وفي سياق هذا التفاعل تتولد المصالح المتبادلة ويستأنس الأفراد والجماعات بعضهم ببعض.. ومع الزمن يفضي هذا الاستئناس إلى وجود مشتركات ثقافية وفكرية ومعرفية وأيديولوجية ونفسية... الخ، تمجد هذه التعايشات وترسخها وتعمل على استمرارها عبر الأجيال.. وفي مرحلة متأخرة من هذه الصيرورة يأتي دور النخب التي تضع الاصطلاح الاجتماعي والمفاهيم النظرية لكثير من تلك التعايشات.. وعن هذا العمل النخبوي ينتج «الشعار» الذي يحول ظاهرة الوحدة من حالة «استئناس» إلى «راية» سياسية تجتمع تحتها كثير من الأهداف والمبادئ التي تأخذ طابعاً تعبوياً وعملياً بالضرورة.. وهذا ما قامت به الحركة الوطنية اليمنية انطلاقاً من مدينة عدن التي لعبت دور الحاضنة لتعايشات اليمنيين المعاصرين من الجنوب ومن الشمال.. فمنذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتى مطلع ستينياته أخذ رواد الحركة الوطنية اليمنية الأوائل ينظرون لقضية الوحدة ويضعون شعاراتها بالتزامن مع المد القومي العروبي المناهض للإستعمار وتأثير هذا المد على اليمن.. وفي عملية التنظير هذه جرى استدعاء الوحدة من إرشيف الماضي البعيد بصورة مثالية بعد تنقية هذا الماضي ذهنياً من محطاته الصراعية وحروبه وانقساماته وتغلباته لإسناد تعايشات الحاضر الوئامي الحي في مستعمرة عدن وكأن هذه التعايشات امتداد تصاعدي طبيعي لتعايشات وئامية جرت أيضاً في الماضي.
بهذه الطريقة أيقظت الحركة الوطنية اليمنية الوحدة في وعي الناس كحلم تغييري بدت معه التجزئة القائمة وكأنها حالة شاذة في التاريخ اليمني صنعها المستعمر الأجنبي ولا بد إذاً من إخراج هذا المستعمر وإعادة الاعتبار لهذا التاريخ من خلال الوحدة.. والحقيقة أن المستعمر احتل عدن عام 1839 والجنوب قد اعتاد التجزئة وألف العيش الطويل في فسيفساء من السلطنات والإمارات والمشيخات بينما كان الشمال يعيش حالة فوضى ناجمة عن تعدد الإمامات المتصارعة.. وعام 1849 عادت الخلافة العثمانية إلى اليمن ولكن إلى شمال البلاد هذه المرة.. وإذا كان الاستعمار البريطاني قد تعامل مع واقع التجزئة في الجنوب كما هو وأبرم اتفاقيات حماية مع السلطنات والمشيخات والإمارات فإن العثمانيين سعوا إلى فرض حكم مركزي على الشمال ساعد على بقائه موحداً بعد رحيلهم عنه وقيام مملكة الإمام يحيى في أعقاب الحرب العالمية الأولى.. ومن المفارقات الملفتة للإنتباه أن مركزية العثمانيين واجهت دائماً مقاومات مسلحة في الشمال على الرغم من الشراكة في المعتقد الديني بينما مالت دويلات الجنوب في الأعم الغالب إلى الاستقرار والتكيف مع واقع الحماية والوصاية الأجنبية رغم اختلاف المعتقد.. فالمماثلة في الدين لم تحبب دولة الخلافة الإسلامية عند زعامات الشمال التقليدية الطامحة في الحكم.. وفي المقابل لم ير سلاطين الجنوب في المغايرة الدينية مع المستعمر ما يوجب كراهيته ما دام لم يهدد حكمهم.. ثم أن الشمال لم يكن يعيش فراغاً دينياً حتى يملأه العثمانيون.. وفي المقابل لم يأت الاستعمار البريطاني إلى الجنوب لإفراغه من الدين.. لهذا السبب لم تر زعامات الشمال التقليدية أي تناقض بين تدينها وبين مقاومتها لمركزية الحكم العثماني في اليمن.. وبالمثل لم يجد سلاطين الجنوب في الدين من حرج يمنعهم من التعاطي مع واقع الاستعمار الذي لم يهدد نفوذهم الفعلي على الأرض وساكنيها.
