وبوسع كل من يتابع برامج هذه القنوات (الشبابية) ملاحظة توجهها الواضح لتسويق خطاب سياسي و ثقافي وإعلامي ينطوي على (نزعة ثورية) لا تخلو من التطرف الذي أدى إلى إجهاض مشاريع التغيير في مراحل مختلفة من تاريخ حركة التحرر الوطني العربية في حقبة الستينات والسبعينات، وهو ما دفعني إلى كتابة هذا المقال، خصوصاً بعد مشاهدتي ندوات ثقافية في بعض القنوات (الشبابية الثورية) مجهولة المصدر والتمويل، حيث يتحدث بعض (الشباب) بلغة (ثورية) فوضوية تنزع إلى (تصعيد) نطاق ما يسمونه (الفعل الثوري) ليشمل كل (مظاهر الركود في المجتمع العربي بما فيها اللغة والأدب) !!!!!!
ومما لاشك فيه أن هذا الخطاب (الثوري) كان طاغياً في بداية السبعينات من القرن العشرين المنصرم حيث شهدت حياتنا الأدبية جدلاً واسعاً حول بعض قضايا وإشكاليات التجديد التعبيري في الشعر، وأزعم بأن ذلك الجدل كان يتسمُ بالنقاش الحيوي الذي حاول أن يتلمس طريقاً واضحاً لمسار تطور العملية الإبداعية للأدب العربي الجديد في كل الأقطار العربية وبضمنها اليمن .
كان طموحنا إلى الغد- ومازال- كبيراً جداً، فيما كان اتجاه الرحلة واضحاً وثابتاً، لكن الوسائل التي جرى استخدامها للسير في هذا الاتجاه اتسمت بالتنوع المعقد بين مسالك واقعية ومأمونة التطور، وأخرى لا صلة لها بالواقع ولا قدرة لها على النمو.
أما الطرق التي سار عليها الأدب، فقد أصبحت مأمونة بمرور الزمن، وتراكم الخبرات فيما توضحت معالمها الرئيسة وترسخت أسسها المتينة، وذلك بفضل تبلور وتعمق النزوع نحو تبني أفكار تقدمية للتغيير على نطاق واسع، حيث نزعم بأن تلك الأفكار كانت تشكل قوة مادية هائلة في مختلف مجالات الحياة المادية والروحية لمجتمعنا الجديد، وبضمنها حياتنا الأدبية.
هذه المقدمة لابد منها- بعد إذن القارئ الكريم- للعودة إلى ما أشرنا إليه في بداية هذا الحديث وخصوصاً فيما يتعلق بإشكاليات التجديد التعبيري، والحوارات التي جرت بصددها في الوسط الأدبي عند مطلع السبعينيات على إثر بروز بعض الممارسات المتطرفة في التجريب الشكلي ذي النزعة الثورية (العدمية)، التي كان أصحابها يبررون عدم اتساق ممارساتهم مع حركة الواقع وعجزها عن الاتصال بالناس بالزعم (بالمستقبلية) والقول بأن قراء تجاربهم الشعرية لا يعيشون معنا، ولكنهم سيولدون بعد أجيال لاحقة في المستقبل البعيد. ولعل أبرز ما تميزت به تلك الممارسات نزوعها إلى تشكيل علاقات غير موضوعية بين الأشياء بدلاً من استيعاب العلاقات الداخلية للظواهر القائمة، وتغييرها فمنهم من حاولوا زراعة الورود والزهور في ذيول الكلاب وآخرون حاولوا أن يفتشوا عن الماء في قرون الثيران، ومشاهدة جمال وجه الحبيبة في لمعان الحذاء، فيما ذهب قسم ثالث إلى المطالبة بابتكار( لغة ثورية جديدة) تقوم على حطام وأنقاض تراكيب وتعابير اللغة القائمة.
وهذه المقدمة ضرورية أيضاً عندما نتأمل بعض الظواهر الفنية التجريبية التي أخذت تبرز أحيانا في بعض التجارب الإبداعية، وعلى وجه الخصوص عند بعض الأصوات الشعرية الجديدة من الناشئين الشباب وأبرزها ظاهرة التعامل العدمي مع اللغة بوصفها أداة للتشكيل الفني، بالإضافة إلى كونها وسيلةً للتعبير والاتصال.
