وكانت الصدفة أنني والأخ أ.د. مهدي علي عبدالسلام عضو مجلس النواب اقتربنا منه كثيراً في الأسابيع الأخيرة قبل يوم استشهاده وأيام الانتصار الحاسم في محافظتي أبين وشبوة وحدثنا مراراً في الأمور العسكرية والتكتيك الحربي و في كيفية التعامل مع العصابات المسلحة الإرهابية ، وأكد لنا -قبيل دخول طلائع القوات المسلحة الباسلة إلى مدينتي زنجبار وجعار بأيام عدد أصابع اليد الواحدة فحسب- أن النصر الناجز قريب وقريب جداً بأذن الله تعالى وبعزم الرجال الميامين وتوجيهات الرئيس المنصور وبطبيعة الحال لم نخض كثيرا في التفاصيل.
ولم تكد تمضي الأيام المعدودة إلا والقائد الشهيد / قطن يتحدث لوسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة و من م / أبين البطلة المناضلة ومن احدى ضواحي زنجبار عندما قاد باقتدار الوحدات والألوية العسكرية بين كل من مدن جعار والكود وزنجبار وشقرة مع زملاء دربه المخلصين العميد/ محمود الصبيحي، والعميد / فيصل رجب ، والعميد الصوملي وفي جبهة لودر البطلة بقيادة اللواء / محمد ناصر احمد وزير الدفاع .وفي مساء ذلك اليوم المشهود التقينا في منزل اللواء / ناصر منصور هادي “العم ناصر” وكيل الأمن السياسي في م/ عدن ولحج وأبين ، وكان من بين الحضور الشهيد / قطن والشيخ / محمد علي الشدادي نائب رئيس مجلس النواب، د/ مهدي عبدالسلام ، د/ الخضر ناصر لصور مدير عام الصحة بعدن وآخرين ، و حدثنا / الشهيد عن مشاهداته المؤلمة لمدينه زنجبار التي اندحر منها الغوغاء الإرهابيون بعد أن دمروا بنيتها التحتية ونهبوا مؤسساتها الحكومية الخاصة والأهلية وزرعوا الأحياء والمساكن الخاصة بالألغام والمتفجرات، وتركوها مدينة مدمرة لا تسكنها سوى الأشباح والرعب والحسرة.
واستطرد الشهيد / قائلاً كان القائد الرئيس/ عبد ربه منصور هادي يتواصل معي بالهاتف لحظة بلحظة ونحن على مشارف المدينة يزودنا بالتوجيهات والأوامر ويشحذ فينا الهمم ويعزز الجانب المعنوي للجنود الأبطال وهم يزحفون لقتال الإرهابيين ، وكنت أتأمل ملامح وقسمات الشهيد اللواء/ قطن وهو يسرد لنا التفاصيل الأولية لدخول مدينة زنجبار وتطهيرها من العناصر الإرهابية .
وبادرته بسؤال الا يحق للأبطال أن يكرموا من قبل شعوبهم وبلدانهم وهم أحياء يرزقون كي يشعروا بحجم الوفاء والتقدير والعرفان لما قدموه في حياتهم العملية وبطولاتهم المجترحة وانجازاتهم العظيمة وأنت واحد منهم يا أبا صالح ، وهذه الانجازات والبطولات والنصر ليست للإفادة الشخصية فحسب بل مسجلة برسم توثيق تاريخ الأمم والشعوب الحية كعبر ودروس ملهمة للأجيال الصاعدة الجديدة وأنت يا / بن قطن بطل حقيقي سجلت ملاحم حقيقية في مسيرتك العسكرية المهنية المشرفة ، وأنت تقود الفرق والجنود في المنطقة العسكرية الجنوبية وقائد للواء ( 31 مدرع ) و قمت بعمل بطولي فارق وخارق بل وليست هذه هي المرة الاولى بل هي واحدة من محطات حياتك العسكرية الزاخرة بالانتصارات ، ((لكن رفيقي سالم قطن هز رأسه معتذراً وقال نحن لم نقم سوى بالواجب العسكري الوطني )) هكذا هم الكبار والكبار جداً الذي لا يتحدثون عن أنفسهم وذواتهم وعن أي انجازات حققوها في مسيرتهم بل يتركون ذلك للتاريخ وللمؤرخين يجمعون المعلومات عنهم ويحللون و يسردون الوقائع والأحداث عن هؤلاء الأبطال ، رحمة الله عليك يا أبا صالح تموت في لحظة استشهاد اسطوري عظيم وسيتذكرك الشعب بأنك احد أبطاله العظماء .
نعم .. كان قائداً كبيراً يزرع فيك الثقة والأمل معاً و يحاكي فيك التفاؤل بالنصر حتى وان ظهرت في المسيرة كبوات وعثرات وتحديات أمامك وفي أثناء “ المقيل “ رد علي بالقول يا رفيقي لازالت المعركة طويلة مع الإرهاب أياً كان لونه وشكله وعناصره ، الوطن لازال جريحا ويحتاج لجهد كل الشرفاء من ابناء الوطن ونحن حماة الشرعية الدستورية ليس لنا موقف حزبي متعصب لأية جهة وليست لدينا طموحات خاصة او شخصية سوى خدمة مؤسستنا العسكرية اليمنية الدرع الواقية الحامية للشعب اليمني بأسره واعتذر عن فكرة كتاب يكتب عنه وهو حي.