تأسيساً على ما تقدم يلاحظ أن الرابطة الدينية لم تشفع للعثمانيين في الشمال.. وقد غادروا البلاد إثر هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى.. أما الجنوب فقد احتاج إلى رابطة وطنية صريحة ضامنة للتعبئة والحشد ومن ثم تحريك المقاومة من أجل التحرير والتوحيد.. ومن غير هذه الرابطة ما كان بمقدور الجنوب أن يجمع بين تحرير الأرض وتوحيدها في دولة واحدة.. وقد احتاج الجمع بين التحرير والتوحيد إلى خوض معركة مزدوجة.. فهي ضد الاستعمار من أجل التحرير.. وهي في الوقت نفسه ضد السلاطين والمستوزرين من أجل تثبيت الهوية اليمنية للجنوب والتعبير عنها في دولة واحدة قامت على أنقاض 22 سلطنة ومشيخة وإمارة.. ومثلما كان التحرير هدفاً وطنياً مقدساً كان التوحيد أيضاً هدفاً وطنياً على المستوى نفسه من القداسة.. لهذا السبب وضعت الجبهة القومية الاستعمار والسلاطين والمستوزرين في خانة واحدة.. ومن غير هذا الفعل الملحمي الذي بدأ في أكتوبر 1963 ما كان بمقدور اليمنيين أن يصلوا إلى 22 مايو 1990.. وما لم ندرك هذه الحقيقة سيتعذر علينا فهم الطبيعة الكارثية لحرب 1994 وقياس حجم الضرر الذي ألحقته بالتاريخ الوطني للجنوب وبالوحدة اليمنية كقضية وطنية.
لقد فتحت حرب 1994 - بمقدماتها ونتائجها - الأبواب على مصارعها لتسفيه التاريخ الوطني للجنوب الواقع بين اكتوبر 1963 و22 مايو 1990 وأيقظت النزعات الثأرية من هذا التاريخ ببعديه التحريري والتوحيدي وخلقت في الجنوب نزعات معادية لوحدة 30 نوفمبر 1967 تعبر عن نفسها حالياً من خلال العداء لوحدة 22 مايو 1990.
ففي البعد الأول -التحريري- أعادت حرب 1994 الاعتبار للاستعمار البريطاني الذي جعل من عدن مدينة المدائن ونقل ساكنيها من العصور الوسطى إلى العصر الحديث بينما ذهب أمراء حرب 1994 يمارسون التدمير الممنهج للقيم المدنية والحداثية التي راكمتها المدينة لعقود طويلة وتعاملوا مع متنفساتها وجبالها وشواطئها ومعاملها ومنشآتها كما يتعامل الغزاة البدائيون مع الغنائم واعتدوا حتى على أسماء مدارسها وشوارعها.. وخلال 129 عاماً من الاستعمار لم يسمع الجنوبيون كلمة واحدة جارحة بينما تعرضوا خلال العشرين عاماً الأخيرة لترسانة إعلامية ضخمة لم تتوقف يوماً واحداً عن مخاطبتهم كمهزومين عليهم أن يستسلموا لواقع التهميش والإقصاء والتسريح الجماعي من الجيش والأمن والوظيفة العامة.. ومن المفارقات المؤلمة أن المناسبات الوطنية للجنوب تحولت هي الأخرى إلى مناسبات لتسفيه تاريخه الوطني وتحولت القاعات التي غنى فيها الحزب الاشتراكي للوحدة قبل قيامها إلى مقاصل أيديولوجية لإعدامه بعد قيامها.. ولم يسلم قادة الدولة والحزب في الجنوب من التشهير المنظم وكأن تاريخ الجنوب لم يبدأ إلا مع «الفاتحين» في 7 يوليو 1994.
