وعليه فإن الانقسامات والصراعات الدينية المذهبية التي تجاوزها العالم المعاصر والمجتمع الدولي الحديث بعد الثورة الصناعية وميلاد الدولة القومية لم يعد لها معنى في بلدان العالم العربي والإسلامي الذي شهد هو الآخر حركات تحرر وطنية توحدت في إطارها شعوب هذه البلدان من مختلف الأديان والأثنيات والمذاهب الدينية الوضعية في مجرى النضال الوطني التحرري من أجل الحرية والاستقلال والتقدم الاجتماعي والوحدة القومية ، حيث تتمتع هذه البلدان بفضل كفاح وتضحيات شعوبها بحقوق السيادة على أراضيها وبحارها وأجوائها وثرواتها ، فيما يتمتع مواطنوها بحقوق المواطنة المتساوية الأمر الذي يتطلب مراجعة نقدية للأسس والعناصر التاريخية التي تكونت على أساسها المذاهب الدينية الوضعية ، وفي مقدمتها كل من المذهب الملكي السني والمذهب الامامي الشيعي ، بالإضافة إلى دراسة وبحث التحولات التي حدثت في البنية الفكرية والمسار السياسي لكل من هذين المذهبين عبر التاريخ .
ومما له دلالة أن الأساس الفقهي لكل من المذهب الملكي السني والمذهب الامامي الشيعي يستند إلى روايات ملكية وامامية وضعية اخترعها المؤسسون الأوائل من ملوك وأئمة وفقهاء كل من هذين المذهبين ( السني والشيعي ) ثم نسبوها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ، على نحو ما فعله قبل الإسلام ملوك وأحبار بني إسرائيل وملوك وكهنة العالم المسيحي عندما اخترعوا روايات وأحاديث ملكية وضعية ، ثم نسبوها إلى كل من النبيين الكريمين موسى وعيسى عليهما السلام وهو ما سبق لنا توضيحه في الحلقات الأخيرة .
وبوسع الباحث الموضوعي اكتشاف هشاشة الروايات التي يستند إليها كل من المذهبين السني والشيعي بواسطة نقد مسانيد ومتون الروايات من جهة ، بالإضافة إلى نقد الاستدلال النقلي والاستدلال التاريخي وصولا إلى نقد التناسخ الشكلي والتشابه الموضوعي في البناء الميثولوجي للروايات من جهة أخرى .كما يمكن اكتشاف جوانب أخرى من هشاشة الأساس الفقهي للمذهبين السني والشيعي من خلال اختلاف بل وتناقض تفسيرات الفقهاء السنة والشيعة لنصوص القرآن الكريم سواء في حقبة زمنية واحدة ، أو في حقب زمنية مختلفة . مع الأخذ بعين الاعتبار أن الاختلافات والتناقضات في تفسير القرآن الكريم لا توجد فقط بين فقهاء المذهب السني وفقهاء المذهب الشيعي تبعاً لمعتقدات كل منهم ، بل أنها تذهب في أحيان كثيرة إلى سياقات متناقضة في التفسير بين فقهاء المذهب الواحد ، الأمر الذي دفع بعض المؤرخين والمفكرين المسلمين المعاصرين والمتقدمين إلى القول بأن الفقهاء لم يقوموا بتعريف الإسلام ، بل قاموا بتقديم تفسيرهم (الأحادي) للإسلام وفهمهم (الخاص) لشريعته انطلاقا من بيئة تاريخية محكومة بمحددات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، لا يمكن بدون دراستها فهم طبيعة الصراعات التي دارت بين المسلمين حول السلطة والثروة في القرون الثلاثة الأولى تحديدا والقرون اللاحقة عموما ، وما ترتب على ذلك من وصول كل من المذهب الملكي السني والمذهب الامامي الشيعي الى طريق مسدود ، لينفتح بعد ذلك على طريق طويل من السقوط والنهوض خلال مدى زمني يزيد على ألف عام منذ سقوط بغداد في منتصف القرن الرابع الهجري حتى الآن . وهو ما يمكن ملاحظته بكل وضوح عند تناول المسار التاريخي للمذهب الشيعي الذي نشأ في القرن الهجري الأول على أيدي أتباع الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، في موازاة المذهب الملكي السني الذي نشأ على أيدي أتباع معاوية بن أبي سفيان !!
