أسهم نمط هذه العَلاقة بين الملكية والكنيسة في المرحلة الأولى من مسار محاكم التفتيش في تحويل الدولة إلى أداة لنشر وحماية المذهب الاعتقادي النافذ، والحفاظ على المصالح المتبادلة بين الطرفين على قاعدة الموروث التاريخي للعَلاقة بين الدين والدولة والذي تجسد في الحروب الدينية، سواء ضد أتباع الأديان الأخرى أم بين الطوائف والمذاهب المسيحية المخالفة للمذهب الاعتقادي السائد، وما ترتب على موروث هذه الحروب من غنائم وسبايا وعبيد وثروات ومصالح في ظل نمط الاقتصاد الخراجي الذي كان يمزج بين العبودية والإقطاع في عصور ماقبل الرأسمالية والثورة الصناعية التي أصبحت أوروبا ساحتها الرئيسة بعد أفول شمس الحضارة الاسلامية على إثر صعود السلفية المنغلقة التي حاربت العقل ومارست أبشع صور الاضطهاد للمفكرين والفلاسفة وعلماء الطب والفيزياء والكيمياء والفلك والجغرافيا والرياضيات والمنطق في العالم الإسلامي، وأحرقت كتبهم منذ القرن الخامس الهجري الموافق للقرن الحادي عشر الميلادي.
أما المرحلة الثانية فقد جاءت بعد فشل محاكم التفتيش في إيقاف المد المتعاظم للفتوحات العلمية التي قادها العقل النقدي في أوروبا في القرن الثاني عشر الميلادي، وما أسفر عنها من انتشار واسع لأفكار التنوير والحرية والعدالة والمساواة، واكتشاف البخار والكهرباء والعالم الجديد، وبروز النظريات العلمية الحديثة، ما أدى إلى تحويل العَلاقة بين الملكية والكنيسة من التبعية إلى الشراكة، فيما تحوَّلت وظائف محاكم التفتيش من البطش والقمع وسفك الدماء إلى النصح والهداية والأمر بالتزام التعاليم المسيحية والنهي عن الهرطقة والبدع و المفاسد والمنكرات، وصولاً إلى فتح أبواب التوبة من خلال توزيع صكوك الغفران التي اشتهر بها رجال الدين في الأكليروس الكا ثوليكي والأرثوذكسي على حد سواء وهو ما جعل المؤسسة الدينية تنزع نحو مجاملة الملك بما هو رأس الدولة، والسعي للانفراد به وتحييده عن سائر الأجهزة التي تقوم بوظائف الدولة التي أصبحت خاضعة للوصاية والرقابة والتفتيش من قبل رجال الدين في ضوء المعتقدات الكنسية السائدة، تمهيداً لتحويل الملكية إلى رمزية دينية بلا وظائف سيادية، وذلك من خلال تعيين الملك رئيساً للكنيسة وحامياً لرجال الأكليروس وولياً لأمر خدمهم وموظفيهم.
كانت المؤسسة الدينية تراهنُ على تطويع الدولة لسلطتها المطلقة، مقابل السلطة الرمزية الدينية للملك، بما هو ولي الأمر وفق المنظور السني والشيعي في الإسلام السياسي، فيما كانت السلطة المطلقة لرجال الدين الكهنوت تستمد شرعيتها من فكرة التفويض الإلهي التي تمنحهم الحق المطلق في ممارسة وظائف الرقابة والرصد والتفتيش على عقول وضمائر وسلوك الناس، وعلى عمل ونشاط أجهزة الدولة وأفراد المجتمع، وتوجيه الأوامر والنواهي انطلاقاً من فكرة التفويض الإلهي التي يقابلها في المنظور السني والشيعي لجماعات الإسلامي السياسي، انفراد المؤسسة الدينية بواجب الأمر والنهي انطلاقاً من تكليف منحه الله لرجال الدين فقط ولا يخص كل المؤمنين بالإسلام الذي أجمله الله بالقرآن الكريم، ولم يفرط فيه من شيء، بعد أن جعل عقل المؤمن مناط التكليف، وجعل القراءة والتبصر والتفكر والتدبر بالعقل أساس الإيمان لقوم يعقلون ولا ينقلون، يتدبرون ولا يقلدون، ويفكرون ولا يتجمدون.