وفي البعد الثاني-التوحيدي- إستدعى أمراء حرب 1994 كل الأحقاد والعداوات القديمة ضد الجبهة القومية والحزب الاشتراكي الناجمة عن معركة توحيد الجنوب وأعادوا الاعتبار لزعماء السلطنات والمشيخات والإمارات وأعطوهم الضوء الأخضر للإنتقام من ثورة 14 اكتوبر 1963 وما حققته من مكاسب مادية ومعنوية للفلاحين والفقراء والمهمشين والمرأة.. وبالتواطؤ مع بعض زعامات الجنوب التقليدية القديمة تحايل أمراء حرب 1994 على أراضي الدولة في الجنوب واستولوا على مساحات مهولة وبوثائق مزورة وأصبح من المتعذر على أبناء الجنوب في بعض المناطق أن يعثروا على قطعة من الأرض لبناء مدرسة.
من حق السلاطين أن يعودوا إلى وطنهم وأن يستأنفوا حياتهم كمواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات يكفلها وينظمها الدستور.. وحق العودة يمتد ليشمل أيضاً بيت حميد الدين في الشمال.. وهذا كله ممكن في إطار مصالحة وطنية تاريخية ليس فيها شبهة الانتقاص لا من ثورة سبتمبر ولا من ثورة أكتوبر.. لكن سلطة حرب 1994 تعاملت مع هذه القضية تعاملاً إنتقائياً غير معلن.. فالطرف الذي أطاحت به ثورة سبتمبر لا يعود وليس من حق أي من أفراد بيت حميد الدين أن يوارى الثرى في وطنه إذا مات.. أما أولئك الذين أطاحت بهم ثورة أكتوبر فمن حقهم ومن واجبهم أن يعودوا بل وأن ينتقموا ممن أطاح بهم.. إننا هنا أمام مفارقة تكشف عن عداء دفين لثورة 14 أكتوبر.. فأمراء حرب 1994 لا تربطهم بهذه الثورة أية علاقة وجدانية وعاطفية على الإطلاق والجنوب بالنسبة لهم ليس وطناً له أمجاد وله تاريخ وله شعب وذاكرة وطنية بقدر ما هو جغرافيا وغنائم وفيد وهيمنة ونفوذ.
لقد عمل أمراء الحرب على تشريد وإقصاء وإضعاف القوة التوحيدية في الجنوب ممثلة بالحزب الاشتراكي اليمني وأقاموا تحالفات مع القوى التفكيكية التي تضررت من ثورة 14 أكتوبر.. وليس معنى هذا أن النية كانت معقودة من أجل تفكيك الجنوب.. ما نقصده أن سلطة الحرب اعتمدت الأساليب العسكرية والأمنية لإحكام قبضتها على جغرافية الجنوب والسطو على مقدراته بينما ذهبت تستدعي جراحات الماضي لتفكيك تماسكه الاجتماعي والسياسي.. وفي إطار هذا النهج دخلت في تعاقدات انتقائية مع من تريد لضمان التمثيل الشكلي للجنوب في مؤسسات الدولة المركزية والتغطية على واقع الضم والإلحاق القسري.. لكن هذا الواقع قوبل بالرفض الذي بدأ همساً ليتحول إلى حراك سياسي اجتماعي منذ العام 2007.
والملاحظ أن الحراك الجنوبي لم يبدأ إلا بعد نحو ثلاثة عشر عاماً من حرب 1994.. وخلال هذه السنوات عاشت اليمن أجواء التمجيد الرسمي اليومي للحرب ونتائجها.. وكان أهل الجنوب يرون أغلب أهل الشمال يجارون هذا التمجيد ويرفعون نتائج الحرب إلى مستوى «فتح مكة» الأمر الذي خلق حالة إحباط عند أهل الجنوب افتقروا معه إلى الشعور بالتضامن والتعاطف من قبل أهلهم في الشمال. وضاعف من هذا الإحباط أن معظم الكتابات والتنظيرات التي تصدت لتفسير أسباب الحرب ونتائجها وانعكاساتها على حياة السكان في الجنوب كانت تنافق المنتصر وتبرر سياساته وتصرفاته في المحافظات الجنوبية وفي أحسن الأحوال تسميها مجرد «أخطاء» - مع أنها نهج مقصود ومخطط له - وتستكثر على الجنوبيين التعبير عن أوجاعهم بحجة أن المعاناة واحدة والظلم الواقع على المحافظات الجنوبية هو نفسه الواقع على المحافظات الشمالية. وكأن الوحدة لا تستقيم إلا إذا تماثل السكان في الشمال والجنوب مثلما يتماثل الموتى في المقابر!!! ونسي هؤلاء أو تناسوا أن الجنوب جزء من اليمن وليس جزءاً من الشمال وأنه كان دولة محمية بقوة القانون الدولي وأن مقارنته بتهامة أو أي من محافظات الشمال غير جائز من الناحيتين المنطقية والمنهجية.