يا سبحان الله اليوم يعصرنا الألم ونحن نكتب عنه وهو شهيد قدم روحه قربانا لعزة وكرامة اليمن بكاملها ، قال تعالى في محكم كتابه الكريم «وَلَا تَحْسَبَنَّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون«169» فرحين بما آتاهم الله من فضلة ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألاّ خوف عليهم ولا هم يحزنون «170» ( آل عمران 170-169 ) نعم نكتب عنه كلمات لا ترقى البتة الى مستوى الحدث باستشهاد القائد / قطن رحمة الله عليه ،نعم نرثيه ونتألم لفراقه ولكنه فاز فوزا عظيما بالشهادة واستحق الاستشهاد بجدارة فلا نامت اعين الجبناء، كيف لا يحظى بشرف الاستشهاد وهو الإنسان الرائع و الجندي المغوار الذي بدأ حياته مقاتلاً جسورا في جبال كور العوالق عام 1968م وقاتل بشراسة في جبال الضالع عام 1972م وقاتل باستبسال في سهول وهضاب كرش عام 1978م ، واستأسد في الدفاع عن القوى الوطنية اللبنانية الفلسطينية في لبنان عام 1982م وقاتل بشرف في هضاب وتلال الملاح والعند في عام 1986م وصمد في جبال السوادية وصحاري مأرب بين أعوام 86/ 1990 م وقدم نموذجا للقائد الملتزم في حرب تثبيت الوحدة اليمنية في الجبهة الشرقية من اليمن عام 1994م ، وقاتل مع العديد من القادة العسكريين في حروب م/ صعدة الست المتتالية كقائد محايد وصمد في توزان دقيق في العام 2011م اثناء عبور الوطن في الأزمة السياسية والأمنية وقاد باقتدار نادر النصر العظيم على تنظيم القاعدة في عام 2012 م في مدن الكود، زنجبار ، شقرة و جعار وهي كانت آخر بطولاته التي سطر بها أروع ملحمة في تاريخه العسكري وقد كان مستبسلاً في كل مسيرته مردداً قول الشاعر العربي الكبير عبدالعزيز الدريني :
مشيناها خطى كتبت علينا
ومن كتبت عليه خطى مشاها
و من كانت منيته بأرض
فليس يموت في ارض سواها
فلو تأملنا قليلا مسيرة هذا الشهيد البطل وانتقاله من معركة إلى أخرى ومن جبل إلى أخر ومن محافظة إلى أخرى ولم يمت شهيدا إلا في حي هادئ متواضع هو حي (ريمي) بمدينة (المنصورة/ عدن ) تلك المدينة الوادعة الهادئة الجميلة إلا من شوائب استثنائية طغت عليها مؤخرا ، لعدنا إلى قول الحق قول الله تعالى في كتابه الكريم (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كتاباً مؤجلاً ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين) صدق الله العظيم ( آل عمران 145 ). وصدقت نبوءته وجلال عظمته بان لكل اجل كتاباً.
تلك الشخصيات الكبيرة والقيادية المؤثرة عند رحيلها عن دنيانا الفانية تترك فراغاً شاسعاً في الحياة العامة وفي نفوس الأهل والأصدقاء ، والرجال الحقيقيون رحيلهم خسارة للأوطان والمواطنين وقد قال شاعرنا الكبير احمد بن حيدرة بن حبتور ذات مرة في رثائه لاحد صناديد القبيلة :
بعض العرب ما يستخي للموت في ذمتك يالموت خله
ما با على ذي يلحقون الفوت والخام لا شله يشله ))
ورفيقي / سالم علي قطن ما يستخي للموت أبدا خسرته شخصيا وخسرته شبوة كلها وخسره اليمن العظيم من اقصاه الى اقصاه ، وحزنت عليه الرمال والجبال والبوادي و الحضر لأنه واحد من صماصيم اليمن ولكنها مشيئة الله الواحد الأحد الذي أراده شهيدا خالدا في جنات الخلود مع الأنبياء والرسل الصديقين فهنيئا لك يا ابا صالح لحظه استشهادك الخاطف وخلودك الأبدي و الخزي والعار للقتلة المأجورين المجرمين الإرهابيين وسيلقون بإذن الله جزاءهم العادل في الدنيا والآخرة .
بقت لي أمنية شخصية أن تجمع كتاباته المكتوبة في قصاصات صغيرة منثورة كما عنونها ( رحلة العذاب ) وكما أفادنا بذلك رفيق دربه صديقنا العزيز اللواء / عبدالله علي عليوة اذ كان يدون في جبهات القتال شهاداته وانطباعاته وصداقاته في الأمكنة التي احتضنت أفكاره لعل فيها عبراً ودروساً يتعلمها الأجيال من قائد فذ ذهب غدرا في لحظة حرجة يحتاج الوطن فيها لقدراته وشخصيته.
وأمنية ثانية أن يخلد الوطن هذا القائد/ سالم علي قطن بتسمية إحدى الساحات العامة في العاصمة صنعاء او عدن أو احد الشوارع الرئيسية في الوطن أو إحدى المؤسسات الكبيرة باسمه لأنه اسم شهيد مرصع بكبرياء الوطن وشرف المهنة العسكرية وبطولة الرجال الصماصيم.
الأمنية الثالثة: أن يتم الاهتمام من قبل الدولة بأسرته الكريمة وقبيلته المضحية في سبيل الوطن، الاهتمام الذي يليق بالأسر الكريمة المحترمة بحيث يمنحون الاستحقاق المشرف لأسرة مكافحة.
والحمد لله رب العالمين ولا حول ولاقوة الا بالله العلي العظيم.
والله من وراء القصد .
رئيس جامعة عدن