وصل إلى ما نحن عليه اليوم، مجتمع مكسور، وطن منكسر، ومؤسسات هشة، وتربية وتعليم وجامعات عاجزة عن تقديم الوقاية والعلاج، ومكونات ثقافية وفكرية صارت جزءا من هذا الانكسار تحدث ارتدادات اكثر انكسارا وتدميرا للمجتمع والوطن، ولا يزال العبث يحدث انكسارات ويدمر الوطن بتواطؤ ابنائه، بعد أن فقدوا الثقة بأنفسهم، وافتقد المواطن للإرادة، والوطن للسيادة.