لعل أبرز ما يميز الحقيقة الراهنة من تطور العالم المعاصر أنّ الثورة الجذرية في مجال تكنولوجيا الاتصال والمعلومات جعلت مصير العالم مرتبطاً بناتج عمل ونشاط العقول، بعد أن تغيرت على نحوٍ جذري وظائف الثقافة.
ما أحوجنا اليوم للتعامل مع إشكاليات الثقافة والمثقفين من منظور جديد يتجاوز موروث طرائق التفكير والعمل القديمة والمفاهيم البالية والانعزال النخبوي، سواء على مستوى السياسات الثقافية أو الإبداعات الفردية، فكل الأطراف ينشط اليوم وسط عالم متغير وفوق ساحة كونية واحدة لا سيادة لأحد عليها سوى للعلم، فكما جعلت تكنولوجيا الاتصال والمعلومات من الفضائين الطبيعي والإليكتروني مسافة ثقافية عابرة للحدود والقارات والقوميات، فإنها حولت هذه المسافة أيضاً إلى حقل معرفي يختزن ويستقبل ويبث جميع أنواع المعلومات في مختلف فروع المعرفة.
أجل أنه فضاء غزير بالأفكار والمعارف والتصورات التي تخوض في قضايا الفلسفة والدين والأخلاق والسياسة، وترصد أحوال الرياضة وأسواق المال والتجارة والصناعة والفن والأدب والموسيقى والسينما والفيزياء النووية والهندسة الوراثية.
في ساحة هذا الفضاء الواسع تتلاقى العقول وتتحاور الثقافات وتتلاقح الحضارات، وتقام المؤتمرات والمعارض الحية وحلقات الدردشة والمواجهات الساخنة عبر الأثير.. بمعنى أنه فضاء بلا حدود للأفراد والجماعات.. للأفكار والتصورات.. للمعارف والمعلومات.. للرجال والنساء، حيث تتم عملية تاريخية جديدة لإعادة صياغة العلاقة بين الإنسان والعالم.. بين المجتمعات والثقافات.. بين الحقيقة والأيديولوجيا.. بين العقل والحرية.
لم يعد ثمة مجال للأفكار التي تحصر مفهوم الثقافة في طوطم مغلق، خصوصاً بعد أن أصبحت الثقافة جزءاً أصيلاً من الفتوحات العلمية. ولقد ولى وإلى الأبد ذلك الزمان الذي كانت فيه الثقافة تطل على الواقع من أبراج الكلام والكتابة على أيدي نفر من المثقفين الذين يثورون على الواقع تارة، وينهزمون أمامه أو ينسحبون منه أحياناً، أو يحلمون بما هو أفضل منه في معظم الأحيان.
على امتداد قرون التاريخ في العصور السابقة كانت الثقافة الإنسانية تغتني وتتطور من خلال دورها في تحطيم أو تجسير المسافات التي تعزل الفكر عن الواقع، حيث تراكمت إنجازات الفكر الإنساني في مجالات الفلسفة والأدب واللغة والتاريخ وغيرها من العلوم، لتشكل وظيفة جديدة للثقافة الإنسانية، وهي الدفع بحركة الحياة دوماً من القديم إلى الجديد.. ومن الثابت إلى المتحول.. ومن الحزن إلى الفرح.
ومع تراكم إنجازات الثقافة الإنسانية بالارتباط الوثيق مع تراكم تحولات النشاط الاجتماعي للناس، جاء عصرنا الحديث ليخرج الثقافة من أبراج التأملات والأحلام إلى ساحات الفعل الإنساني ولينقلها من سكون الفكرة إلى حركة الواقع حيث طرحت الحياة على نحوٍ علمي مهمة الربط بين الفكر والممارسة.. وبرزت لأول مرة في التاريخ الإنساني ثقافة علمية بالارتباط الوثيق مع إنجازات الثورة التكنولوجية التي فتحت أمام البشرية طريق بناء العالم الجديد الذي حلم به المفكرون منذ سقراط وأرسطو في فجر تاريخ الحضارة المدنية، وحتى الآن حيث يواصل الداعون إلى الإقامة الدائمة في الماضي حربهم البربرية ضد العقل والحداثة.