مما له دلالة نجاح محاكم التفتيش في مرحلتها الثانية بتحويل الملك إلى رمز ديني بلا وظائف، بعد أن كان شريكاً للكنيسة في الحكم والسلطة والثروة خلال المرحلة الأولى لمحاكم التفتيش، الأمر الذي مهد الطريق لظهور البروتستانتية التي قادت حركة الإصلاح الديني المسيحي، وفتحت المجال لولادة العلمانية بعد قيام الثورات الديمقراطية، حيث أدى الفصل بين الدين والدولة إلى تحويل الملوك من رموز كنسية بلا سلطة دينية، إلى رموز سيادية للدولة بوظائف ذات سلطة نافذة يحددها دستور مدني غير لاهوتي.
ما من شكٍ في أنّ الأكليروس بدأ يستشعر أخطاراً جدية على إثر ظهور واتساع نطاق النقاش الحر والتفكير العلمي القائم على استشراف آفاق المعطيات الناتجة عن تناقضات العالم الواقعي في ضوء قيام الثورة الصناعية واتساع نطاق منجزات العلوم النظرية والتطبيقية والكشوفات الجغرافية، وما ترتب عليها من حقائق جديدة ومشكلات واحتياجات ومتغيرات نوعية وكمية تستوجب تطوير وسائل ومناهج البحث والتخطيط والاستدلال على قاعدة حساب الاحتمالات والتوقعات التي تتيح للعقل بيئة تفكير حرة و مؤهلة لإبداع أجوبة جديدة على أسئلة الحياة المتغيرة، ما أدى إلى استشعار المؤسسة الدينية الكهنوتية بخطر تهميشها وتقليص نفوذها الذي كانت تستمده من موقعها المقدس كوسيط بين الله من جهةٍ وبين الدولة والناس من جهةٍ أخرى.
وقد كان الاعتقاد بقداسة رجال الدين في الأكليروس المسيحي يمنحهم الحق المطلق في التحدث باسم الله، انطلاقاً من فكرة التفويض الإلهي التي تجعلهم ورثة للمسيح وأنبياء بني اسرائيل من قبله، وتحصر في أيديهم القدرة على العلم بالغيب، وتجسيد الحقيقة واحتكار المعرفة، وتحديد ما يجوز وما لا يجوز وإلزام الدولة والمؤمنين بأوامرهم ونواهيهم التي تمثل إرادة الرب والمسيح والروح القدس، حيث لا يكون الملك صالحاً ولا يكون المجتمع مؤمناً ولا يكون العقل عارفاً إلا بالخضوع لأوامر رجال الدين بوصفهم العقل المؤتمن عند الله على الدين ورسالة المسيح.