إن غياب تعاطف أهل الشمال مع أهل الجنوب أو ضعفه في أحسن الأحوال وتواطؤ معظم نخب الشمال مع المنتصر خلق مع الوقت حالة انسداد عند بعض تجنحات الحراك الجنوبي تجلى من خلال التمحور حول الذات الجنوبية والحديث عن جنوب عربي وعن فك الارتباط.. وهذا رد فعل طبيعي لأن العصبية التي تحتكر المشترك الوطني تنتج عصبيات مضادة متمردة على هذا المشترك.
وفي مواجهة شعار «فك الارتباط» جرى الاستنجاد بشعار «الوحدة فريضة إسلامية» ما يعني أن الرابطة الوطنية قد أصيبت في مقتل بسبب الحرب ونتائجها.. وبدلاً من العمل على إعادة بناء هذه الرابطة جرى ويجري قمعها بشعارات اختلطت فيها السياسة بالدين وغير قادرة على الصمود أمام أي نقد.. فاليمنيون لم يتوحدوا لأنهم مسلمون وإنما لأنهم يمنيون.. توحدوا لأنهم جماعة وطنية واحدة بغض النظر عن معتقدها الديني.. والتفكير بإعادة بناء الوحدة لا يستقيم منطقياً ومنهجياً ما لم ينطلق من هذه الحقيقة.
كنا قد أسلفنا بأن الوحدة في مبتداها تعايشات عفوية تنشأ تحت السطح. والنخب هي التي تبلورها وتؤطرها نظرياً ومعرفياً وتلفت نظر المجتمع إليها من خلال «الشعار» الذي يوقظها في وعي الناس وينقلها من مستوى التجسيد إلى مستوى التجريد. من الواقع العياني الملموس إلى التنظير المجرد.. ومن هنا تبدأ المسميات والمفاهيم والاصطلاحات التي يجري صكها لتعزيز حالة الاستئناس وتعميق المشتركات وإثرائها.. غير أن المفاهيم والمصطلحات والشعارات التي من قبيل «الوحدة» لا تصك داخل مختبرات علمية وإنما في فضاءات مجتمعية لا يندر أن تتباين فيها مصالح الجماعات والطبقات والفئات بغض النظر عن إدراك منتسبيها لهذا الصراع ووعيهم بهذا التباين.. ولهذا السبب لا تكون المصطلحات والمفاهيم والشعارات دائماً معبرة بدقة وإخلاص عن أصولها وجذورها المادية التي انبثقت منها.. فأحياناً تتدخل الأهواء والمصالح والرغبات لتحميل المفاهيم المجردة بمعان مضافة تنحرف بالوحدة عن أصلها بمعنى «الاستئناس» المتولد عن معايشات تلقائية عبر التاريخ إلى معان ليست لها علاقة بهذا الأصل.. وشعار «الوحدة فريضة دينية» واحد من الأمثلة التي يمكن التدليل بها على هذا الانحراف.. فهذا الشعار لم يكن له وجود في اليمن قبل حرب 1994. وإنما جرى صكه في مناخ صراعي لتسويغ الهروب من المعالجة السياسية السلمية لأزمة الوحدة إلى الحرب.. وكما هو معروف أجهزت الحرب على الشريك الجنوبي في اتفاقية الوحدة وفرضت على الجنوب واقعاً جديداً يسميه المنتصر «وحدة معمدة بالدم» بينما تقول قوى الحراك الجنوبي جهاراً نهاراً بأنه احتلال.. ونحن لا نطلب من القارئ أن يتمترس وراء هذا التوصيف أو ذاك لكن عليه أن يلاحظ أن الواقع الراهن في الجنوب لا علاقة له بالوحدة بمعنى «الاستئناس» الناجم عن التعايشات الإنسانية التلقائية لليمنيين.. كما أنه لا يعبر عن الوحدة كشراكة وطنية حقيقية بين الشمال والجنوب.