مما له دلالة عميقة أن بنية الثقافة المعاصرة اتسمت بطابعها الإنساني، فلم يعد المثقفون عبارة عن نخب من الدراويش والكهنة وحفظة النصوص، بل أصبح المثقف عالماً يشتغل في مختلف العلوم الطبيعية والانسانية ،والدينية ، فيما أصبح العلم منتجاً لثقافة معرفية.
في سياق التحولات المتسارعة التي أحدثتها الثورة الصناعية الثالثة، في بنية الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية والنظم السياسية والأفكار الإنسانية، اكتسب مفهوم القوة محتوى جديداً يقوم على أساس المعايير اللامتناهية للمعرفة.
لقد أصبحت القوة هي المعرفة، والمعرفة هي القوة، الأمر الذي أدى إلى أن يتميز الطور الراهن من مسار تطور العصر والحضارة المعاصرة بثورة المعلومات التي يتوقف عليها مدى النجاح في امتلاك مفاتيح المعرفة وبالتالي مفاتيح القوة.
ما من شكٍ في أنّ أبرز ما يميز الألفية الثالثة الميلادية من التاريخ العالمي هي تلك التحولات العميقة التي جعلت من الإعلام قوة مستقلة ومحورية تمارس تأثيراً متعاظماً، لا على سلوك الأفراد والمجتمعات فحسب، بل على العلوم والثقافات والنظم السياسية والعلاقات الدولية والأسواق. وهناك سمة بارزة تميز العمليات الإعلامية في القرن الحادي والعشرين وهي صعوبة التعاطي مع نظم ونظريات الإعلام التي شاع استخدامها وتدريسها في المعاهد والجامعات خلال القرن العشرين المنصرم.. فهذه النظم والنظريات الإعلامية لم تعد اليوم فاعلة بتأثير عاملين أساسيين: أولهما انهيار النظام الدولي القديم، وانتهاء الاستقطابات الدولية لمرحلة الحرب الباردة، بعد سقوط واختفاء الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية الدولية.. أما الثاني فإنه يأخذ مداه من خلال الميول الموضوعية للتطور الاقتصادي العالمي باتجاه عولمة الأسواق ورؤوس الأموال، بالارتباط الوثيق مع التقدم الهائل في تكنولوجيا الإعلام والاتصال والمعلومات، الأمر الذي أسهم في إيجاد فضاء إعلامي اتصالي عابر للحدود والقوميات، بعد دمج الفضاء الطبيعي الذي تشغله الأقمار الصناعية بالفضاء الإليكتروني الذي تجسده شبكة الإنتر نت العنكبوتية.
في القرن العشرين كان بمقدور عوامل مختلفة مثل الاقتصاد والدين والجغرافيا والأيديولوجيا، أن تؤثر في طرق استخدام وسائل الإعلام بوصفها أداة اتصال تؤثر في سلوك الأفراد والمجتمعات.
وبالنظر إلى أنّ الاتصالات بين الناس تعد من أبرز أشكال النشاط الاجتماعي الواعي والهادف للإنسان، فإنها بالضرورة تساعد الناس على تعلم طرق جديدة لتغيير الأفكار وأنماط السلوك المختلفة.. وقد سهل التقدم التكنولوجي خلال القرن العشرين في ميدان النقل والمواصلات فرص توسيع قنوات التفاعل والاتصال بين الدول والشعوب والمجتمعات، سواء من خلال السفر أو من خلال الاستخدام الواسع لوسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمطبوعة والرسائل البريدية والمحادثات الهاتفية، الأمر الذي أدى إلى توسيع نطاق تبادل الخبرات والتجارب البشرية، وتسريع عمليات التغيير في حياة المجتمعات والشعوب.
