والمتتبع لهذا المشهد بكافة تجلياته يرى أن الأزمة السالفة والتحديات الحاضرة والمستقبلية سمحت لجيل جديد من محترفي السياسة والإعلام والثقافة، والإبداع بالتمتع بخاصية الظهور وكأنها خرجت من قمقم كبتٍ عظيم وانزلقت من عنق زجاجة وطن مأزوم بأزمات ورثوها من جيل الآباء.
ولقد كان مؤتمر الحوار الوطني ترمومترا عالي الوضوح لبروز النخب الشابة الخارجة عن الوصفات الجاهزة لشيوخ السياسة وصناعة القرار واستطاعوا من خلال تسنمهم عضوية فرق عمله أن يحدثوا أشكالا جديدة في صياغة القرار وفي صناعة مخرجاته بعيداً التحزب والجهوية أو على الأقل خرجت من سيطرة الأبوة الزائفة .. فكانوا فاعلين في صناعة مخرجاته وأبرزوا رؤيتهم المستقبلية رغم الحضور الطاغي للقوى التقليدية والوجاهات المتنفذة التي احتكرت المشهد السياسي والمسار الوطني واحتكرت الحقيقة بحسب ما يلبي مطامحها الذاتية وتكويناتها الجهوية والقبلية وصنمية أحزاب ومكونات عفا عليها الزمن.
وليس بخاف على أحد بالرغم من تخشب القيادات التاريخية في الأحزاب السياسية فإن قطاعاً عريضاً من جيل الشباب وقواعده لا يمكن لأحد أن يتجاهل حضورهم الفاعل في النشاط والفعاليات والجدالات والتحركات داخل الأحزاب أو في الخارج مع منظمات المجتمع المدني.
لكن المريب في الأمر أن أصنام القيادات التاريخية والوجاهات الجهوية والقبلية وذوي المصالح المتنفذة تريد من هذا الزخم الشاب أن يكون وقوداً في التضحية وفقيرا في المكاسب والاستحقاقات الوطنية، حتى أننا نرى أن الكم الشبابي للحزب أو المكون السياسي يفوق في الوجود طابوراً ضئيلاً من قيادات صدئة من القوى التقليدية أو التي تسمي نفسها التاريخية، ويقل في الحضور الفاعل والتأثير المأمول في صناعة القرار، وهذا ما يجسده جمود العمليات الانتخابية فيها إلا على قليل من التغييرات الطفيفة.
إن هذه القوى التقليدية المتشبثة بمواقعها الحزبية والجهوية ومن خلال رؤيتهم الصنمية في العمل والخطاب ترى في هذا الجيل الصاعد صداعاً في الرأس.
إنه لمن المؤسف أن تحاول هذه القوى التقليدية وبعضها التي تسمي نفسها بالتاريخية بما تملكه من خبرة مبددة في إدارة الصراعات وإدارة الأزمات والجمودية في المواقف بحسب المصالح الضيقة، بالعمل على سحب كثير من القوى الشابة إلى ملعبها وتجعلهم يسيرون خلف خطابها المهترئ وأسرى لتبرير منافعهم والذي يلوي عنق حركة التجديد أو غيره غير مدركة أنها تنفذ سياسات مهترئة وصراعات من الماضي وكلها أفعال لا تلبي حاجة الوطن ومتغيرات العصر.
وفي الحالة الوفاقية الراهنة التي تجري على حركة تنقلات في الوظيفة العامة تحت مبدأ المحاصصة الحزبية وتحت مسمى الوفاق جعلت من بعض الكوادر الشابة وتحت تأثير هذا الفاعل القديم والماضوي يؤثر على مرتكزات الوظيفة فتظل منشدة إلى طموحات صغيرة للحزب أو الجهة وتعكسه على شغل الوظيفة، بأن تقر بالامتنان للحزب أو الجهة التي جاء بها إلى الوظيفة فتراها تقدم مصلحة هذا الحزب وهذه الجهة على مصلحة الوطن، وعلى حق الحزب والجهة في إدراك الصواب والخطأ دون أن يكون للوطن حق فيهما، مما يسبب عبئاً جديداً ينعكس لا على المؤسسة السياسية وإنما على مؤسسة الدولة الإدارية.
وينطبق الحال على الخطاب الإعلامي للفرقاء السياسيين الذين يستثمرون الصوت العالي والفورة الطاغية للشباب بحيث يعملون على إدماجهم بهذا الخطاب لتبرير المصالح الذاتية والحزبية والجهوية والقبلية فيصبحون ـ الشباب ـ جزءاً من الماضي وليس من المستقبل، أو جزءاً من الأزمة وليس الحل.
وعليه لابد من التأكيد على حقيقة أن مصلحة الوطن مقدمة على مصالح الأحزاب والجهات الجهوية والقبلية .. وثقافة الانتماء للوطن مسبق على ما عداه وهي الحامل الذي يجب أن تستند عليه القوى الشابة والناهضة من بين ركام طويل لم ينتج إلا الأزمات، ولا يصلح أن يكون عنواناً للغد لأنه من موروثات الأمس، ولا يرضى الشباب أن يكونوا معبراً مفتوحاً لثقافة الأمس وهم الذين ما برزوا اليوم إلا ليسجلوا حضورهم في ثقافة الانتماء للوطن.