والثابت ان المذهب الشيعي بدأ في القرن الأول الهجري بعيداً عن نظرية (الإمامة) التي برزت لاحقا في القرن الثاني الهجري على أيدي أتباع الشهيد حسين بن علي بن أبي طالب بعد أن رفضوا مبايعة يزيد بن معاوية وليا للعهد في بادئ الأمر وخليفة لأبيه بعد وفاته ، ما أدى إلى إطلاق صفة (الروافض) عليهم من قبل فقهاء يزيد بن معاوية ، وعلى رأسهم الأوزاعي الذي وضع حديث حد الردة بعد ان أجاز وصية الحاكم بتوريث الحكم لأبنه من بعده ، ثم أجاز استنادا إلى هذا الحديث قتل كل من يرفض طاعة الحاكم ويخرج عن سلطانه ، بوصفه خارجا عن الجماعة ومنكرا لأمر معلوم في الدين بالضرورة يجعله في حكم المرتد بحسب الحديث الذي وضعه الأوزاعي ونسبه إلى رسول الله : ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا اله إلا الله وان محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة ) !!
وبالمقابل قال فقهاء الشيعة باشتراط العصمة والنص في الامامة ، ثم زعموا أن أئمة أهل البيت أحق من غيرهم بالامامة . أما مصطلح (الأثني عشرية) فقد ظهر في القرن الرابع الهجري على أيدي فقهاء الشيعة الذين زعموا بولادة ووجود الامام الثاني عشر الغائب (محمد بن الحسن العسكري) ، واستمرار حياته إلى يوم الظهور.
لا ريب في أن المضمون الرئيس للفقه الإمامي الشيعي كما هو الحال بالنسبة للفقه الملكي السني يكتسب طابعا سياسيا بامتياز، لجهة ارتباطه بشروط الامامة والخلافة بمعنى رئاسة الدولة وقيادة سلطة الحكم ، وطبيعتها وآليات حصرها وتوريثها في نطاق سلالة عائلية أو قبلية معينة . وهو ما يؤكد حقيقة أن تاريخ الإسلام السياسي حفل بالعديد من الصراعات والاختلافات بين الفرق والطوائف السنية والشيعية التي كانت تختلف في بادئ الأمر مع الفكر الامامي الشيعي والفكر الملكي السني حول شروط الوصية والعصمة والنص والنسب، حيث شارك في هذه الخلافات عدد كبير من البيوت الأموية والفاطمية والعلوية والهاشمية والعباسية التي تنازعت حول الحق في الحكم ، ثم تصادمت بفعل المرجعيات التي استخدمتها لتبرير الوصول إليه سواء عبر الشورى أو توريثه من خلال الوصية لولي العهد .
يتضح مما تقدم ان فقهاء الفكر الامامي الشيعي كما هو حال الفكر الملكي السني كانوا ينزعون إلى تأصيل آرائهم وأفكارهم السياسية من خلال إلباسها ثوبا دينيا وإكسابها طابعا (إلهيا) على نحو ما فعله ملوك بني إسرائيل وملوك روما المسيحية عندما صاغوا بالتنسيق مع رجال الدين اليهود والمسيحيين فكرة ظل الله على الأرض وفكرة التفويض الإلهي للملوك الربانيين . وفي هذا السياق واجهت نظرية الامامة الإلهية معارضة شديدة من أهل البيت وعموم الشيعة الذين رفضوا اشتراط مبدأ العصمة التي كانت تقوم على مبدأ الطاعة المطلقة لولي الأمر وعدم الخروج عن شبر من سلطانه .