بعض أولئك الموهوبين كانوا يتصورون تحت تأثير الانبهار ببعض تجارب (التغيير الثوري) الخارجية أن مهمة الشعر والشعراء هي تفجير ثورة في اللغة توازي ما يقوم به السياسيون عندما يثورون على المجتمع وهو الرأي الذي نادى به (أدونيس) وآخرون في المشرق العربي، حيث تصبح مهمة الشعراء تحطيم تراكيب اللغة وتهديم أبنيتها الفنية والتعبيرية وإلغاء وظيفتها الاتصالية العامة باعتبار أنها موروثة من الماضي، شأنها في ذلك شأن البنى الاقتصادية والاجتماعية التحتية للمجتمع القديم. والمطلوب بمقتضى ذلك هو الثورة على اللغة بوصفها إرثاً جاهزاً من (بقايا) زمن ثقافي ميت.
ولعل بعض هذا البعض يتعاطى في هذه الأيام مثل هذه المفاهيم والنزعات تحت تأثير المزاج التأثيري غير الواعي، حيث ينعكس ذلك في ظاهرة الغموض والخروج عن إيقاعات الموسيقى الداخلية والخارجية واستخدام الصور والعلاقات غير المألوفة وغير الموضوعية وتسطيح المعاني فوق ركام من الألفاظ والتعابير المصنوعة.
وعندما تسأل عن مغزى هذا التجريب الشكلي سيكون جواب هؤلاء: أنها (ثورة) على اللغة في مجرى (الثورة) على (بقايا) البنى القديمة في المجتمع.
إن خطورة هذه التصورات لا تكمن فقط في فصل اللغة عن الوعي الاجتماعي والوجود الاجتماعي للناس واعتبارها بناءً خالصاً أو عالماً مستقلاً، كما يصرح بذلك منظرو ما يسمى (الربيع الثوري العربي)، لكن خطورتها تكمن أيضاً في تأثر بعض الموهوبين الشباب بهذه الآراء، خصوصاًً أولئك الذين لم تتعزز- بعد- مداركهم الثقافية، الأمر الذي يقودهم ببراءة وعفوية إلى تبني مواقف فنية ذات طبيعة فكرية لا تتسق مع معطيات حركة الواقع الاجتماعي واتجاهات تطورها في بلادنا.
لقد تعاقبت على الثقافة العربية تشكيلات اجتماعية تاريخية مختلفة منذ عصر ما قبل الإسلام وخلال هذه الفترة الطويلة تغير مضمون هذه الثقافة مع تغير الأبنية التحتية والأبنية الفوقية للمجتمعات العربية غير أن اللغة العربية لم تتغير ولم تتهدم، وعلى الرغم من أن اللغة العربية قد اغتنت واكتسبت العديد من المفردات والاستخدامات التعبيرية الجديدة، غير أن قواعدها وتراكيبها ووظيفتها ظلت ثابتة، بل إن اللغة ذاتها ظلت تؤدي وظيفتها الاتصالية والتعبيرية في خدمة النشاط الواعي للإنسان العربي في مختلف مراحل تطوره التاريخي بدءاً بالنهضة الثقافية الإسلامية ومروراً بالحركات الفكرية العقلية التنويرية والإصلاحية، وانتهاءً بحركة التحرر الوطني العربي المعاصرة. فما هي الفائدة من إحداث ثورة في اللغة خاصة وأن نظام قواعدها وتراكيبها كان يواكب على الدوام المجرى العام للتطور الموضوعي الذي شهدته الحياة الثقافية والفكرية العربية.
الثائرون على اللغة
يطيب لبعض جهابدة القنوات الفضائية (الشبابية الثورية) التي نبتت على تربة ما يسمى (الربيع العربي)، استخدام تعبير «ديمقراطية اللغة»، عند تناولهم للأثر الذي تركته الصحافة والطباعة ووسائل الإعلام الجماهيري الأخرى عند ظهورها، في مجال إبراز أشكال جديدة ومعاصرة من التعليم الشعبي لقواعد اللغة، ونمو وتوسع قاعدة الأرومة الأساسية لكلمات اللغة ونظام قواعدها، والطاقة التعبيرية لألفاظها وأساليبها، فيما يرى بعض آخر، أن الصحافة العربية أسهمت بقسط واسع في خدمة اللغة العربية، حيث يجري على الألسنة والأقلام في الوقت الحاضر، استخدام مفردات وألفاظ وأساليب لم تستخدمها المجامع اللغوية، بقدر ما تعود إلى اجتهادات ومبادرات الكتاب والأدباء والصحافيين من أمثال سلامة موسى صاحب الفضل في ظهور كلمة «الاشتراكية» باللغة العربية، والشيخ إبراهيم اليازجي وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وجورجي زيدان وطه حسين والشيخ عبدالله العلايلي والأستاذ علي جواد الطاهر وغيرهم من الذين عملوا على ترجمة اصطلاحات منجزات الحضارة الحديثة في ميادين السياسة والتكنولوجيا والعلوم والفنون، وأسهموا في تنمية الثروة اللغوية وتزويد معجم اللغة العربية بالألفاظ والمفردات الجديدة واللازمة لمواكبة التطور المتسارع في الحياة المعاصرة والفكر العربي المعاصر.
وبهذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن وسائل الإعلام الجماهيرية شكلت عند ظهورها عاملاً مساعداً لتأمين سلامة نمو اللغة بصورة طبيعية وديمقراطية من خلال نمو الألفاظ وسهولة الأساليب على نحو يتوافق مع إيقاعات الزمن المعاصر، وبفضل الدور الذي لعبته وسائل الإعلام في تكوين الوعي، وتوصيل الثقافة، أمكن للغة أن تكتسب المرونة في التعبير عن شؤون الحياة، وزيادة فعالية الاتجاهات الجديدة النامية في إطار الوعي الاجتماعي للناس، وبالتالي تعزيز مساهمة هذه الاتجاهات الجديدة في تشكيل بنية الفكر والثقافة ومنظومة القيم، وما يترتب عن ذلك من انعكاسات على صعيد الهياكل المادية للمجتمع الإنساني.
وبتأثير ذلك، يرى العديد من علماء اللغة، أن التطور اللغوي حدث في اتجاهين متعاكسين، يتمثل الأول في تضخم قاموس الألفاظ، بينما يتمثل الثاني في ثبات النزعة المحافظة للقواعد النحوية التي لا تستوعب سوى الإضافات غير الضارة بسلامة الأسلوب في اللغة.
ولاريب في أن الإنسان يستطيع الانعزال عن عالمه الموضوعي الزاخر بالفعاليات الاجتماعية المختلفة للناس في مجرى نشاطهم الواعي والهادف، بيد أنه يتعامل مع هذا العالم تحت تأثير لغة قامت في مجتمعه الصغير كوسيلة للتعبير.. ومن السخف تماماً أن نتصور أية إمكانية لأن يتعامل الإنسان مع الواقع الاجتماعي بدون لغة.
وإذا كانت التعاريف العلمية للغة تشترك في اعتبارها ظاهرة اجتماعية تتميز في كون معظم التصرف اللغوي يكمن في مستوى اللاوعي، وهو ما يستجد في أن الإنسان يبدأ تعلم واستخدام الأصوات والرموز والإشارات والمعاني والدلالات منذ الطفولة المبكرة، دون أن يعي من خلال بدايات هذا التعلم قواعد النحو والصرف، فإن ذلك يدل على أن الإنسان يستخدم اللغة في صياغة عالمه الموضوعي بصورة لا شعورية على أساس من عادات لغوية مكتسبة، الأمر الذي يعني حقيقة أن اللغة تلعب دوراً هاماً في المساعدة على تشكيل النشاط الاجتماعي للناس في مجرى المجتمع البشري.
وهنا، تتجلى بوضوح أهمية ترسيخ وتأصيل مكانة اللغة في وعي الناس الذين يشيدون بسواعدهم وأدمغتهم المجتمع الجديد في ظل عمليات التغيير التي تستهدف تهديم البنى التحتية والفوقية للمجتمع البشري القديم، واستبدالها ببنى جديدة تعبر عن مصالح القوى الجديدة في مجتمعنا، وتوفر الظروف الملائمة لتحقيق تطورها في رحاب الحرية والديمقراطية.
الثابت، أنه من الخطأ- كل الخطأ- أن نخلط بين اللغة والبناء الفوقي، خصوصاً وأن الأخير يرتبط بالبناء التحتي عن طريق أسلوب الإنتاج السائد في المجتمع، ويتأثر بالتغيرات التي تحدث في مستوى تطور القوى المنتجة والعلاقات الاجتماعية.. علماً بأن هذا التأثر قد يكون محدودا وبطيئا، تبعا لدرجة ونوعية هذه التغيرات.
أما اللغة، فإنها ترتبط مباشرة بالنشاط الاجتماعي للناس في كل مجالات الإنتاج المادي والروحي، وتتأثر مباشرة بمنجزات هذا النشاط في مختلف حقول الصناعة والزراعة والآداب والفنون والعلوم.. الخ، حتى وإن لم تؤد هذه المنجزات إلى انقلاب حاسم وشامل في بنية المجتمع التحتية، الأمر الذي يجد تجسيداً له في التطور المستمر والشامل لمعجم اللغة، على النحو الذي أشرنا إليه آنفا، وذلك من خلال اكتساب مفردات وتعابير جديدة تواكب الاحتياجات المادية والروحية المتنامية في حياة الناس الاجتماعية، وهجر استخدام بعض المفردات والتعابير القديمة التي لا تتفاعل مع منجزات الحياة المادية والروحية للإنسان، فيما تكتسب بعض المفردات والتعابير المتداولة دلالات ومعاني جديدة.