تأسيسا على ذلك بوسعنا القول إنّ تطور وسائل الاتصال الجماهيري في القرن العشرين المنصرم لم يؤثر فقط على آفاق عمليات التغيير في حياة الشعوب والمجتمعات، بل أسهم في التأثير على فلسفة التغيير نفسها، وانعكس هذا التأثير بالضرورة على فلسفة نظم الاتصال ونظريات الإعلام، حيث تبلورت في القرن الماضي ثلاث مدارس إعلامية عالمية لكل منها أهدافها ووظائفها واقتصادياتها بما في ذلك نظام القيم الخاص بكل واحدة منها وهي:
1 - النظام الإعلامي الاشتراكي.
2 - النظام الإعلامي الليبرالي.
3 - النظام الإعلامي الموجه في البلدان المستقلة حديثاً.
بصرف النظر عن تمايز تلك النظم الإعلامية واختلاف فلسفتها وأساليبها ومذاهبها التطبيقية، إلا أنّ فحص العلاقة بين هياكلها الاقتصادية وبين مقدار الاستقلالية والحرية لوسائل الإعلام العاملة في كل من تلك النظم الإعلامية، يساعد على معرفة آليات تأثير الأشكال المختلفة لملكية وسائل الإعلام والموارد الاقتصادية المخصصة لها على مخرجات نشاطها العملي، حيث يتجلى هذا التأثير بصورةٍ مباشرة في مجالي المعلومات والرقابة، مع الأخذ بعين الاعتبار شمولية استخدام وسائل الإعلام خلال حقبة الحرب الباردة كأدوات للدعاية والصراع السياسي والأيديولوجي والحروب وتكوين الرأي العام والتنمية والتعليم والإقناع والترفيه وتشكيل المواقف والاستعدادات.
لا ريب في أنّ انهيار النظام الدولي القديم واختفاء النظم الإعلامية التي أفرزتها حقبة الحرب الباردة، وتعاظم الميول الرامية إلى عولمة الأسواق وعولمة الإعلام، لا ريب في أنّ كل ذلك طرح على بساط البحث ضرورة دراسة التأثير الذي تلعبه العوامل السياسية والاقتصادية والتقنية على فلسفة الإعلام في عالم يتسم بطغيان تكنولوجيا المعلومات، حيث لم يعد تدفق المعلومات مجرد قاسم مشترك يدعم السياسة والاقتصاد، بل أنّ المعلومات أصبحت بذاتها هي الأخرى سلعة اقتصادية وثقافية وسياسية في آن واحد، مع الأخذ بعين الاعتبار حقيقة أنّ كثيراً من المفكرين الغربيين يرفضون اعتبار الإعلام في عصر ثورة الاتصالات والمعلومات محوراً مشتركاً بين وظائف السياسة والاقتصاد والثقافة والتربية ونظام القيم، على نحو ما كان عليه حال الإعلام في القرن العشرين، بل أنهم ينظرون إليه في الظروف الجديدة الراهنة كقوةٍ مستقلةٍ بذاتها!!
الثابت أنّ محورية الإعلام تستلزم ارتباطه بمجتمعه وبنظام القيم الخاص به.. وعلى العكس من ذلك فإنّ استقلالية الإعلام تفترض عالميته، بمعنى تجاوزه للحدود الجغرافية والسياسية والثقافية بين الدول والمجتمعات. وما من شك في إنّ مجرد طرح مفهوم كهذا عن الإعلام الحديث في عالم يتجه نحو العولمة، لا يعني التسليم به من دون أية تحفظات.. بيد أنّ ذلك لا يعني تجاهل الإشكاليات والتحديات التي تفرزها تكنولوجيا الاتصال والإعلام على صعيد النظرية والممارسة، وما يترتب على ذلك من ضرورة بلورة منظور جديد للإعلام يأخذ بعين الاعتبار حقيقة أنّ اندماج عمليات الاتصال وتدفق المعلومات في فضاء كوني واحد، يعود إليهما الدور الحاسم في نشوء مجموعةٍ معقدة من التحولات النوعية، وفي مقدمتها التحول من الإعلام إلى الاتصال، ومن العزلة إلى الاندماج، ومن سيطرة المرسل إلى خيارات المتلقي.