كان هذا الاعتقاد يسوَّغ للملك ومن خلفه المؤمنون تجنب غضب الرب والمسيح، لأنّ من يرفض الخضوع لأوامر رجال الدين أو يناقشهم أويخالفهم، يكون قد عاند وعصى الملك واشتهى لحوم الملائكة، ومن يعاند الملك في لحظة توحده بالأكليروس يكون قد كسر إرادة رب السماء وأوامره ونواهيه التي تجد تجسيدها في ثالوث الرب والابن والروح القدس، فيما كان حرص الأكليروس على التوحد بالملك وسيلة دنيوية لازمة لتجسيد فكرة التفويض الإلهي الذي يزعم رجال الدين في الأكليروس الكاثوليكي والأرثوذكسي بأنّ الله منحهم تفويضاً بالوصاية على تنفيذ أوامره ونواهيه في الأرض بصفتهم ورثة الأنبياء، ومؤتمنين على رسالة رب السماء ووصايا المسيح، بعد أن ورثها الأكليروس عن لاهوت الأسلاف الحواريين والرسل والمحدثين والمبلغين والقديسين الذين صبغوا التعاليم المسيحية بمصالح الملوك ومصالحهم الدنيوية، ونسبوا إلى السيد المسيح الكثير من الروايات والقصص والأساطير والخرافات التي تتعارض مع قيمه ومبادئه المستوحاة من الله في زمن النبوة، والموثقة في أناجيل ورسائل الحواريين التي أجملها العهد الجديد، حيث إن جزاء من ينكر تلك الروايات التي وضعها المحدثون ونسبوها الى السيد المسيح، فصل الرأس عن الجسد، وبذلك يتم تحرير الجسد من آثام هرطقة العقل التي تتماهى مع الكفر، لأنّ العقل الذي يدفع صاحبه إلى التدبر الحر والتفكير المستقل عن عقل الكنيسة وكهنتها، يجب فصله عن الجسد حتى لا يجعل الروح الكامنة في الجسد، بما هي ينبوع الإيمان مخالفة للروح القدس التي لا يكون التوحد بالله والمسيح والكنيسة ورجال الدين الكهنوت إلا بها، الأمر الذي يستدعي تخليص الروح من هرطقة العقل كينبوع للكفر، حيث لا طائل للحوار مع أصحاب الهرطقة والبدع والمنكرات إلا إذا سلموا بالمرجعية اللاهوتية للقديسين والمحدثين والمبلغين، لأنّ الحوار معهم خارج هذا التسليم يضع الإيمان في خانة الشبهات، ويؤدي إلى معاندة الرب والمسيح، ويتسبب في غضب السماء على الملك والمؤمنين.
هكذا يرى الأكليروس من خلال محاكم التفتيش ضرورة تخليص الدين من خطر العلم الذي ينتهجه العقل المتاح لكل الناس بلا حدود، لأنّ ذلك يشكل افتئاتاً على حقوق رجال الدين الذين خصهم الله وحدهم بالعلم ومعرفة الحقيقة والتنبؤ بالمستقبل استناداً إلى أحاديث الغيب والمغيبات قبل الموت، والتي نسبها المحدثون والمبلغون والقديسون إلى السيد المسيح، على النقيض من التعاليم التي نقلها الحواريون عن المسيح وقرروا فيها أنّ الله وحده هو علام الغيوب، وأنّ المنجمين والسحرة يشبهون الزنادقة، وأنّ المسيح لا يعلم الغيب، لأنّه لو كان يعلم الغيب لما تعرض وقومه للأذى بحسب انجيل يوحنا، وهو ما أكده الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم الذي نقله إلى العالمين خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا وحبيبنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام حين خاطب الله رسوله الصادق الأمين في سورة الأعراف (قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) صدق الله العظيم (الأعراف 188).
كان رجال الأكليروس قبل ظهور العلمانية التي أنقذت أوروبا من مقاصل وحمامات دماء محاكم التفتيش يفرضون على الملك والدولة والمجتمع عقيدتهم الكهنوتية التي تزعم بأنّ الله خلق الروح ولم يخلق العقل، كما تزعم أيضاً بأنّ العقل الوحيد المناطة به فريضة التفكير هو العقل المقدس الذي يتجسد في عقيدة التثليث (الرب والابن والروح القدس) وانه ليس من العقل تحكيم العقل، لأنّ الله فوَّض رجال الدين وحدهم بتجسيد العقل المقدس بصفتهم مؤتمنين على هذا العقل وما ينطوي على ذلك التفويض من تعاليم الله وأوامره ونواهيه التي تلخصت في وصايا السيد المسيح عليه السلام.
