ثلاثة أعوام مضت والعالم يشهد نزف الدم في سوريا والكرة ترمى هنا وهناك ثم تقذف في ملعب هذا وذاك، واضطر السوريون إلى الفرار تاركين خلفهم وطناً مدمى علَّهم يجدون الأمن في البلدان المجاورة فأصبحوا لاجئين بعدما كانوا مواطنين آمنين مستقرين .
وتفيد تقارير الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن عدد اللاجئين السوريين قد تجاوز المليونين، هذا حسب التقارير، وقد يكون عددهم في الواقع أكثر بكثير . . وبات كل لاجئ ينتظر الساعة التي يحين فيها موعد رجوعه إلى الوطن ، لكن سوريا التي تتخبط تحت وقع القصف وتئن تحت هول الدمار تحولت اليوم إلى ساحة تدور في رحاها معارك الأنانية والسعي إلى السلطة . وبين ركام المباني وأشلاء الجثث ورائحة الدم تتمزق البلاد بين أيدي أطراف وأحزاب . . بين متطرفين دينيين ومرتزقة يعيثون فيها خراباً .
تخيل نفسك أيها القارئ وأنت تنام في بيت دافئ وتشاهد في التلفاز صوراً لأطفال ازرقت أجسادهم الندية بفعل الصقيع، سوف تشعر بألم يعصر قلبك ولكن شيئاً لن يتغير، فالرياح الباردة المحملة برذاذ الثلج تمنع عين الصغير من أن تغمض وتقطِّع جسمه النحيل وكأنها سكاكين تحمل في أنصالها الموت المحتم .
سنتقلب في المنازل الدافئة، ولكن هل سيغمض لنا جفن ونحن نشعر أن البرد الذي اجتاح منطقة الشرق الأوسط المشتعلة الذي قد ينعشنا نحن، يحمل ناراً تحرق الأطفال في مخيمات اللاجئين؟ أطفال ونساء وشيوخ يختبئون داخل الخيم الرقيقة علها تقيهم برد الشتاء وتدفع عنهم قسوة البرد وعصف الرياح اللذين يزدادان قوة من عام لآخر .
في عام 1948 عام النكبة فرَّ أكثر من 725 ألف فلسطيني من أرضهم بعدما احتل الصهاينة ديارهم. ترك الفلسطينيون آنذاك منازلهم لكنهم علّقوا مفاتيحها حول أعناقهم وهم يحلمون بالعودة قريباً، لكنهم حتى اليوم لم يعودوا وظل العالم منذ ذلك الحين يتفرج عليهم وهو صامت .
لقد أرغمت الحرب الدائرة على الأراضي السورية اليوم مليوني شخص على مغادرة منازلهم بعدما خاب ظنهم بمن أقسموا أنهم سيحمونهم . يتدفق اللاجئون السوريون إلى البلدان المجاورة والعالم يتفرج ويلوذ بالصمت أكثر من أي وقت مضى وكأن لسان الحق قد قُطع .
وفي الوقت الذي يفكر فيه السياسيون بأجنداتهم وبمحاولة توجيه مسار العمل لصالحها، يزداد عدد القتلى يوماً بعد يوم وتفوح رائحة الدم أكثر فأكثر . . . وكذلك يزداد الضغط على ضمير الإنسانية فترزح تحت ألم تسببه شوارع مدن يتردد في جنباتها صدى الموت وصرخات الأبرياء وقد باتت خالية إلا من أرواحهم بعدما كانت تنبض بالحياة .
أين حكايات التاريخ وأين معالم الحضارة الإسلامية والعربية العريقة؟ أين النصب الشامخة تروي قصص البطولة والفداء؟ لقد دفنت كلها تحت الركام .
مخيمات اللاجئين السوريين تواجه فصل شتاء بلغ من القسوة ما لم تبلغه الفصول الباردة السابقة على مر سنين العصر الحديث، وقد بات من الواضح تماماً أن المساعدات الدولية وإن كانت سلاحاً يواجه الصقيع آنياً لكنها ليست حداً لحرب تقتل وتهجر شعباً بأكمله.. لابد من أن يعود السوريون إلى أرضهم ولا بد من مساعدتهم على إعادة البناء . وعلى الحكومات أن تسعى إلى حل سلمي لأجل أرض لم تتوقف فيها إراقة الدماء منذ أكثر مما يقرب من 3 أعوام . لقد شهدنا فشل التجربتين العراقية والليبية، حيث ما زال الناس يموتون بالمئات كل عام . في الواقع لقد بتنا نعاني الحساسية تجاه الأرقام .
إن التدخل العسكري وإدخال الأسلحة إلى الأراضي السورية يصبَّان الزيت على النار ويزيدان من تأجج المعارك بإيجاد مزيد من فصائل متقاتلة بات اليوم من الصعب إحصاؤها بأجنداتها المختلفة .
لا بد من تقديم تنازلات سياسية تجعل الأعداء حلفاء وتزيد من الضغط على الحكومة السورية عساها تتحرك وتوقف نزف الدماء، وإلى أن يحدث ذلك، يستمر أبناء الشعب السوري بالصراع من أجل البقاء متحملين قسوة البرد فوق بساط الثلج المحيط بخيمهم الرقيقة . لم يعد هناك خيار ثالث للسوريين، فإما صقيع الموت أو صقيع الثلج، ولكن هذا الأخير قد يكون أرأف بهم من نيران لا تلبث تحولهم إلى جثث هامدة وباردة .
السوريون سيواصلون مسيرة الصراع من أجل البقاء، وإذا كان برد الشتاء يزداد عاماً بعد عام فإن قلوبنا لن تكون كذلك.