ومن نافلة القول أن تعايشات اليمنيين تعمدت فعلاً بالدم ولكن ليس في حرب يمنية - يمنية لا يمكن تبريرها وطنياً وإنسانياً وأخلاقياً وإنما في حرب التحرير ضد الاستعمار البريطاني.. وهي حرب أفضت لا إلى الكراهية والمفاصلة في النفوس وإنما إلى الحب الذي رفع التعايشات التلقائية من أس الاستئناس إلى أس الانصهار الوطني الذي أنتج دولة مستقلة في الجنوب لا تفرق بين شمالي وجنوبي.. فعدن التي كانت زمن الاستعمار ملاذاً آمناً لكل الشماليين لا تفرق بين هارب من شظف العيش وبين باحث عن نسمة حرية عزت عليه في الشمال الإمامي هي نفسها عدن التي رأست عبدالفتاح إسماعيل الشمالي الذي ذهب إليها حافياً لا على ظهر دبابة.. وهذا ما لم يحدث في صنعاء التي عجزت عن أن تكون عاصمة لكل اليمنيين منذ أن قتل نافذوها وشردوا أجمل أسماء عهدها الجمهوري: محمد صالح فرحان وعبدالرقيب عبدالوهاب وعلي مثنى جبران وحمود ناجي سعيد وعبدالرقيب الحربي ومحمد مهيوب الوحش والشيخ العواضي... الخ. وأضافت إلى هؤلاء الرئيس إبراهيم محمد الحمدي الذي دفع ثمن وحدويته وتقاربه مع الجنوب وذبح على نحو منافٍ لكل القيم والأخلاق بتهمة الخيانة العظمى لدستورها غير المعلن.
لقد قام شعار «الوحدة فريضة دينية» بعملية مناقلة من بند المقدس الديني ممثلاً في الإيمان بالله والأخوة في الدين إلى بند المقدس الوطني ممثلاً في الإيمان بالوحدة والأخوة في الوطن ليشحن هذا الأخير بمعان دينية ليست من أصل المفهوم.. وعن طريق هذه المناقلة يقوم الحامل السياسي لهذا الشعار بعملية إزاحة وإحلال.. فهو أولاً يزيح الرابطة الوطنية ليحل محلها الرابطة الدينية.. وهو ثانياً يزيح مفهوم المواطن ليحل محله مفهوم المؤمن.. وهو ثالثاً يزيح الحامل السياسي الوطني لقضية الوحدة ليحل محله وكأنه هو حامل هذه القضية مع أنها مطروحة على جدول أعمال الحركة الوطنية لعقود سابقة قبل ظهور الإسلام السياسي.
وإذا كانت «الوحدة فريضة دينية» كما يقال اليوم فلماذا تشدد البعض في تكفير من أحيا هذه الفريضة وظل يتعبد بها زمن التشطير؟.. لماذا قيل عن دستور دولة الوحدة بأنه «يساوي بين من كان مؤمناً وبين من كان كافراً»؟..كيف نفسر استعداء الرأي العام ضد دستور 1990 الذي من غير التوافق عليه ما كان بمقدور اليمنيين أن يؤدوا «فريضة» الوحدة؟.. تؤكد هذه التساؤلات أننا أمام شعار اختلطت فيه السياسة بالدين.. أو قل هو شعار سياسي بقناع ديني.. وهذا الشعار لا يصنع وحدة وطنية وإنما يتطفل على وحدة وطنية مصنوعة.. إنه لا يحقق الوحدة الوطنية وإنما يحاول استثمارها لصالحه بعد أن تتحققت.. إنه شعار متأخر عينه على دولة الوحدة لا على الوحدة.. شعار يريد أن يخطف دولة الوحدة باسم الوحدة.. وهو بهذا المعنى شعار إقصائي متستر بالدين.
