وهنا سبعة محاور أساسية تشكل فى مجموعها خطة أو برنامج عمل متكاملا في هذا الخصوص. وهذه المحاور ليست مجرد أفكار نظرية بل تنطوى على أمور تم تجريبها وفق دراسات ميدانية، وثبتت فائدتها ونجاعتها في تحقيق الهدف المرجو منها.
ولا يقصد من طرح هذا التصور إقصاء أي فصيل إسلامي، إنما الهدف هو ترشيد أفكار الجميع عبر تعزيز الحوار بين القوى الدينية والمدنية من جهة، وحث القوى السياسية المتخذة من الإسلام أيديولوجية لها على الإيمان بالوطنية، فكرا ومسلكا، إذ إنها ليست واضحة في بعض تصوراتها وتصرفاتها، ونشعر أحيانا أن هناك من يقدم مصلحة الفصيل على مصلحة الوطن، وصالح الجماعة على صالح المجتمع.
ويمكن ذكر هذه المحاور السبعة على النحو التالي:
أولاً: مؤسسات ثقافية بديلة:
ثبت بالبرهان القاطع من التجربتين المصرية والتونسية أن الأفكار لا تواجَه إلا بالأفكار، وأن سياسة التضييق والقمع والمعاملة الأمنية المباشرة لا تجدي، فالأمن له روافد ومظاهر وأساليب عديدة آخرها الاعتقال والإقصاء. والأفكار مهما كانت متهافتة أو مزيفة ومغلوطة لها أجنحة ولا يستطيع أحد أن يسيطر عليها، لا سيما فى ظل «ثورة الاتصالات الحديثة» و«الإعلام الجديد» الذى جعل كل مواطن يلعب دور الإعلامى الذي ينقل الخبر والصورة والفكرة من أي مكان وأي زمان وإلى أي مكان وفي اللحظة ذاتها
وتحتاج الأفكار حتى ترسخ وتمشى على الأرض ويعتنقها الناس إلى مؤسسات أو هيئات أو تنظيمات تحملها. وهذا هو سر بقاء جماعة الإخوان المسلمين واستمرارها وتمددها، فالقمع الذي مورس ضد الإخوان جعلهم يظهرون في نظر الناس في ثلاث صور إيجابية استفادوا منها، فهم إما «ضحايا» أو «مناضلون» أو «شهداء» وكلها حالات إيجابية جلبت لهم التعاطف، للأسف الشديد.
وهنا أقترح الآتي:
1 - بناء مجمعات صغيرة للثقافة، أو تعزيز نشاط الموجود منها، وتكون هذه المجمعات وسط الأماكن السكنية، حتى يجد الشباب سهولة ويسراً فى الوصول إليها والتعامل معها واعتياد الذهاب إليها، على أن تقوم المدارس والجامعات بلفت انتباه التلاميذ والطلاب إليها، ووضع برنامج للتعاون معها.
2 - يمكن تطبيق تجربة «مسرح الجرن»؛ فقد تم تجريبها لمواجهة الفكر المتطرف، وهي عبارة عن مشروع يهدف إلى تنشيط الفنون والآداب والفلكلور فى المدارس الابتدائية والإعدادية، ويتم من خلال التعاون بين وزارتي الثقافة والتعليم، فحين طُبق المشروع على مدارس قرى معروفة بتركز وجود الجماعات الإسلامية المتطرفة فيها لاقت نجاحا مبهرا، رغم أنه وجد مقاومة في البداية من قِبل التلاميذ والطلاب، بدعوى أن كل الفنون حرام، ومع الوقت بات هؤلاء يرسمون ويعزفون موسيقى ويكتبون شعرا وقصصا ومقالات ويمثلون مسرحيات ويرقصون رقصا شعبيا فى إقبال شديد.
3 - يجب أيضا الاهتمام بالمنتج الثقافي للأطفال، فبعض أعضاء الجماعات الدينية المتطرفة اعتمدوا على هذا الأسلوب فى جذب الأطفال إليهم وتمهيدهم للدخول فى الجماعة، أو قبول أفكارها والتعاطف معها، ولهم دُور نشر معروفة. ومواجهتهم يجب أن تتم فى هذا الإطار وعند هذه السن المبكرة. ولا تكفى فى هذا المضمار المجلات الثقافية كـ«ماجد» بل يجب تشجيع الأدباء الذين يكتبون للأطفال وإقامة دور النشر التي تنشر أعمالهم بأسعار مناسبة.
4 - يجب تشجيع منتجي الفنون والآداب فى المجتمع وتقديمهم باعتبارهم أشخاصاً جديرين بالاحتفاء وأن ما يكتبونه هو عمود أساسي ليس في مواجهة التطرف والغلو والتشدد الديني بل في تعزيز «القوة الناعمة» للدولة.
في كل الأحوال لا يجب التعامل مع الثقافة كقلائد للزينة، إنما هي وسيلة لبناء الإنسان وتشكيل معارفه وقيمه واتجاهاته، ومن ثم النهضة بالمجتمع.