من هذا المنطلق عملت المؤسسة الدينية الكهنوتية في الأكليروس المسيحي الكاثوليكي على حماية المؤمنين من الأفكار والهرطقات والمنكرات التي يعتبرها رجال الدين خطيرة على المذهب الاعتقادي لرجال الدين، حيث كانت رقابة الأكليروس على النشاط الفكري والفلسفي والعلمي شرطاً لحماية الأخلاق والنظام السائد، وثوابت الدين، وما يترتب على ذلك من قيود على التفكير ومنع انتشار الكتب والمنكرات التي تحتوي على أفكار مخالفة لوجهات نظر رجال الأكليروس.
يعود أول تقرير رسمي يتعلق بمنع الكتب في تاريخ الكنيسة إلى مرسوم أصدره البابا جيلازيو الأول في القرن الخامس الميلادي سنة 496، والذي حدد فيه قائمة الكتب المسموح بقراءتها، وقائمة الكتب الممنوعة، لكن القائمة الرسمية الكاملة لم تظهر إلا في عهد البابا ساندروفا رينزي المعروف بالبابا باولو الثالث الذي شغل كرسي البابوية في القرن السادس عشر الميلادي خلال الفترة من 1549-1534، وهي الفترة التي بلغت فيها محاكم التفتيش ذروة بطشها منذ تأسيسها بقرار إمبراطوري لمقاومة البروتستانتية التي شهدت أول ظهور لها في إيطاليا.
ومن نافل القول إن قائمة الكتب المحرمة تم توسيعها سنة 1559م من قبل محاكم التفتيش الإيطالية تحت إشراف البابا جان بياترو كارافا الملقب (باولو الرابع)، الذي كان سفاحاً دموياً لم تنج من مقاصله الرهيبة رقبة الملك فردينالد بتهمة التساهل مع بعض المفكرين والعلماء والفلاسفة الذين أدرج البابا باولو مؤلفاتهم ضمن قائمة الكتب المحرمة وأشهرها كتاب الفيلسوف الاسلامي ابن رشد الذي تعرض لبطش وقمع أشباه الأكليروس من فقهاء المسلمين بعد أن حكموا بإحراقه وتكفيره ورميه في السجن حتى الموت جوعاً وكمداً، بالإضافة إلى كتاب (الديكاميرون) لبوكاتشو وكتاب (الأمير) لميكافيللي وكتاب ( نوفيليثو) لمزاتشيو. كما شملت هذه القائمة ترجمة القرآن الكريم رغم ما كانت تحتويه من تشويه وتحريف لمعانيه، وكتبا أخرى لمشاهير الكتاب والمفكرين الذين حازوا بعد إعدامهم بوقت طويل جوائز نوبل، إلى جانب أعضاء بارزين في المجامع اللغوية والأكاديميات العلمية تعرضوا للبطش والقمع مثل بلزاك، بركلي، داروين، اينشتاين، هوبس، هوغو، جون لوك، فولتير، دانتي، زولا، ليو باردي، والنسخ الأرثوذكسية والبروتستانتية غير الكاثوليكية للعهد الجديد، كما أضافت الكنيسة لاحقاً إلى هذه القائمة كتب كل من سيمون دي بوفوار وجان بول سارتر ومالابزي قبل أن يعتذر البابا بولس السادس في الفاتيكان عام 2000 عن جرائم محاكم التفتيش تجاه العلماء والمفكرين والفلاسفة في حفل تاريخي اعيد فيه الاعتبار للعالم كوبر نيكوس والعالم جاليليو اللذين اكتشفا حقيقة كروية ودوران الارض، وهي الحقيقة التي لايزال الوهابيون حتى اليوم ينكرونها ويعتبرونها من المنكرات التي يجب النهي عنها والتصدي لها، فيما يعتبرون كل من يؤيدها من المسلمين مرتداً وكافراً يجب استتابته أو قتله بحسب ماجاء في فتوى شهيرة للشيخ عبدالعزيز بن باز عام 1964م !!.
