من نافل القول ان تلك الزيارة أثارت قلقاً واسعاً في الأوساط السياسية والاجتماعية من خلال ردود الافعال الواسعة التي عكست رفض واستنكار المجتمع المدني والقوى الحية في البلاد لهذا النوع من التنطع السياسي الذي يستخدم الدين وسيلة من أجل تحقيق أغراض حزبية ضيقة وأهداف سياسية رجعية ومتخلفة ، حيث كان لافتاً للنظر ان جميع أولئك ( الأربعة الربانيين) أعضاء قياديون في أحد الأحزاب السياسية المشاركة في حكومة الوفاق !!!.
كان بوسعي أن أنضم إلى موكب الكثير من السياسيين والكتاب والاعلاميين الذين أبدوا قلقهم من هذا اللقاء الذي أعقبه بيان يوحي بوجود محاولة للالتفاف على المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية التي أجمع عليها المجتمع الدولي وأطراف الأزمة السياسية في اليمن ، والسعي إلى فرض أجندة سياسية رجعية على الرئيس المنتخب عبدربه منصور، واختطاف مشروع التغيير وافراغه من مضمونه الذي يستهدف بناء اليمن الجديد واعادة صياغة شكل الدولة ونظامها السياسي على أسس ديمقراطية ودستورية تلبي تطلعات مختلف القوى الحية في المجتمع وفي مقدمتها الشباب ، وتقدم حلاً عادلاً للقضية الجنوبية التي أفرزتها حرب صيف4991 وما تلاها من ممارسات وسياسات شوهت صورة الوحدة ، وأساءت الى قيمها ومبادئها السامية .
وقد لاحظ الكثير من الذين تابعوا مقالي الذي نشرته في حلقتين حول هذه الواقعة أنني حرصت على الاكتفاء باعلان تأييدي للذين انتقدوا البيان الذي أصدره رجال الدين الحزبيون في ختام زيارتهم للرئيس عبدربه منصور ، و نشرته وكالة الانباء اليمنية الرسمية ، وكان السبب الرئيسي الذي وقف وراء عدم التحمس لتناول مضمون اللقاء والبيان الذي صدر باسم رجال الدين الحزبيين الذين قابلوا رئيس الجمهورية ، هو إفراطهم في اطلاق الصفات (الربانية )على أنفسهم ، الأمر الذي دفعني الى تسليط الضوء في ذلك المقال على بعض الجذور التاريخية والايديولوجية لذلك البيان في الفكر الملكي اليهودي والمسيحي. وتوضيح بعض التشوهات التي أصابت المعتقدات الإسرائيلية بتأثير الدمج بين الدين والنظام السياسي الملكي الاقطاعي، حيث كان ملوك بني إسرائيل يستخدمون الدين كغطاء لتبرير انغماسهم في ممارسة الظلم والاستبداد والفساد واكتناز الثروات، وما ترتب على ذلك من ضم وإلحاق ما أسموه (الشريعة الشفوية) إلى التوراة، بواسطة كتب الأسفار التي زعموا أنها تشكل (وحياً ثانياً) أنزله الله إلى النبي موسى (عليه السلام) بعد التوراة، وما تضمنته تلك الإضافات من تعاليم ومعتقدات منافية لشريعة النبي موسى (عليه السلام)، مارسها ملوك وأحبار بني إسرائيل باسم الحكم الإلهي.
و قلت في ذلك المقال إن ما أصاب الديانة المسيحية من ضلال لا يمكن فصله عن تسلل التراث الإسرائيلي إلى هذه الديانة بعد صراع مرير خاضه النبي عيسى- المسيح (عليه السلام) مع ملوك واحبار بني إسرائيل الذين قاوموا رسالته بمختلف أشكال الكيد والتآمر والقسوة، حيث لم يكن الانحراف عن شريعة النبي موسى (عليه السلام) في سلوك ملوك بني إسرائيل الظلمة فقط، بل امتد ليشمل أحبارهم ورهبانهم الذين ربطوا الغفران بدعائهم لمن يقدم لهم النذور والقرابين، ثم أنكروا الحساب والعقاب وانغمسوا في متاع الحياة الدنيا واكتناز الذهب والفضة، ما أدى إلى فساد العقيدة وفساد الأخلاق معاً.