وبحسب كتب التاريخ الشيعية نفسها ( بحار الأنوار ) للمجلسي و ( كشف المراد ) للحلي و(روضة الكافي ) للكليني فإن أئمة أهل البيت الأوائل رفضوا فكرة العصمة وكانوا يعلنون أمام الملأ أن آل البيت هم أناس عاديون قد يصيبون ويخطئون ، وأنهم ليسوا معصومين من الذنوب والخطايا والزلل . ولعل أبرز دليل على ذلك ما قاله الخليفة الراشد علي بن أبي طالب إمام المصلين في مسجد الكوفة (( إن من حق من عظم جلال الله في نفسه أن يصغر عنده لعظم ذلك كل ما سواه.وإن من أسخف حالات الولاة عند صالح الناس أن يظن بهم حب الفخر وبوضع أمرهم على الكبر. وقد كرهت أن يكون في ظنكم أني أحب الإطراء واستماع الثناء ولست بحمد الله كذلك، فاني لست في نفسي معصوما من الخطأ والزلل، فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره، ملك منا ما لانملك من أنفسنا ) .
والمثير للدهشة أن هذه الخطبة التي اختصرناها لضيق الحيز وردت بنص واحد في العديد من كتب الفقهاء والمؤرخين السنة والشيعة على حد سواء، وبضمنها كتاب (روضة الكافي) للكليني ، وكتاب (بحار الأنوار) للمجلسي وكتاب (نهج البلاغة) للشريف الرضي وهي من أشهر الكتب المعتمدة لدى الشيعة . وما كان للإمام علي بن ابي طالب ان يقول ذلك الكلام لو أن ثمة حديثا نبويا عن العصمة كما يزعم الشيعة الامامية الاثناعشرية ، ومن قبلهم القائلون بعصمة رجال الدين القديسين ( الربانيين ) الذين أورثهم الله تعاليم الرسائل السماوية للأنبياء بحسب معتقدات المذهب الملكي الكاثوليكي والمذهب الملكي السني، لأن مبدأ العصمة أو القداسة يقضي بأن يضع الامام أو رجل الدين نفسه فوق النقد ، وأن يجبر معارضيه ومخالفيه على وجوب طاعته وعدم الخروج شبرا عن سلطانه ، وهو مالم يفعله الإمام علي بن ابي طالب الذي ضرب أروع الأمثلة في احترام مبادئ الشورى والتواضع والصدق والزهد ومطالبة الناس بمراقبة الحاكم وتقويمه على النقيض من المذهب الملكي السني الذي يدعو الناس إلى وجوب طاعة الحاكم الظالم والصبر عليه حتى ولو جلد ظهورهم وسرق أموالهم !!!!
وبقدر ماكان مأزق نظرية (الامامة المعصومة) يكمن في أنها لم تكن تمثل إجماعا لدى أهل الشيعة بمختلف فرقهم وطوائفهم ، بقدر ما تجسد هذا المأزق في وصول الفكر الامامي الشيعي إلى طريق مسدود بعد وفاة الامام الحادي عشر ابو الحسن العسكري من دون ولد ظاهر له ، وما ترتب على ذلك من ظهور عقيدة جديدة على أيدي فقهاء الشيعة الموسوية الذين كانوا يلتزمون بفكرة الوراثة العمودية بين اثني عشر إماما استنادا الى حديث اخترعه الوضاعون من الفقهاء ثم نسبوه الى رسول الله ، بيد أنهم اختلفوا في تحديد أسماء الأئمة الذين أشار اليهم الحديث الموضوع . مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار ان هذا الحديث موجود في كتب الحديث المعتمدة من قبل أهل الشيعة وأهل السنة على حد سواء، مع فارق بسيط في شكله الميثولوجي فقط ، إذ أن أهل السنة لا يذكرون أسماء الأئمة .