كان المبدأ الأساسي لمحاكم التفتيش التي جاءت كرد فعلٍ لظهور الثورة العلمية والصناعية في أوروبا وما رافقها من أفكار تدعو إلى الحرية والعدالة والمساواة والتفكير الحُر، هو مقاومة المفاسد والبدع والهرطقات والمنكرات، استناداً إلى رواية نسبها الحواريون والمحدثون والمبلغون والقديسون إلى السيد المسيح عليه السلام، وهي رواية ينكر الأرثوذكس بعضها، فيما يرفضها كلياً البروتستانت وتقول على لسان السيد المسيح: ((إني أوليت القديسين يقصد رجال الدين كل سلطان في السماء والأرض، فأذهبوا وعلِّموا جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس، وعلِّموهم أن يحفظوا وينقلوا عنكم كل ما أوصيتكم به، وهأنذا معكم إلى نهاية العالم)) (إنجيل يوحنا 28: 18 20)، بالإضافة إلى قول منسوب إلى المسيح: ((وبعد أن فطروا قال يسوع لسمعان بطرس يا سمعان بن يونا، أتحبني أكثر مما يحبني هؤلاء القديسون.قال له : نعم.. يا رب أنت تعلم إني أحبك حباً شديداً, قال له: أرع خرافي واستمع الى القديسين فهم وحدهم العلماء العارفون المعصومون)) (إنجيل يوحنا (21: 15).
شهدت أوروبا في القرن الحادي عشر انتشاراً واسعاً للأفكار والمعارف الجديدة تحت تأثير الفتوحات العلمية والكشوفات الجغرافية واكتشاف البخار، حيث كان رجال الدين في الاكليروس المسيحي يصفون هذه الأفكار والمعارف بالهرطقة، ويرون فيها منكرات ومفاسد أخلاقية لا تهدد الكنيسة فقط، بل تهدد كيان الدولة وتكسر إطار المعرفة المسموح به من قبل رجال الأكليروس الكاثوليكي والذي أدى خروج الأرثوذكس عنه ورفضهم لدوغمائيته إلى صراعات طائفية تاريخية صبغت أوروبا بلون الدماء في مختلف عصور التاريخ الميلادي.
على غرار التعارض بين الأطر المعرفية لبعض الفرق المتشددة والمنغلقة من أهل الشيعة والسنّة في الإسلام السياسي، يختلف الأرثوذكس عن الكاثوليك في علم اللاهوت الذي يعرفه الأرثوذكس بأنّه علم الوحي، بمعنى معرفة ما يوحيه الله للمؤمنين بنفسه من خلال الاجتهادات الفكرية التي تساعدهم على تعميق الإيمان برسالة المسيح وتبيان معنى القداسة والحقيقة والأخلاق وطرق الوصول إليها في ضوء التعاليم المسيحية، حيث يحظى اللاهوت العقائدي بأهمية كبرى عند الأرثوذكس بما هو علم مؤسس على الفلسفة والاجتهاد لفهم حقائق الكون فهماً عقلياً في ضوء تعاليم المسيحية.