إن الرابطة الوطنية تقوم على الأخوة في المواطنة بينما تقوم الرابطة الدينية على الأخوة في الإيمان بالله.. والرابطة الوطنية لا تنتقص من الرابطة الدينية ولا تطمح إلى الحلول محلها بل تتعزز بها إذا كان المجتمع يدين بعقيدة واحدة وبمذهب واحد.. وفي المقابل تتمكن الروابط الدينية والمذهبية من التعايش بسلام في ظل رابطة وطنية واحدة لشعب متعدد الأديان أو المذاهب.. وإذا كانت الرابطة الدينية تقوم على فرضية أن الأصل في المجتمع هو الإجماع فإن الرابطة الوطنية تقوم على فرضية أن الأصل في المجتمع هو الاختلاف حتى وإن كان المجتمع يدين بعقيدة واحدة.. ومن البدهي والحال كذلك أن تنصرف الرابطة الدينية إلى تعزيز إجماع المؤمنين بينما تنصرف الرابطة الوطنية إلى تنظيم اختلاف المواطنين حتى وإن كانوا أبناء عقيدة واحدة أو مذهب واحد.. لذلك تحتاج الرابطة الوطنية إلى الديمقراطية لتنظيم الاختلاف بينما تحتاج الرابطة الدينية إلى الوعظ والإرشاد لتعزيز الإجماع.. فالرابطة الوطنية تنتمي إلى المجال السياسي بينما تنتمي الرابطة الدينية إلى المجال الأخلاقي.. والمجالان لا يتداخلان إلا عندما تتعثر الرابطة الوطنية في تنظيم الاختلاف.. ومن هذه العثرات تنفذ الرابطة الدينية وتتمدد من مجالها الأخلاقي إلى المجال السياسي فتتضاعف عثرات الرابطة الوطنية.. ويتجلى ذلك من خلال بروز خطاب سياسي وطني مرتبك.. فهو من ناحية ينافق الرابطة الدينية ويتحول إلى خطاب وعظي وهو من ناحية أخرى يصادمها ويخلق لنفسه عداوات هو في غنى عنها.. وفي الحالتين لا يكون خطاباً ناضجاً ومستقلاً بذاته ولا يكون مؤهلاً للتعبير الدقيق والسليم عن الرابطة الوطنية.. أي أنه يفشل في أن يكون خطاباً جامعاً.
والفشل يكون أيضاً من نصيب الخطاب الديني المسيس أو قل الخطاب السياسي المقنع بالدين.. فهو أيضاً يعجز عن تحويل الاختلاف في المجتمع إلى إجماع.. يفشل في تحويل المواطنين إلى كتيبة متجانسة من المؤمنين الذين يصدقون كل ما يقال لهم ويتصرفون كأتباع ومريدين.. ومنتج هذا الخطاب لا يستطيع أن يجد تفسيراً لفشله في تحقيق الإجماع المثالي الذي يريده.. لذلك يستسهل تكفير الآخر المغاير له.. وعندما يقع هذا تكون الرابطة الوطنية في أزمة حقيقية.. أزمة تظافر في إنتاجها الخطاب السياسي الوطني المنافق للدين أو المصادم له والخطاب الديني المسيس.
لهذا السبب نرى المشهد السياسي اليمني معقداً.. ومن الصعب أن نفك تعقيداته ما لم نعد بناء الرابطة الوطنية المؤهلة لتنظيم الاختلاف بواسطة الديمقراطية بعد تخليصها من الزيف الذي طالها بسبب حرب 1994 ونتائجها.. من الصعب أن نفك تعقيدات هذا المشهد إذا تعلقنا بأوهام الإجماع الذي لن يأتي.. فالروافض والنواصب لن توحدهم المواعظ والخطب وإنما الرابطة الوطنية التي تحولهم إلى مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات.. والأمر نفسه يسري على الوحدويين والإنفصاليين.. فالإنفصالي لم يظهر إلا عندما دمرت الرابطة الوطنية بفعل الحرب ونتائجها.. فلا يوجد إنفصاليون وإنما توجد سياسات تصنع إنفصاليين.. وهذه حقيقة لا يراها البعض بسبب وجود وحدويين في الجنوب.. وكأن على الجنوب كله أن يجمع على الإنفصال كي نعترف بجريمة الحرب وفضاعة نتائجها.. ومثل هذا الإجماع مستحيل لأن الأصل في المجتمع هو الاختلاف كما أسلفنا.. والقول بأن «الوحدة فريضة دينية» لا يساعدنا على تفسير وجود وحدويين وإنفصاليين في الجنوب.. لأن مثل هذا القول يضع الإنفصاليين تلقائياً في مربع الكفر ويضع الوحدويين في مربع الإيمان.. ونحن لا نعتقد إطلاقاً أن الأمر كذلك عندما يتعلق الأمر بشعب.. فهناك انفصاليون ملتزمون دينياً ومستقيمون أخلاقياً لكن الوطن بالنسبة لهم تقلص وانحصر في الجنوب.. ونتائج الحرب هي التي أنتجت هذه المشاعر.. وهناك وحدويون غير ملتزمين دينياً ولا هم مستقيمون من الناحية الأخلاقية لكنهم استفادوا من الحرب وفسادها.. أما أعضاء التجمع اليمني للإصلاح في الجنوب فليسوا وحدويين لأنهم إصلاحيون وإنما هم إصلاحيون لأنهم وحدويون.. وهذه القاعدة لا تسري على الحزب الاشتراكي.. فالاشتراكيون في الجنوب وحدويون لأنهم اشتراكيون تربوا على ثقافة الوحدة.. وبفضل هذه الثقافة استطاع التجمع اليمني للإصلاح أن يتمدد جنوباً بعد الحرب.