وقد اكتفى البخاري ومسلم بإيراد أحاديث نبوية تفيد على العكس مما قاله الله تعالى في القرآن الكريم بأن رسول الله كان يعلم الغيب والمغيبات قبل الموت حيث تنبأ في إحدى تلك الأحاديث التي نسبها الوضاعون اليه ، بحدوث (هرج ومرج بعد الامام أو الخليفة الثاني عشر)، بينما يحدد أهل الشيعة الامامية وبالذات الجناح الموسوي المتشدد أسماءهم في اثني عشر إماما هم :علي بن أبي طالب، والحسن المجتبي والحسين الشهيد وعلي زين العابدين بن الحسين ، ومحمد بن علي الباقر ، وجعفر بن محمد الصادق ، وموسى بن جعفر الكاظم ، وعلي بن موسى الرضا ، ومحمد بن علي بن موسى الجواد ، وعلي بن محمد الهادي ، والحسن بن علي العسكري. أما آخرهم فهو الإمام الغائب (المهدي المنتظر) محمد بن الحسن العسكري .
وإذا سلمنا بالروايات المتناقضة التي تقول بولادة واختفاء هذا الإمام الغائب، سنكتشف أن مأزق المذهب الإمامي الشيعي وصل ذروته بعدم وجود إمام قائم بذاته يقود الشيعة ويؤسس لقيام دولتهم بعد وفاة الإمام أبي الحسن العسكري وغياب ابنه الافتراضي . في حين استمر العباسيون في السلطة ، ونجح كل من أتباع الشيعة الإسماعيلية في إقامة الدولة الفاطمية بشمال افريقيا والشيعة الزيدية في إقامة دولتين في اليمن وطبرستان. وبتأثير ذلك دخل أتباع الشيعة الامامية الاثناعشرية منذ ذلك الحين مرحلة ( التقية والانتظار ) ، بمعنى عدم إشهار معارضة الحكام، والاكتفاء بالتقية وانتظار ظهور الامام الثاني عشر الغائب .!!
من نافل القول ان ابرز سمات المأزق الحاد للفكر الامامي الشيعي هي السلبية السياسية المطلقة ، حيث يحرم فقهاء المذهب الامامي الأثناعشري الخروج للثورة على الحاكم ، واقامة الدولة الا بعد ظهور الإمام المعصوم والمنصوص عليه من الله . وبالتالي أقدم فقهاء المذهب الإمامي الاثناعشري على القول بتعطيل بعض التكاليف الشرعية التي تتعلق بالدولة مثل دفع الزكاة وإقامة صلاة الجمعة وتطبيق الحدود وجباية الخمس. كما رفضوا و لايزال بعضهم يرفض حتى الآن نظرية ( ولاية الفقيه ) التي ظهرت في القرن الهجري الرابع بالتزامن مع قيام الدولة الصفوية الشيعية ، بحجة أن الولي الفقيه يفتقد الى شروط الإمامة ، وخاصة العصمة والنص . وبإمكان كل من يراجع كتب الفقهاء الاوائل للشيعة الامامية وعلى وجه الخصوص الشيخ محمد النعماني المتوفى في عام 340 هـ ، ملاحظة الارتباك في منطوق النظرية الامامية، حيث يقول النعماني في كتابه الشهير (الغيبة): ( إن أمر الوصية والإمامة هي من الله وباختياره ، لا من خلقه ولا باختيارهم ، فمن اختار غير الذي يختاره الله ، يكون قد خالف أمر الله سبحانه ، وورد مورد الظالمين والمنافقين الحالين في ناره). ثم قام النعماني بايراد طائفة من الأحاديث والروايات الموضوعة حول وجوب التقية والانتظار وتحريم الخروج شبراً عن سلطان الحاكم في عصر الغيبة .
المثير للتساؤل أن معظم الروايات التي أوردها النعماني في كتاب (الغيبة) تعود إلى مصدر واحد هو الإمام جعفرالصادق الذي قال: (كل راية ترفع قبل ظهور راية المهدي المنتظر فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله.. ولا يخرج أحد من قبل خروج القائم الا كان مثله كمثل فرخ طار من وكره قبل أن يستوي جناحاه فأخذه الصبيان وعبثوا به) .