يتصادم هذا اللاهوت الأرثوذكسي مع اللاهوت الكاثوليكي الكتابي الذي يجد في (العهد الجديد) أساساً له، وبالذات (إنجيل متّى) الذي يركز على يسوع، وكأنّه موسى الجديد الذي يجلب للناس شريعة جديدة، بالإضافة إلى اهتمام الكاثوليك باللاهوت التاريخي الذي يضفي القداسة والعصمة على المحدثين الذين درسوا تعاليم الآباء الأوائل للكنيسة بعد عصر الانبياء وتلاميذهم الحواريين والرسل، إلى جانب اللاهوت الطبيعي واللاهوت الروحي اللذين يتحملان وزر تاريخ الصراع الدامي بين أتباع المذهب الكاثوليكي وأتباع المذهب الأرثوذكسي لجهة تحديد ما يمكن فهمه عن الله من خلال روايات وأساطير تركت ظلالها القاتمة والدامية على التاريخ المسيحي قبل وبعد محاكم التفتيش، حتى جاءت البروتستانتية لتقضي على تلك المحاكم وتنقل أوروبا إلى رحاب الفكر العلمي بعد أن كان المذهب الاعتقادي الكاثوليكي يحارب العقل ويحصر المعرفة في رجال الدين فقط، ويؤطر التفكير في نطاق ضيق لا يتجاوز تداول ونقل الروايات والأساطير التي تتحدث حول قضايا شائكة ومثيرة للصراعات في صيغة أقانيم دوغمائية لا تسمح للعقل بالاشتغال في السؤال والجواب إلا في حدود معينة مثل: هل يشبه الله الإنسان أم أنّ الإنسان يشبه الله وهل يضحك الله.. وهل يتجول الله حين ينزل من السماء في شطر من الليل، وهل لله جسم مادي، وهل لله جسد وأعضاء؟ وهل له يدان ورجلان وساقان وأصابع وقدمان؟، وهل يمكن رؤية الله وما هي طرق الرؤية وهل يستوي الله على العرش ويفرح ويحزن؟؟.. وغير ذلك من المسائل التي كان المذهب الاعتقادي الكاثوليكي يرفض أن يفكر العقل خارجها انطلاقاً من سِفرْ التكوين الذي يقول بأنّ الله خلق الإنسان وصنعه على مثاله (سِفر التكوين العهد القديم 5).
فيما يرى الأرثوذكس أنّ ما أدى الى جمود الحياة العقلية، ودخول الكاثوليك مع الأرثوذكس في صراعات دموية هو ميول المذهب الاعتقادي الأرثوذكسي لتحرير العقل من هذا الأقنوم ونقله إلى مجالات أوسع ناهيك عن أنّ الأرثوذكس كانوا يرون في تسلل شروحات اليهود لبعض ما جاء في لاهوت (سِفر التكوين) بالعهد القديم، الى أناجيل الحواريين ورسائل المبلغين في العهد الجديد، سببا في إضعاف قراءة وفهم الإنجيل لصالح التوراة، وتمديد مفعول التعاليم التوراتية بعد أن أصبحت غالبة على المسيحية نتيجة للآثار التي تركها المبلغون والمحدثون الذين تركوا اليهودية واعتنقوا المسيحية قبل فترة قصيرة من القبض على المسيح وصلبه، وعلى رأسهم يهوذا الاسخريوطي الذي تعد رواياته في اللاهوت الكاثوليكي كبيرة جدا ومليئة بالخرافات ومثيرة للشكوك والفتن، على الرغم من أنه كان أصغر الحواريين في حياة المسيح وأكثرهم شبهة في الايمان بتعاليمه وآخر من آمن بها قبل عام واحد من صلب المسيح، حيث كان يهوذا ينكر مسيحيته عند اعتقاله عدة مرات ثم يعود ويعتذر لزملائه بعد اطلاق سراحه!!؟؟
وقد لا حظت أثناء قراءتي التحليلية لمحتويات كتاب (العهد الجديد) المقدس عند المسيحيين، أنه لا يشمل سوى رسالة واحدة كتبها القديس يهوذا لا تتجاوز صفحة ونصف الصفحة، مقابل مئات الصفحات التي تضم الأناجيل الأربعة للحواريين (متّى، مرقس، لوقا، ويوحنا) بالاضافة الى 21 رسالة من المبلغين القديسين، واحدة منها فقط ليهوذا، بيد أن اللاهوت الكاثوليكي الذي يعتمد جزء كبير منه على روايات نسبها يهوذا الى السيد المسيح، ينكر أن تكون لروايات يهوذا علاقة بالفتنة التاريخية بين الكاثوليك والأرثودكس، ويعيدها الى (زنديق) يهودي تظاهر باعتناق المسيحية اسمه يهوذا الاسخريوطي الذي ينكر الأرثوذكس وجوده، ويعتبرون شخصيته صناعة خيالية اخترعها رجال الأكليروس الكاثوليكي لإخفاء مسؤولية ودور آبائهم القديسين الأوائل في صنع تلك الفتنة التاريخية الكبرى في التاريخ المسيحي السياسي.
