السؤال الأول: ما هي الديمقراطية؟
والجواب هو: هي اولا القدرة على استيعاب الواقع بكل تبايناته وتناقضاته ووحدته من موقع يضمن التكافؤ الحركي لجميع هذه المعطيات.
ثم هي ثانيا القدرة على فهم واستيعاب الامكانيات الحقيقية الكامنة وراء اطلاق الحريات في خلق تطور نوعي حقيقي.
من خلال هذه النظرة نخلص الى ان الديمقراطية هي محاولة لفهم الترابط العميق والجدلي بين سيكولوجية الفرد والمجتمع من جهة وبين تعاطيهما- على أساس هذا الفهم- لحقائق الواقع الموضوعي من جهة اخرى، أي ان الديمقراطية تتحرك وتتطور بل وتتغير اشكالها من خلال التأثير الذي تفرضه هي على المستويات الثلاثة (الفرد، المجتمع، الواقع) من عوامل الرفض والاصطدام والتثوير. هذه العوامل التي تنبع اساسا من التركيب السيكولوجي للفرد والمجتمع ومستوى ديناميكية تعاطيهما لحقائق الواقع وافرازاته المتجددة، وبهذه العملية نفسها (تتأثر) الديمقراطية كموضوع حي قابل للنمو والتجديد.
من هنا نلاحظ انه يكون للديمقراطية دور ريادي في مختلف العمليات التي تحدث في المجتمع، وهنا يبرز السؤال الثاني: لماذا يكون للديمقراطية هذا الدور الريادي؟.
والجواب: لانها تحتوي على امكانيات كبيرة لاطلاق الابداع الفردي والاجتماعي وكسر قيد الجمود والتشدد، واتاحة فرص واسعة لانتشار التفكير الجديد بعيدا عن الصنمية والاحادية في الفكر والسياسة والعلم والفن والاقتصاد والثقافة.. الخ.
بمعنى آخر ان الديمقراطية هي الحصان الذي يجب ان يسبق العربة او مجموعة العربات التي يجرها وليس العكس.
من هنا يبرز السؤال المنطقي الثالث: هل الديمقراطية كحاجة (استراتيجية ام مرحلية)؟.
للاجابة على هذا السؤال نعيد التأمل مجددا بالديمقراطية كقضية اجتماعية وواقعية مؤثرة فنرى انها ضرورية باستمرار من أجل تثوير المجتمع وتجديده، أي انها مطلوبة لكل زمان ما بقي الانسان. ومن هذا المفهوم بالذات تكتسب الديمقراطية صفة (اللزوم) وتتخذ بعدا استراتيجيا.
الا انها- الديمقراطية- تختلف من مجتمع الى آخر ومن وقت لآخر، بل حتى في المجتمع ذاته نراها تختلف من مرحلة لاخرى. فديمقراطية اليوم في المجتمع المعين ليست كديمقراطية الأمس، وستتخذ ديمقراطية الغد اشكالا اخرى تختلف عن ديمقراطية اليوم بحسب معطيات المرحلة ذاتها. اذا من هذا المفهوم بالذات نرى ان الديمقراطية تكتسب صفة (التحول) وتتخذ ابعادا مرحلية ايضا.
وبمعنى عام وشامل نستطيع القول بإن الديمقراطية هي (ديمقراطية حتى في ذاتها وتكوينها) اذا جاز التعبير، لانها تجمع بين كونها ثابتة ومتحولة، استراتيجية ومرحلية.
بقي الآن السؤال الرابع الاخير والكبير وهو: لمن الديمقراطية؟
هذا السؤال يبدو للوهلة الأولى ملتبسا وشائكا، لكنه يفضح كثيرا من العقول التي لا تستطيع التفريق بين الديمقراطية كمبدأ انساني عاقل ينشد الخير، وبين الديمقراطية كحالة ميكانيكية او فكرة ميتافيزيقية مجردة. فقد يقول قائل ان مجرد طرح سؤال كهذا هو محاولة لتقييد وتقنين الديمقراطية.. غير انني ارى ان السؤال في كل الاحوال يجب ان يطرح،ولتتعدد الاجابات بعد ذلك لان الفرق شاسع بين الديمقراطية والفوضوية.
وفي تقديري ان جوهر الديمقراطية وأهميتها وامكانية وجودها اصلا يرتبط ارتباطا مباشرا بالاجابة على هذا السؤال.. وعلى اعتبار ان للديمقراطية بعدا استراتيجيا كما اشرنا فلا مندوحة من تمثلها باستمرار من قبل جميع افراد المجتمع، ولكونها ايضا تتخذ ابعادا مرحلية حتى في المجتمع ذاته فلا مناص من معرفة القوى الاجتماعية الحاملة للواء الديمقراطية كوسيلة للتجديد (الايجابي) والتطوير المطرد للمجتمع عبر مراحله المختلفة. وعليه فان معرفة الطبقات والفئات الاجتماعية في هذا المرحلة او تلك تعني معرفة الاطار الواسع والحامل للواء الديمقراطية بل والقادر على اجراء تغييرات عظيمة في الواقع الاجتماعي والموضوعي بما يؤمن بقاء ونمو المصالح العليا للشعب والوطن.
من الوعي بهذا الاطار الاجتماعي والواقعي للديمقراطية يتأكد مفهوم (اجتماعية المسألة الديمقراطية) فلا وجود لديمقراطية فوق الطبقات والفئات الاجتماعية محلقة في السماء، كما لا يمكن القبول بديمقراطية الاقلية او النخبة على حساب المصالح العليا للشعب والوطن او ديمقراطية الخارجين عن هذا الاطار العام «المصالح العليا للشعب والوطن» لان الاولى ستكون قسرية والثانية فوضوية، ولان التاريخ اثبت ان ديمقراطية من هذا النوع هي ديمقراطية المآسي والكوارث والكبح والتخلف.
وبعد.. فان الاستيعاب الامثل للديمقراطية من قبل الطبقات والفئات الاجتماعية عموما هو في الاساس حجر الزاوية في هذا الخوض، لان الطبقات والفئات باستيعابها للديمقراطية بهذا المفهوم الاجتماعي الواسع في المرحلة الراهنة هي نفسها التي ستؤمن استمرار النضال من أجل مستقبل ارحب للديمقراطية في المراحل اللاحقة متجاوزة اشكال الخوف والتردد والشك، لذلك فان المطلب الذي يتمتع باهمية قصوى وملحة على الدوام هو النضال المثابر لتأسيس قاعدة نظرية حقيقية واضحة لمفهوم الديمقراطية لدى الجماهير وتعليمها كيف تستخدمها في الواقع كحق طبيعي لكل مواطن.
والخطورة كل الخطورة تكمن في عدم استيعابنا لـ «اجتماعية المسألة الديمقراطية» او الالتفاف عليها او محاولة كبحها او تسطيحها او تجاوز طبيعتها المرحلية والقفز عليها.