نص المادةوإذا كانت ثمة ميزة فهي الاستعداد للتقبل وفتح النوافذ وأحيانا الأبواب من دون صد أو تخوف لذلك دخلت اليهودية اليمن واستقرت فيها قبل أن تزاحمها المسيحية، كما أن الإسلام شق طريقه إليها دون حاجة للسيف من هناك وللدرع هنا , بالمقياس نفسه لم تجد المذاهب الإسلامية مشقة في صعود جبال اليمن والطواف في سهولها. الشافعية والزيدية والحنفية والإسماعيلية وحتى الخوارج وجدوا لهم هنا في اليمن مستقراً ومقاماً وليس بعيداً عن الدلالة أن الخوارج أقاموا دولة في زبيد وأخرى في حضرموت أرساها الأباظيون (إحدى فرقهم) .. لم تعدم المذاهب الناشئة في العصور المتأخرة الوسائل ولا السبل لطرق أبواب اليمن والدخول منها.
الوهابيون مثالها الصارخ - قد أضيف أن التصوف في اليمن جاء هو الآخر من خارج الحدود إذ لا توجد طريقه صوفية من هذه المنتشرة في البلاد ذات منبت يمني أو منشأ حتى المذاهب السياسية الحديثة قفزت فوق أسوار اليمن دون استئذان فتمددت في المدن والأرياف واشتبكت مع بعضها بالأيدي والهراوات ثم استخدمت السلاح حتى أغزر أنهار الدم من مصر قبل الإخوان المسلمين يحملون مواعظهم وسيوفهم ثم لحقت بهم الناصرية طامحة وراجية, ولئن حملت الناصرية على ظهرانيها المشروع القومي فقد سبقها في إطلاقه هنا كل من حزب البعث العربي الاشتراكي وحركة القوميين العرب القادمين من الشام, ورغم المصدات القائمة في بيئة تتعانق فيها الثقافة المحافظة مع التفسير الرجعي للدين فإن جدولا صغيراً الجارف للماركسية استطاع اختراقها والنفاذ منها إلى مدن اليمن والوديان.
أكثر من هذا فعلى عكس مصر التي تأسس فيها أول مد شيوعي عربي وعلى خلاف العراق و السودان حيث ترسخ أقوى حزبين شيوعيين في العالم العربي, قامت على أرض اليمن دولة ماركسية دامت واستمرت إلى أن هوت الأنظمة الاشتراكية في أوروبا من القلاع والحصون الحكومات الشيوعية بقوة ضربات المطارق التي حملتها الشعوب هناك انسحبت الماركسية من كرسي السلطة هنا بالحيلة والهيام, حيلة الخصوم بغواية الهيام بالوحدة.
أقصد من هذا كله أن اليمن على الدوام تتلقى وتأخذ ولا تعطي وتمنح .. أنها ليست مصدر إشعاع فهي تلتقط البرق والعتمة في آن ولو كان من دليل فالوهابية وحدها دليل شاف وكاف.
أعود من هنا إلى قرار تحويل تعز عاصمة ثقافية منتقلا من فرضية بناء فكرته على أساس ما كان في الماضي البعيد إلى الاحتمال الأرجح وهو ازدهار النشاط الثقافي السياسي منه تحديدا في العقدين الستيني والسبعيني من القرن الفائت, ولعلي أرى أن عدن تتماثل معها وربما تتميز عليها, ففي هذه المدينة المستلقية في حضن البحر, المنتعشة برائحته وزرقته المتصلة بزرقة السماء تتعدد الثقافات وتتمازج وتخصب, إنها مدينة «كوزموبوليتة» بمعنى يتوفر فيها ما يغيب في سواها من المدن اليمنية, وهذا هيأ للنشاط الثقافي الارتقاء من مستوى الاهتمامات والجهود الفردية ليصير في بعض وجوهه ممارسة جماعية متفاعلة وخلاقة؛ فقد كانت عدن مفتوحة على الأصوات الثقافية والعلمية والصحفية تهب إليها من كل بر؛ لهذا انتشرت المكتبات وتعددت المنتديات الثقافية, وقد كانت في مجملها منتديات ضاجة ومكتبات عامرة.