ولئن كانت الشيعة الامامية الاثناعشرية قد تبلورت في القرنين الرابع والخامس الهجريين في ظل الدولة البويهية الشيعية، الا انه من الملاحظ عند قراءة كتب الفقهاء الشيعة الأسلاف عدم قدرة الفقه الشيعي الإمامي على صياغة فكر سياسي متماسك وقادر على سبر غور الحياة بكل تناقضاتها وتحدياتها ومتطلباتها ، حيث انطوى فقهاء الشيعة الاثناعشرية خلف نظرية (التقية والانتظار) التي شكلت أساس التراث الفقهي الإثناعشري. وقد ترتب على ذلك الموقف انغلاق الفكر الإمامي الشيعي الاثناعشري خلف نظرية (الانتظار) على الرغم من قيام الدولة الصفوية في القرن العاشر الهجري كرد فعل على طغيان وفساد واستبداد الحكام التركمان الذين اعتمد عليهم السلاطين العثمانيون في إدارة شؤون الحكم في بلاد فارس بعد اعتناقهم المذهب السني لأسباب سياسية ، الأمر الذي دفع الصفويين وكانوا في الأصل من أتباع المذهب الملكي السني الى اعتناق المذهب الشيعي لأسباب سياسية أيضا . وقد ظل قسم كبير من فقهاء الشيعة يؤمنون بانتظار الإمام الغائب المنتظر ، ويرفضون المشاركة في الدولة الصفوية ، ما دفع أحد أبرز فقهاء الشيعة الامامية في ذلك الوقت وهو الشيخ علي الكركي إلى صياغة المداميك الأولى لنظرية ولاية الفقيه تحت مسمى (نيابة الفقهاء العامة عن الإمام الغائب) والتي أضفى فيها نوعا من الشرعية المذهبية على الدولة الصفوية ، ومنح الشاه طهماسب لقب الولي الفقيه اعترافا بالولاية على المسلمين نيابة عن الإمام المهدي الغائب.
ومع ذلك ظل تيار كبير من فقهاء الشيعة الأصوليين وحتى الآن يرفضون نظرية ولاية الفقيه حتى ظهور الإمام الغائب ، ويرون فيها انقلابا دبره الصفويون وفقهاؤهم على أهم أسس النظرية الامامية التي تشترط العصمة والنص على الإمام ، وإنكارا لشرعية الإمام المعصوم ( المهدي الغائب والمنتظر ) . !!
وكما فعل الفقهاء والوضاعون والقصاص الأمويون في حقبة تأسيس المذهب الملكي السني حين اخترعوا حديثا نسبوه إلى رسول الله ومفاده (أن الإمامة في قريش ما بقي منها اثنان إلى يوم القيامة) ، فقد تصرف نظراؤهم من مؤسسي المذهب الإمامي الشيعي في صيغته الاثناعشرية بالمثل، واخترعوا حديثا منسوبا إلى رسول الله يفيد بأن الامامة ستستمر في ذرية آل البيت إلى يوم القيامة ، ثم أضاف الموسويون المتشددون إلى هذه الرواية أن الامامة ستستمر في ذرية الولد المختفي إلى يوم القيامة(!!!).
والثابت أن النظرية الاثناعشرية التي تنيط الإمامة بطفل اختفى وسيعود إلى الظهور تتعارض جملة وتفصيلا مع القرآن الكريم الذي يوصي بالحجر على الأطفال القاصرين حتى بلوغهم سن الرشد (وابتلوا اليتامى حتى اذا بلغوا النكاح ، فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ) ( النساء 6 ).
وعلى الرغم من أن أخبار الآحاد الظنية التي توردها كتب الحديث المعتمدة لدى الشيعة الاثناعشرية لا تصمد أمام نص الآية التي أوردناها سابقاً كما هو الحال عند الكثير من الأحاديث المعتمدة لدى أهل السنة، ولا تصمد أيضا أمام ميزان القرآن، فإن التاريخ ذاته ينفي وجود حالة خاصة للأئمة وهم أطفال صغار. وبحسبما رواه الكليني في (روضة الكافي) فإن الامام التاسع عند الشيعة الاثناعشرية وهو محمد بن علي الجواد أوصى قبل وفاته بابنه علي الهادي الى عبدالله بن المساور وجعله قائما على تركته من الأراضي والأموال والعبيد والجواري الى أن يبلغ طفله سن الرشد . وقد كتب هذه الوصية في سنة 220 هـ وشهد عليها احمد بن خالد بحسب ما جاء في (روضة الكافي) وهو أصح الكتب المعتمدة لدى الشيعة الاثناعشرية .