على أن ذلك لا يقود إطلاقاً إلى تدمير الأرومة الأساسية للمفردات ونظام قواعد اللغة الذي يظل أساسا ثابتا لتطور اللغة.. وهو ما يستدعي الإشارة إلى أن التأكيد على القيمة الوطنية والتاريخية للغة، يكتسب أهمية خاصة في مواجهة بعض المفاهيم العدمية والفوضوية التي تعتبر المحافظة على الأرومة الأساسية للمفردات ونظام قواعد الكلمات موقفاً (غير ثوري).. ويزيد من حدة الإشكالات التي تتركها هذه المفاهيم الخاطئة، ذلك التأثير الذي ينشأ عن انتشار حركة التجديد التعبيري في الأدب العربي والعالمي، وما يرافق هذا التجديد من شيوع للمفاهيم والتصورات الثورية المتنوعة.. وبضمنها النزعات الثورية الفوضوية والشكلية.
فما من شك، أن البناء الفوقي للمجتمع، لا يملك القدرة على الثبات والخلود، إذ أنه يتغير وينتهي بمجرد حدوث انقلاب شامل في بنية المجتمع التحتية، أما اللغة فهي نتاج لعصور مختلفة، وتمتلك القدرة على البقاء والاستمرار والخلود عبر اختلاف العصور التاريخية والنظم الاجتماعية. وعندما تتطور اللغة من خلال اكتسابها العديد من التعابير والمفردات تبعا لتطور خبرة العمل الاجتماعي للبشر، إلا أن هذا التطور يقوم دائما على أساس نظام قواعد اللغة وحده وليس خارجه.
ولما كانت اللغة هي الوسيط الذي يتواصل من خلاله الناس، ويتبادل الأفراد بواسطته خبرات ومنجزات نشاطهم المادي والمعرفي، فإن الوجود الاجتماعي يصبح مستحيلاً بدون لغة يفهمها المجتمع، ويشترك في تداولها كل أعضائه.. وبهذا لا تصبح اللغة هدفاً في الصراع بين أعضاء المجتمع الطبقي، بل تغدو أداة في هذا الصراع، حيث يتم استخدامها في صياغة المفاهيم والتصورات والرؤى الفكرية والسياسية المتناقضة داخل المجتمع الواحد، وبين صفوف الشعب الواحد، مما يفسر اشتراك اللغة الرفيعة الواحدة في خدمة ثقافتين طبقيتين متناقضتين.
ويؤكد تاريخ تطور المجتمع البشري أن الأرومة الأساسية للكلمات الأصلية النواة في اللغات الوطنية، توفر أساساً يساعد في صياغة واكتساب كلمات ومفردات جديدة، وتبعا لذلك، فإن الذي يتغير في اللغة هو معجمها فقط، حيث يتم التغير طبقا لتطور إنجازات نشاط الناس المادي والمعرفي.
وبالنظر إلى التأثير الذي يحدثه المجتمع في معجم اللغة، فإنه- أي المعجم- لا يمكن أن يغتني ويتنوع بدون السيطرة الصارمة لأرومة الكلمات ونظام قواعدها، كشرط لتحويل الكلمات وتركيبها في جمل وأساليب، وإظهار أفكار الإنسان في صورة لغوية مادية.
وإذا كان لابد من الإشارة إلى السبب الرئيسي وراء قدرة اللغة على الاستمرار في خدمة المجتمع البشري عبر اختلاف العصور التاريخية والأنظمة الاجتماعية المتعاقبة، فإن هذا السبب يرجع إلى كون السمة النوعية للغة تكمن في قدرة نظام القواعد وأرومة الكلمات- اللذين يؤلفان أساس اللغة- على مقاومة العوامل الخارجية التي تستهدف قهر اللغة والقضاء عليها.
وعليه.. يمكن القول بأن الثقافة واللغة عنصران مختلفان.. وأن وجود منظومات واتجاهات ثقافية متصادمة في المجتمع الواحد لا يعني نفي حقيقة وجود لغة واحدة وخالدة تتطور بشكل تراكمي تاريخي.. كما أن تسويق خطاب ثقافي (ثوري) لايبرر الدعوة إلى إحداث ثورة في اللغة بصورة إرادية، لكن هذا التطور في الحياة،وفي مدلولات التعابير والكلمات لا يتمُ استخدامه في اللغة بموجب قواعد (ثورية) صرفة،وإنما بموجب نظام قواعد اللغة المتداولة بين الناس .