وفي عدن أنشئت المدارس التي تقدم تعليما حديثا لم تعرفه تعز وغيرها من مدن الشمال إلا بعد ثورة 26 سبتمبر وفيها ولدت الصحافة في ثلاثينيات القرن العشرين, أما في تعز فباستثناء صحيفة «سبأ» المتواضعة تأسست الجريدة المهمة «الطليعة» على يد «عبد الله باذيب» الآتي من عدن.
عرفت عدن بواكير مسرح متعثرة وانتشرت فيها دور السينما وازدهرت الأغنية, وهي سبقت أكثر العواصم العربية في إقامة محطتين للبث الإذاعي والتلفزيوني.
لم تكن روح تعز ممتلئة ببهجة حياة اجتماعية وسياسية وثقافية تنعم بها مدينة تجارية خاصة بالحركة وقادرة على توليد النوادي الاجتماعية والرياضية والنقابات والأحزاب السياسية.
كانت هذه الحياة تجري في مناخ ليبرالي وفوق تضاريس جبلية ساحرة ومدهشة في إطلالتها على البحر وميناء يعج بالغادين والرائحين, والسفن ترسل الأصوات والأضواء تتلألأ من الأفق في البحر حتى أطراف المدينة على رمال الصحراء, وهكذا تستقر المقارنة لصالح عدن في مضمار الثقافة بشتى حقولها.
الحق أن تعز تتفوق على المدن اليمنية من ناحية العدد الإجمالي للمثقفين وحملة الشهادات العليا, وهذا أمر مرده حجم السكان وقربهم من عدن, لكن هؤلاء ليسوا امتيازا حصريا لتعز المدينة أو المحافظة إنهم جزء كبير من ذخيرة وطنية أكثرها لم تستخدم في معركة بناء اليمن.
يقود هذا إلى السؤال عما إذا كان لازما تعيين عاصمة ثقافية لليمن؟
وأزعم أن هذا نوع من التزيد لا داع, وربما أنه هروب من الوفاء بواجبات تجاه مدينة تعز وسكانها.
إن باريس عاصمة فرنسا هي نفسها باريس مدينة النور, وهي لم تمتلك طاقتها على الإشعاع بفضل قرار حكومي, لكنها روح فرنسا تغذت على مدى قرون بالعلم والمدينة والتحضر, وبالمناخ الذي يعلي من شأن العقل ويكسر القيود الدينية والاجتماعية الكابحة للتفكير والمبادرة.
إن الجامعات ومراكز الأبحاث ومدارس الفنون وجمال العمارة والمتاحف والساحات والحدائق هي التي ألهمت الفلاسفة والشعراء والرسامين والمعماريين العظام ولعلي أجازف بالظن أن عطاء جامعة السوربون لم يكن بالسخاء نفسه بدون سخاء متحف اللوفر والشانزيلزيه وسان ميشيل وغيره من الميادين العابقة برائحة اللوحات الفنية.
فرنسا التي قدمت رئيسا مثقفا بوزن «فرانسوا ميتران» هي ذاتها فرنسا التي كان أشهر طغاتها راعيا للفنون والعلوم, ذلك هو « لويس الرابع عشر» حمى الكاتب المسرحي «موليير» من غضبات الارستقراطية الباريسية على إمعانه في التهكم بها والسخرية منها خصوصا في مسرحيته الشهيرة «طرطوف».
