«البنا» نفسه قال بعد أن تورط التنظيم الخاص فى حوادث اغتيالات: «لو استدبرت من هذا الأمر ما استقبلت لعدت بالإخوان إلى زمن المأثورات» لكن كان القطار قد فات محطته، وانجرفت جماعته إلى غواية الصراع على السلطة، فكانت النتيجة التى هى أمامنا الآن. والمؤسف أن الجماعة لو أرادت الآن أن تعود إلى الدعوة فلن يصدقها أحد. والغريب أن التيار السلفى يسير فى الطريق ذاته الذى سلكه الإخوان، رغم أنه كان يقول عنهم دوما: لقد أضلتهم السياسة، رغم أن وصول الإخوان إلى الحكم وحيازتهم والسلفيين للبرلمان لم تؤد إلى تعزيز الإسلام، بل زاد عدد الملحدين فى مصر.
وقبل سنوات كتبت: «بوسع «الإسلاميين» أن يقدموا للسياسة ما هو أفضل، وأكثر نفعا، من مجرد انتظار الحكم، أو التوسل بأدوات عدة للقفز إليه، وبإمكانهم فى الوقت نفسه أن يقدموا للدين ما يحفظ له جلاله وقدسيته، ويبعده عما ألقته الممارسة السياسية على كاهله من أعباء جسام طيلة التاريخ الإسلامى، فيحققوا لأمتهم ما تحتاجه بالفعل، ولأنفسهم ما يقيهم من تغول مناوئيهم، وشرور المغرضين منهم، الذين يستخدمون الدين فى تحقيق مآربهم الشخصية، دون لوم، أو ورع».
ومرت الأيام، ووصل الإخوان بالفعل إلى الحكم بعد انتظاره، فما كانت النتيجة؟
فالسياسة تبدو فى خطاب الإخوان ونظرائهم دائرة فى فلك «القوة الصلبة» أو «الخشنة» التى تعنى الاهتمام بالركائز العسكرية والاقتصادية للقوة. ومن ثم سعت «الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامى» إلى امتلاك هاتين الركيزتين، فكونت تنظيمات سرية، دججتها بالسلاح، وقوّت ساعدها بالتدريب القتالى، لتدخل فى مواجهة دموية مع الأنظمة الحاكمة. وعلى التوازى دخلت هذه الجماعات إلى عالم المال، لتستزيد منه، وتوظفه فى خدمة أهدافها السياسية، فبدت بذلك خصما من رصيد مجتمعاتها وليست إضافة إليه.
أما لو ركزت هذه الجماعات على تحصيل «القوة الناعمة» أو «السلسلة» فى جانبها المتصل بتعزيز التماسك الأخلاقى للجماعة، وتحقيق الامتلاء الروحى للأفراد، وإبراز ما فى جوهر الإسلام من قيم إنسانية حياتية إيجابية، وما أكثرها وأعمقها، لبدت فى هذا إضافة إلى مجتمعاتها، لأنها ستوفر لها رموزا وأشياء هى فى أشد الحاجة إليها فى الوقت الراهن، بل إنها ستسهم فى تعزيز وزن العالم الإسلامى فى النظام الدولى، الذى تمتلك القوة الكبرى فيه من الموارد الصلبة للتفوق الكثير، حيث الآلة العسكرية الجبارة والاقتصاد الضخم، لكن ينقصها التماسك الأخلاقى والطاقة الروحية، حسبما يصف علماء السياسة الأمريكيون بلادهم.
لقد ضيع الإسلاميون وقتا طويلا فى الهرولة وراء السياسة فى أبعادها العليا، الملاصقة تماما لظاهرة السلطة، مع إهمال دائم للجوانب «القاعدية» للممارسة السياسية، والمتصلة بالموارد الناعمة للقوة، من سلطان المعرفة وجلال الطاقة الروحية، والتمسك بالفضائل الاجتماعية، والقيم العظيمة التى يرسخها الدين الإسلامى. وطيلة هذا الوقت يدفع من يرفعون من الإسلام شعارا سياسيا ثمن تصورهم المنقوص، ويخسر الدين نفسه مساحات يمتلك بنصه المقدس أن يملأها، فتزداد فاعليته فى الحياة.
سيردون على هذا بالطبع: الإسلام دين ودولة، وأقول لهم، دين نعم، دولة لا، لأن الدين باق، والدول تنشأ وتزول، والقرآن الكريم لم يخاطب الرسول إلا بوصفه نبيا ورسولا وبشرا، وليس كما خاطب سيدنا سليمان بوصفه نبيا وملكا. وينسى الإخوان وأتباعهم أن أبا سفيان حين قال لعم النبى: إن ملك ابن أخيك غضب منه وقال: ليس ملكا يا أبا سفيان إنما هى النبوة. قاتلهم الله، حتى يبرروا ما فعلوه على مدار أربعة عشر قرنا، أعادوا صياغة حياة الرسول وسيرته وصورته بما يتوافق مع رغبة سادة الملك العضوض، فجعلوا حروبه الدفاعية العادلة غزوات، أى حروب هجومية حتى يكونوا الإمبراطورية، وجعلوا من ثقة المسلمين فيه ليفصل بينهم مهمة حاكم أو سلطان، ولو كان الأمر دولة لا دعوة، لكلف عليه الصلاة والسلام أبا بكر أن يحكم الناس من بعده وليس ليؤمهم فى الصلاة، وتكليفه لصاحبه بهذا يعنى ببساطة أنه يقول لنا: تركت لكم دعوة لا دولة، فأفيقوا أيها الغافلون.