ومن المفارقات المدهشة أن الخطر الذي بدأ يهدد مكانة رجال الدين في الأكليروس الكاثوليكي والأرثوذكسي بعد ظهور حركة الاصلاح الديني الذي بشرت به أفكار التنوير عند ظهورها، جعل الطرفين ينتقلان ولأول مرة من موقع العداء والصراع الدامي إلى موقع الشراكة دفاعاً عن هذه المكانة التي بدأت تتهاوى أمام انتشار افكار التنوير والتعاليم البروتستانتية التي لم تكتف فقط بوظيفة الإصلاح الديني، بل إنها مهدت تربة دينية ملائمة لانطلاق العقل صوب بحث ومناقشة القضايا الجديدة بنمط تفكير جديد وبأفكار حرة ومتجددة، بعد أن كان العقل المسيحي محصوراً في مناقشة الشبه بين الله والإنسان ضمن إطار اللاهوت العقائدي، وما رافق ذلك النقاش من دماء وآلام، بسبب رفض الأرثوذكس لفكرة تجسيم صفات الذات الإلهية عند المبلغين والمحدثين والمقلدين الكاثوليك.
وكان لافتاً للنظر أنّ التقاء الكاثوليك والأرثوذكس في خندق محاكم التفتيش ضد البروتستانتية والعلمانية، ارتبط بموقف هش وضعيف للقديس بولس الذي أجهد نفسه في تأويل ما جاء في العهد القديم بالقول إنّ الشبه بين الإنسان وبين الله هو شبه في القدسية والعدالة والسيرة، مؤكداً أن الله له أعضاء وعينان ورجلان، بيد أنه استدرك قائلا بأنها لاتشبه تلك التي توجد لدى المخلوقات المعروفة في الأرض (راجع تاريخ الكنيسة الكاثوليكية دار الكتاب الشريف بيروت 2000م) وهو ما يتطابق مع الاعتقاد السلفي السني لدى ابن تيمية الذي قال كلاما مماثلاً لما يقوله اليهود التوراتيون والمسيحيون الكاثوليك بشأن تجسيم صفات الذات الالهية، والزعم بأن الله خلق الانسان على (مثاله) أو (صورته)، وهو ما يرفضه أهل الشيعة والصوفية الذين يعتبرون تجسيم صفات الله من الافكار الاسرائيلية التوراتية.
مما له دلالة أن مراجع الشيعة والصوفية تزخر بمعارضة شديدة لما جاء في الجزء الأول من كتاب ابن تيمية (التفسير الكبير ص 270 الصادر عن دار الندوة في الرياض عام 1989م) والذي يزعم فيه ابن تيمية (بأن الله خلق الانسان على صورته) متماهياً بذلك مع السفسطة التوراتية والكاثوليكية..بينما كان رد مارتن لوثر داعية البروتستانتية والاصلاح الديني على القديس بولس قوياً وعميقاً جداً، حيث أوضح أنه لا يهمه أن يبحث العقل عن أجوبة على الأسئلة التي يطرحها اللاهوت المسيحي حول وجه الشبه بين الله والانسان، بقدر ما يهمه أن يبحث العقل عن أجوبة جديدة على أسئلة الحياة المتغيرة ذات الصلة بالدين والدولة بكل ما تنطوي عليه من مصالح متبادلة بين الملكية التي يمثلها الملوك والكنيسة التي يعبر عنها رجال الدين!!