و»روما» ذلك المتحف الفني المدهش إنما هي نتاج ذوق فتى رفيع منذ كانت عاصمة الإمبراطورية «الرومانية» وهي بميادينها المفروشة بالحمام وبكاتدرائياتها ومعمارها الباذخ وبحدائقها ومتاحفها أوحت لعباقرة الرسم «مايكل انجلوا» و «رافائيل» و «دافنشي» وأضرابهم أن يبدعوا لوحاتهم الخالدة, كما ألهمت الموسيقيين من أمثال «ديفالدي» و «روسيتي» و»مونتنفيردي» أن ينسجوا أعذب المقطوعات.
وما كان «موزارت» أو «باخ» بدون جمال فيينا ولا كان «فان جوخ» من غير سحر هولندا.
إن لندن عاصمة سياسية ومركز للفنون ونيويورك المركز التجاري والمالي الأعظم في العالم يتجاوز فيها «وول ستريت» الشارع الضيق ب»البرودواي» الشارع المليء بالمسارح والمتاحف والمكتبات.
كل هذه وغيرها من المدن التي تتنفس الشعر وتصدح فيها الموسيقى ويفوح منها عبق التاريخ لم يصدر بها قرار, وإنما هي ثمرة رؤية وكفاح أجيال متعاقبة أحبت العلم وعشقت الجمال, فضلا عن كونها نتاجا طبيعيا, هيأته حكومات لا تصادر رواية أو تحاول السطو على مجلة متخصصة لمجرد أنها تحقق عائدا ماديا مجزيا.
بعد هذا دعوني أجزم أن تعز كانت أجمل في الستينيات والسبعينيات من القرن الذي ولى, مدينة صغيرة نظيفة, فيها مساحة للخضرة ولديها حركة سياسية ونقابية نشطة, وقطاع طلابي ممتلئ بالوعي, شغوف مفعم بالأمل, ومكتبات تجارية تعرض روايات دستوفسكي وتولستوي وتشارلز ديكنز والكسندر ديماس ومسرحيات شكسبير ومذكرات مونتجمري وتشرشل, وتاريخ الرايخ الثالث ومؤلفات لينين وتروتسكي وروزا لوكسمبرج وجبران خليل جبران, وغير هؤلاء ممن أضاءوا للبشرية طريق العقل.
كانت في تعز خمس دور سينما وأربعة مراكز ثقافية ومقاه أشبه بمنتديات صغيرة, «مقهى الإبي» ومقهى نبيل «الوقاد» في شارع 26 سبتمبر, وفي وقت لاحق بوفية «مأرب» في شارع جمال, كلها لا تتعجل مغادرة روادها.
ففي مقهى «الوقاد» يقضي الزوار ساعات طوالاً في لعب الشطرنج والدومينو, وفي بوفية مأرب تغريهم بالجلسة أغنيات «أم كلثوم» و«فريد الأطرش» و«وردة الجزائرية».
خلال العقود الثلاثة الأخيرة تزينت تعز ونمت نموا سرطانيا واختفت الخضرة التي كانت تحف بها من أطرافها, ثعبات, حذران, مزرعة عصيفرة وما يليها, المجلية والمغربية, وتلك الأشجار التي تغطي ظهر المجلية وحافة المستشفى الجمهوري والغور الفاصل بينهما وبين الجحملية.
خربت دور السينما وأغلقت المراكز الثقافية, وأما مكتباتها فأبرز ما يملأ رفوفها كتب من نوعية «فتاوى ابن باز» و«لا تحزن» لعائض القرني.
غير هذا لم تعد مدينة تعز مدينة مطمئنة ومسالمة , هي ليست غابة من الاسمنت وحده, بل من الاسمنت والبنادق, وقد استعاضت الأغاني بالرصاص الملعلع واستبدلت الأشجار بجثث القتلى, واستوطنتها الأوبئة وراجت المخدرات بين شباب مقهور, يائس ومتعطل.