وشعار «الوحدة أو الموت» ينتمي أيضاً إلى هذا النوع من التحريف الذي يولد وعياً زائفاً بالوحدة بما هي «استئناس» يكرس بمشتركات ثقافية ونفسية.. فوحدة الحرب وحدة متولدة عن القوة والغلبة.. والمتغلب عادة لا يأتي إلا في مرحلة متأخرة جداً بعد أن تكون التعايشات التلقائية قد وحدت الأفراد والجماعات نفسياً وثقافياً وعلى نحو يسمح بمخاطبتهم سياسياً ككتلة شعبية واحدة.. وفي هذه اللحظة المتأخرة يعمد المتغلب إلى قيادة الكتلة طوعاً أو كرهاً إلى حيث يريد ومن أجل ما يريد في لحظة عابرة مرتدة عن المسار التصاعدي للتاريخ تقدم على أنها هي التاريخ بعد أن وضع في مساره الصحيح.. ويقدم رموز هذا الارتداد على أنهم صناع التاريخ.. وحرب 1994 هي لحظة مرتدة عن المسار التصاعدي لتاريخ الوحدة اليمنية وصناع هذه اللحظة هم قوى الارتداد.
إن الوحدة بمعنى الاستئناس هي وسيلة النهوض المادي والروحي لطرفيها.. أما وحدة الحرب فليست سوى غاية المتغلب الذي يريد أن يبني لنفسه أمجاداً على حساب هذا النهوض.. وشعار «الوحدة أو الموت» تعبير متوحش عن هذا المعنى. وتعميمه في كتب المطالعة المدرسية ينم عن انحطاط النخبة التي صكته وإصرارها على تصدير انحطاطها إلى المجتمع وتحويله إلى أيديولوجيا سياسية.
إن الوحدة وسيلة للنهوض بطرفيها وليست غاية مطلوبة لذاتها.. والوحدة مرتبطة بمصلحة طرفيها وجوداً وعدماً وهما هنا الشعب اليمني في الشمال والجنوب.. أما الوحدة التي يجري تأسيسها على مقولة «إذا لم نتوحد سنظل نتحارب» فهي وحدة لا تنهي الحروب وإنما تغير شروطها فقط.. لذا يلاحظ أن الحرب الساخنة المتقطعة بين دولتي الشطرين قبل الوحدة تحولت إلى حرب باردة ودائمة في ظل الوحدة.. وإذا كان للحرب بين دولتي الجنوب والشمال محركاتها ومثيراتها في زمن الحرب الباردة فما هي محركات ومثيرات المواجهة القائمة بين السلطة المركزية في صنعاء والشعب اليمني في الجنوب؟.. ألا يدل هذا على أن الوحدة تحولت إلى ملصق إعلاني للتغطية على واقع ليس من جنس الوحدة؟.. ألا يدل هذا على أننا إزاء مشكلة يجب البحث عن جذورها في الشمال لا في الجنوب؟. هذا ما سنبحثه لاحقاً.