ثانيا: مناهج التعليم:
1 - هناك دراسات عديدة أجريت على أسباب التطرف الديني في المجتمع المصري أثبتت أن خريجي الكليات العملية (التطبيقية) أكثر ميلاً للانخراط فى صفوف الجماعات الإسلامية التى تمارس السياسة من خريجي الكليات التي تدرس العلوم الإنسانية (الاجتماعية) فالأول يدرس مواد جافة، لا سيما في كليات الطب والهندسة والعلوم والحاسب الآلي، وبالتالي يقبل أي دعوة تُوجه إليه من التيار الديني كي يملأ خواءه الروحي أو يقتل هذا الجفاف. ومن ثم أقترح أن يتم إقرار مواد اجتماعية على الكليات العملية لا سيما الفلسفة وعلم النفس والاجتماع والاقتصاد والعلوم السياسية، فهذا سيبني لديه عقلاً نقدياً وبالتالي لن يقبل الأفكار المتطرفة بسهولة، بل سيخضعها للمساءلة والنقد الدائم.
2 - يجب تشجيع عملية تكوين «الأسر الجامعية» التى تقوم على جذب الشباب فى سن يحتاجون فيها إلى الانتماء إلى أي مؤسسة اجتماعية، وهذه مسألة تثبتها الدراسات النفسية لا سيما فى مرحلة المراهقة وما بعدها. ويتم الحرص على أن تكون أفكار وتوجهات الأشخاص القائمين على هذه الأسر (رائد الأسرة) مدنية حديثة.
3 - يجب إعادة النظر في «مناهج النشء» فالطفل يولد كصفحة بيضاء ونحن ننقش عليها ما نريد. وتغريب التعليم لا يفيد فى مواجهة التيار الديني المتطرف إنما يعطيه ذريعة لخلق مناهج تعليم موازية بطريقة غير رسمية وخارج مؤسسات الدولة التعليمية. وهنا يفضل أن توضع مناهج التربية الدينية واللغة العربية من قلب الرؤى الدينية المستنيرة. وتقرر فى مختلف مراحل التعليم قصص تحض على التسامح وقبول الآخر وتقدير العلم والثقافة.
ثالثاً: دور خطبة الجمعة:
1 - هناك دراسات بينت أن خطبة الجمعة تلعب دوراً مهماً فى تشكيل المعارف والاتجاهات الدينية. لكن تحقيق هذا مشروط بضرورة أن تكون هذه الخطبة تتمتع بمصداقية، وأن يكون من يلقيها كذلك. وخطبة الجمعة الموحدة تفتقد للمصداقية، وينظر إلى من يلقيها باعتباره موظفاً لدى الدولة، يأتمر بأمرها، وينفذ ما يطلب منه. وهذا جعل كثيراً من الناس يبحثون عن الذي يعظ فيهم وهو في نظرهم مستقل، ويعتقدون ابتداء أن هذه الاستقلالية تعني أن خطابه أو خطبته ذات مصداقية وقيمة.
وهنا أقترح بدلاً من اختيار موضوع الخطبة أن يتم اختيار الخطباء، مع ترك الحرية لهم فى تحديد موضوع الخطبة، ويكون هؤلاء علماء أو خطباء مستنيرين، وهم موجودون، ويمكن التعاون في هذا مع الأزهر الشريف وغيره من المؤسسات الدينية الوسطية فى إيجادهم وتوظيفهم.
2 - الاهتمام بمعاهد تخريج الدعاة من المواطنين، مع استقطاب أفضل أساتذة فى العلوم الفقهية والشرعية شريطة أن يفحص إنتاجهم العلمى جيداً قبل استقدامهم وتوظيفهم، بواسطة لجنة، بما يؤكد استنارتهم واعتدالهم.
رابعاً: الإعلام:
لم يعد الإعلام ناقل معرفة فقط بل أصبح منتج معرفة وأحداث أيضاً، وهو يلعب دوراً كبيراً فى تشكيل الرأي العام. ولمواجهة التيار الديني المتطرف لا بد من الآتي:
1 - برنامج تليفزيوني يستقطب جمهوراً محلياً، ويكون ضيوفه من علماء الدين اللامعين المحسوبين على التيار الوسطى. ويقدمه أيضاً إعلامي له جمهوره داخل الدولة.
2 - يجب أن تصدر إحدى الهيئات الرسمية (وزارة الثقافة - الأوقاف) مجلة دينية جذابة أكثر عصرية وحداثة ومكتوبة بلغة سهلة، تستقطب الشباب.
3 - تفتح صفحات الصحف للكتاب المحسوبين على علماء الدين المستنيرين والتيار المدني الذين لا يذهبون فى غلوهم إلى حد فصل الدين عن المجتمع، لأن هذا خرافة وخبل، ويتم التعامل مع أي انتقادات سياسية يوجهونها بصدر رحب، فهم خير عون فى المعركة ضد التطرف والتشدد الدينى.
خامساً: التنمية الاجتماعية
اعتمدت بعض الحركات والجماعات السياسية ذات الإسناد الإسلامي كثيراً على جمعيات النفع العام (العمل الخيري) فى التمدد والاستمرار ومقاومة التضييق الأمنى والحصار والإقصاء والتهميش وتعبئة الناس لصالح تصوراتهم. وعلى الدولة أن تجد البدائل، وإن كانت موجودة، فعليها أن تقوم بتعزيزها وتنظيمها، وتشجيع «المجتمع الأهلي» على القيام بها.
سادساً: مشروع وطني جامع
ويبنى هذا المشروع على أفكار محل اتفاق ورضا وقبول على نطاق واسع داخل الدولة، ويشارك فى إعداده علماء ومفكرون ومؤسسات دينية مستنيرة ومدنية وعلمية.