لكي تصبح تعز مدينة ثقافية مهمة - دون أن نشطح ونتحدث عن عاصمة للثقافة- يتوجب إنشاء تعز جديدة خارج القرية الكبيرة الكائنة الآن, مدينة مخططة تخطيطا عمرانيا حديثا, بشوارع عريضة وميادين فسيحة ومتنزهات وحدائق عامة وحدائق وملاعب للأطفال ومسابح وصالات للألعاب ومكتبة مركزية تضم صالات للسينما والمسرح منفصلة وتماثيل وأشكال هندسية تنتظم في الميادين والساحات والشوارع.
إن مدينة للثقافة تتطلب بنية أساسية متكاملة ليست متاحة في المدينة الحالية, ولا بد أن يواكب تشييد البنية الأساسية إعداد البنية الفوقية وإلا تحولت إلى مدينة أشباح، و توسيع البنية الأساسية لتشمل بناء وتجهيز معاهد ومدارس وكليات للفنون التشكيلية للفنون التشكيلية والفنون الجميلة, ليس بالضرورة أن تكون مقراتها جميعا تعز ولا بأس, بل من الضروري استقدام خبراء ومعلمين أجانب للتدريس والتدريب, وأن تبتعث إلى الخارج المواهب والخامات المهيأة لأن تتعلم وتصقل مهاراتها حتى تبدع وتنجز.
يسبق هذا كله إعادة النظر في مناهج التعليم وطرق التدريس, إن هذا يحتم صياغة مناهج جديدة خالية من الحشو الكثير والغث خالصة من التقول والكذب على الدين والأخلاق, مناهج تستثير عقل الطالب, وتنمي ذكاءه, وتوسع خياله وتجدد روحه.
يتوازى مع هذا أهمية - وبالدرجة نفسها - تطوير وسائل وطرق التدريس وتأهيل المدرس بما يلبي ويستجيب.
ومن اللازم استحداث تدريس الرسم والموسيقى في المدارس وقد نجد صعوبة وسوف نجدها بالفعل في العثور على كادر كاف لكننا نستطيع أن نبدأ بمدارس مختارة, كما أن من المهم تكوين وفتح مكتبات وقاعات للمطالعة والبحث في المدارس والجامعات وتكوين فرق موسيقية ومسرحية.
إن الثقافة عملية متكاملة, وجهد متصل يبدأ من التعليم والبيئة المناسبة والوسائل والأدوات الفعالة, ذلك يتطلب عزيمة قوية ورؤية واضحة ومثابرة مستمرة, بهذا سوف تتحول المدن اليمنية - لا تعز وحدها - إلى مدن ثقافية.
ولربما بدا هذا ضربا من الأماني المستحيلة لأنه يتطلب استثمارات هائلة لا تقوى عليها موارد البلاد, وأنا قلت إنها عملية طويلة الإرادة مفتاحها والبداية أول الطريق, ويمكن تدبير الموارد من مصادر متعددة أولها تقليص مشتريات السلاح.
يبدو من هنا القرار بتحويل تعز عاصمة ثقافية بلا معنى, وفي وسع أي سائح أن يفهمه بأنه محاولة لرشوة أهلها واسترضاء كبريائهم مادامت صنعاء عاصمة سياسية وعدن عاصمة اقتصادية رغم أنهم في أمريكا لا يقولون إن نيويورك عاصمة اقتصادية ولا يصبغ الألمان على فرانكفورت هذه الصفة.
وأظن أن ما تترجاه تعز الآن أن تخلصها الحكومة من السلاح المرعب والأوبئة الفتاكة وفوضى نهب الأراضي.
وتعز تأمل الالتفات إلى حاجتها للخدمات الضرورية, فهي تريد أن تشرب وتستضيء حتى تستطيع أن تقرأ وتستمع للغناء فضلا عن أن تكتب وتغني.
قد نتمنى على الحكومة أن تتواضع في طموحها الثقافي وتبدأ بإنشاء معهد للموسيقى وآخر للسينما والمسرح يقامان في صنعاء أو عدن, ويكفي تعز مكتبة تليق بها.