ويبقى القول ان الامام الحسن العسكري توفي في سامراء سنة 260 هـ دون أن يعلن عن وجود ولد له يخلفه ، ودون أن يكتب أيضا وصية له بتركته ، ما أدى الى نشوء أزمة بنيوية في صميم النظرية الشيعية الامامية التي تفترض استمرار الامامة (الإلهية) الى يوم القيامة. وقد حاول جعفر بن علي الهادي شقيق الامام الحسن العسكري حيازة كل تركة الامام الراحل بحجة أنه عقيم ولم يخلف أحدا لوراثة تركته . لكن كتب الفقهاء والمؤرخين الشيعة وخاصة كتاب (الغيبة) للطوسي و(إكمال الدين) للصدوق و (الارشاد) للمفيد و (الغيبة الصغرى) للصدر، تقول بأن جارية رومية حسناء للامام العسكري واسمها صقيلة وفي رواية أخرى نرجس ادعت بأنها حامل منه فتوقفت قسمة الميراث . وهو ما دفع الخليفة العباسي المعتمد على الله الى أن ينقل الجارية الرومية صقيلة أو نرجس الى قصره لرعايتها والتأكد من حملها واستبرائها، حتى تبين لهم بطلان الحمل ، حيث تم تقسيم ميراث الامام الحسن العسكري بين أمه وأخيه .
وتبعا لذلك استغل الامام جعفر بن علي الهادي شقيق الحسن العسكري عدم وجود خلف لأخيه فادعى لنفسه الامامة بعد أخيه، ما أدى الى ظهور من يقول بمهدوية الحسن العسكري نفسه ، حيث ذهب قسم من الشيعة الى إنكار وفاة الامام العسكري والقول بمهدويته وغيبته الصغرى ، بينما اعترف قسم آخر بموته ولكنه قال بعودته الى الحياة مرة أخرى استنادا الى حديث منسوب الى الرسول: ( انه يقوم من بعد الموت ، ويقوم و لاولد له) ( النوبختي فرق الشيعة 107/ 108) ، فيما ذهب قسم ثالث الى القول بوفاة الامام العسكري وبوجود خلف له استنادا الى شهادة بعض المقربين من الامام وبعض جواريه بأنه كان له ولد من الجارية الرومية صقيلة أو نرجس قبل ثلاث سنوات من وفاة العسكري ، وانهم رأوه ولا يزالون على اتصال به ، وطلبوا من عامة الشيعة وقف البحث عنه وعدم السؤال عن اسمه ، بل انهم اعتبروا ذلك من المحرمات. ثم فسروا سبب ادعاء الجارية الرومية صقيلة بأنها حامل من الامام العسكري بعد وفاته هو التغطية على وجود الولد ووضعه في السر، ومن بين هؤلاء المقربين الذين أطلقوا هذه الرواية عثمان بن سعيد العمري الوكيل المالي للامام العسكري ، وابو القاسم الجعفري واحمد بن اسحاق القُمي ، وقد اشتهر هؤلاء الفقهاء بعد مائة عام لقولهم بوجود ولد مختف للامام العسكري ، فيما روى الصدوق في كتابه ( اكمال الدين ص 434 ) ان الامام الحسن العسكري أخبر كبير فقهاء الشيعة في مدينة قم وهو أحمد بن اسحاق بوجود ولد له وانه كتب له : (لقد ولد لنا مولود فليكن عندك مستورا وعن جميع الناس مكتوما ، فانا لم نظهر عليه الا الأقرب لقرابته والمولى لولايته، وأحببنا إعلامك ليسرك الله به مثل ما سرنا به والسلام ) .. ومنذ ذلك الحين بدأ المذهب الشيعي الامامي في صيغته الإثناعشرية مساره السياسي الجديد من مدينة قم، ملتبسا بالخرافات والأساطير بعد مائة عام من وفاة الامام الحادي عشر وحتى الآن .