احتضنتهم عدن؛ كعادتها في احتضان اليتامى، والمساكين، والملهوفين؛ كأم حنون .. ربتهم، وأشبعت جوعتهم، وعلمتهم، وليس ذلك فحسب؛ بل أرسلتهم كذلك إلى خارج الوطن للدراسات الجامعية، ومنها دراسة الطب البشري بكل تخصصاته، وعلى حساب الخيرين في هذه المدينة، ثم على حسابها يوم أن صارت عاصمة دولة بعد الاستقلال من بريطانية؛ باعتبارهم من أولاد الكادحين في هذا البلد، ولم يقف خيرها على الجميع حتى في أشد الظروف قسوة .
واليوم تغير البعض؛ وتغيرت معهم أخلاقهم، وسلوكهم، وتفكيرهم؛ كإفراز لتغيرات الواقع الاقتصادي، ومفاهيم اقتصاد السوق، وخصوصاً من هؤلاء الذين كان ينبغي أن يتذكروا خير هذا البلد عليهم، وأن لحوم أكتافهم، وما في رؤوسهم من علوم هي كلها من خير هذا البلد، وخير البسطاء من الكادحين الذين ارتقى هؤلاء الأطباء على أكتافهم، ومن لقمتهم الناشفة؛ يوم كان التكافل أصلاً غير معلن في سياسة الدولة، ويوم كنا لا نجد محروماً، ولا متسرباً من المدرسة، ويوم كان المعلمون صناع أجيال حقيقيين، لا معاول هدم ـ في الغالب إلا من رحم الله ـ كما هو قائم حالياً ويا للأسف !!
وقد لا يصدق المرء أن هؤلاء صاروا ـ مع ما ذاقوا من مرارة الحرمان ـ في مقدمة من يتاجر بحياة مرضاه البائسين، وعلى سبيل المثال؛ أحدهم كان كبيراً في عيني بأخلاقه العالية مع مرضاه، واليوم صار يقول بصريح العبارة، وأمامي بما معناه: الذي معه مال أكشف عليه، والذي لا مال له يموت .. أنا لا يهمني أمره .
نموذج ثانٍ من هؤلاء؛ جاءه مصاب بطلق ناري وهو ينزف؛ قال لن أسعفه .. نحن مضربون !! ولما أرغم على إجراء عملية الإسعاف؛ عملها كيفما اتفق، وأمر المريض بالذهاب إلى إحدى المشافي الخاصة؛ على أن ينقده 120 ألف ريال، ومقدماً في عيادته، على أن يجري العملية التالية في المشفى الخاص، ويتحمل المريض فيه كامل التكاليف ( يعني أجوراً مضاعفة ) مستغلاً حاجة المريض .
أما هذا المشفى المقصود فقد أسعف إليه هذا المصاب ابتداء،وطلبت مبالغ طائلة لعمليات الإسعاف، ونقداً، مع أن المصاب قد تعرض للحادث بالخطأ، ومن أحد أفراد الجيش، وبسيارتهم، وسيعالج على حساب الجيش، إلا أن المشفى رفض تأخير الدفع، ليس هذا فحسب؛ بل فرض ألا يخرج المصاب وهو يتعرض للنزف؛ إلا بعد دفع كلفة الإسعاف البسيط الذي لا يستحق حتى ألفي ريال، فارضاً على المسعفين دفع 40 ألف ريال؛ كلفة لذلك !!
وكم من الأمثلة سنورد لفظائع هؤلاء المحسوبين على ملائكة الرحمة؛ الذين أصبحوا يقلون، وينقص عددهم يوماً عن يوم، وفقط في هذا المشفى ـ كمثل لا كحصر ـ بلغني مؤخراً أن أحد الآباء ذهب بولده إلى هذا المقصلة التي يسمونها مستشفى .. الولد كان يعاني من الحمى .. الطبيب كتب له كإسعف إبرتين، تضربان على الترتيب .. اجتهد العاملون، وعكسوا الترتيب .. انفجرت شرايين المصاب؛ فمات المصاب للتو، وأخرجوه لأبيه؛ مع فاتورة الإسعاف !! وشر البلية ما يضحك .
هؤلاء بطواقمهم تربوا، وتعلموا من عرق الكادحين، ومثلهم كثر في أمثال هذه المشافي؛ التي أصبح المال هدفها، ماتت ضمائرهم وصاروا وحوشاً لا تعرف معنى للرحمة .. يعملون كدلالين في مشافي الدولة؛ من أجل دفع المرضى كل إلى هدفه في المشافي الخاصة .. فلا خوف من الله، ولا تأنيب من ضمير ..