صحيح أن صراع فصائل الكفاح الفلسطيني المسلح بعضها ضد بعض ، سياسيا وعسكريا مر بفصول عدة، وشهد بعض أفظع مآسيه على غير أرض، لكن الأخطر بينها هو الذي وقع بين حركتي «حماس» و«فتح» فوق أرض فلسطين. ليس الأمر مجرد تسطير كلمات، بل الواقع يقول بهذا، والأرجح أن الأغلبية بين الفلسطينيين، وغيرهم من المعنيين بقضيتهم، تتفق مع ذلك القول. باختصار، الصراع الناشب بين حركة «حماس» وحركة «فتح»، قبل انتخابات ربيع 2006 وبعدها، وصولا لما اعتبر «انقلاب» يونيو (حزيران)، هو الأخطر لأنه فرق قوتين يشكل التوافق بينهما العمود الفقري لتحقيق دولة فلسطين المستقلة.
من هو الطرف المسؤول عن ذلك؟ لندع تحديد اللوم جانبا، إنما لعل من المفيد التذكير بمفاصل تاريخية. عند تفجر انتفاضة الحجر الفلسطيني ديسمبر (كانون الأول) 1987 كان مر على الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة عشرون عاما، أوجعت المقاومة خلالها الاحتلال، لا شك، لكنها لم تقصم ظهر آلته العسكرية، ولا أحرجت موقف تل أبيب السياسي في عواصم العالم المتحضر قاطبة. أكف فتية مدن فلسطين وقراها أنجزت الأمرين معا. ماذا تفعل الدبابات وسيارات الجيب المدرعة، أو طائرات الهليكوبتر، في مواجهة جحافل شبان قرروا نسيان مرح سنوات المراهقة، وفتح معركة الحجر ضد من يحتل أرضهم؟ لا شيء، ولئن أسالت قسوة التعامل العسكري الدم الفلسطيني وأوقعت القتل، فإنها أيضا لفتت أنظار العالم إلى صبي يواجه بالحجر رشاش جندي احتلال. في تلك الأثناء، كان معظم آباء المقاومةالفلسطينية يقيمون في مدن آمنة، من تونس إلى دمشق وبيروت. حجارة مراهقي الضفة الغربية وغزة، ودماؤهم، أمّنت للقادة الفلسطينيين فرصة اهتمام عالمي بقضية شعبهم غير مسبوقة، ومن ثم فتحت أمامهم أبوابا دولية كانت موصدة لم يكن ليفتحها لا اختطاف طائرات، ولا خطف رهائن. فجأة، سمع العالم أن جنرالا يحتل موقع رئيس حكومة إسرائيل (إسحق رابين) يتمنى لو استيقظ فإذا «البحر ابتلع غزة»، لمجرد أن فتيانها يقاومون احتلال جنوده لأرضهم، وهو العالم ذاته الذي اعتاد على مقولة تزعم أن العرب هم من يريدون «إلقاء إسرائيل في البحر». اختلفت الصورة.
مع تراكم صور قسوة المواجهات في قطاع غزة والضفة الغربية، ظلت صورة الموقف الدولي، وبضمنه الرأي العام الإسرائيلي، ماضية في التغير تلح على ضرورة وضع حد للمعاناة الفلسطينية. عندما انعقد المجلس الوطني الفلسطيني بعد عام من انتفاضة أنضجت أجواء دولية أمكن معها صدور إعلان قيام الدولة الفلسطينية (الجزائر/ 15 نوفمبر 1988)، الذي شكلت بنوده حجر أساس لمشروع دستور، والذي تضمن بوضوح هدف التعايش السلمي بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، ومن ثم مهد لما تبعه من خطوات عملية، في مقدمها تعديل ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية بحذف ما يتناقض من بنود مع حل الدولتين. في نهاية الأمر، انتفاضة الحجر هي أيضا التي أوصلت إلى اعتراف إسرائيلي بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل للشعب الفلسطيني، وهي التي فتحت أبواب مؤتمر مدريد، وأوصلت إلى مفاوضات أوسلو السرية، ثم قادت رابين نفسه مع شيمون بيريز وياسر عرفات ومحمود عباس إلى واشنطن ليشهد العالم معهم لحظة تاريخية بدت آنذاك (13/ 9 / 1993) كما لو أنها استحالة تتجسد واقعا.
على هذه الأرضية بدأ وضع حجر الأساس العملي للدولة الفلسطينية، وبدأ معه مسار مختلف للعمل السياسي الفلسطيني فتح الأبواب أمام إمكانية التقاء مختلف الحركات والجبهات باختلاف توجهاتها، على أرض فلسطين نفسها، والعمل معا للنهوض بمشروع الدولة المستقلة. حركة «حماس» دخلت المعترك السياسي من هذا الباب ذاته، ما الخلل إذن؟ بصراحة لن تروق لكثيرين، الخلل هو في غياب وضوح الرؤية، أو - إن شئتم - تغييبه إذا لزم الأمر. بمعنى، كان على «حماس»، وكل تنظيم فلسطيني غير ملتزم باتفاق أوسلو، الإحجام عن المشاركة في اللعبة السياسية. وكان على السلطة الفلسطينية أن تفرض سلطتها فتلزم غير الملتزمين بالعملية السلمية بالاحترام العملي، وليس اللفظي فقط، لإرادة أغلبية فلسطينية قررت تجريب الكفاح السلمي، بعد سنوات المسلح، وصولا لتحرير أرض محتلة واسترجاع حقوق مسلوبة. لكن الذي حصل، كما في أغلب الحالات العربية، هو القفز على أكثر من حبل، والمشي بين خطوط متعرجة (ZIG ZAG) لا توصل إلى هدف واضح ومحدد. إذا استمر الحال الفلسطيني على هذا المنوال، لن يتيسر التوصل لبداية فلسطينية جديدة تمضي أبعد من مصالحات مظهرية، بل تستند إلى ثبات هدف ووضوح رؤية يلزمان الأطراف كافة، بدل ادعاء التعايش بين الرؤى المتصادمة. ما جرى الاتفاق عليه بين حركة حماس ووفد رام الله في غزة أمس خطوة مهمة، بلا جدال، لعلها تكون انطلاقة على طريق البداية الجديدة المطلوبة.