كما تناولت في مقالي المنشور- قبل شهر ونيف- في هذه الصحيفة مدى التشوه الذي أصاب المسيحية بعقائد التثليث والألوهية والربوبية والتجسيم التي تجعل الله والمسيح والروح القدس عنواناً للاتحاد المقدس بين الله والملك ورجال الدين (الربانيين) الذين يرثون الرسل والأنبياء بحسب إنجيل «لوقا» الذي تم تدوينه في عهد «بولس» وتحت وصايته .. وقلت بوضوح لا يحتمل التأويل ان أخطر ما دخل على العقيدة المسيحية من انحرافات كانت تلك التي افترى فيها بولس على المسيح بن مريم بقوله في إحدى رسائله إن يسوع المسيح قال : (أيها الناس أطيعوا سادتكم بخوف ورعدة في بساطة قلوبكم)، ثم يقول في رسالة أخرى (جميع الناس الذين هم تحت نير ملوكهم وسادتهم فليحسبوا الملوك والسادة مستحقين كل إكرام لئلا يفترى على اسم الله وتعاليمه بالفتن الدائمات)، ثم يكتب إلى تلميذه تبطس (ذكرهم أن يخضعوا للرياسات والسلاطين ويطيعوا) (تاريخ المسيحية - مقارنة الأديان) د . أحمد شلبي - الطبعة العاشرة 1988م.
بعد الانتهاء من نشر الحلقة الثانية من ذلك المقال تلقيت ردود فعل عديدة وصلتني عبر بريدي الإلكتروني من عدد كبير من الأصدقاء اليمنيين والعرب الذين تابعوا مقالي عبر بعض المواقع اليمنية والعربية التي أعادت نشره ، ومن بينهم بعض الاصدقاء اللبنانيين والعراقيين والبحرينيين الذين يعتقدون بالمذهبين السني الوهابي والشيعي الاثناعشري ، وبضمنهم الصديق محمد صادق الحسيني رئيس مركز الحوار الايراني العربي في طهران.
والمدهش أن بعض ردود الفعل التي انقسمت بين مؤيد ومتحفظ كانت تتفق معي عندما قلت إن التحالف بين الملوك ورجال الكنيسة لم يتسبب فقط في نقل الدين من مجال الإيمان النقي إلى مجال السياسة الملتبسة بتلوث المصالح والأطماع الدنيوية، بل انه تسبب أيضاً في استخدام الدين كغطاء لممارسة حروب التوسع الإمبراطوري والظلم والاستغلال في عصر اقتصاد الخراج، بما في ذلك ممارسة أقسى صور الاضطهاد والتحقير بحق النساء، استناداً إلى آراء منسوبة إلى المسيح عليه السلام في بعض الرسائل التي صاغها بولس وأتباعه من رجال الدين بعد مائتين وخمسين عاماً من وفاة المسيح، وهي آراء موروثة من التراث الإقطاعي الإغريقي والوثني، وتتناقض جملة وتفصيلاً مع السيرة النبوية للمسيح عليه السلام، والتي حظيت فيها المرأة بالتوقير والاحترام وعلو المكانة.
لكن بعض هؤلاء الأصدقاء لم يخف اعتراضه أو تحفظه على ما جاء في خاتمة مقالي من اشارة عابرة إلى أن جذور الكثير من المعتقدات المذهبية الوضعية التي سادت التاريخ المسيحي تعود إلى الموروث الوثني والإسرائيلي السابق لظهور المسيح عليه السلام، وإن بعضاً من هذه المعتقدات انتقل إلى المذاهب الإسلامية التي تأسست في النصف الثاني من القرن الهجري الأول بعد أن تسللت إلى العالم الاسلامي من خلال الفكر الملكي السني والفكر الإمامي الشيعي ،على تربة العلاقة بين الدين والنظام الملكي الوراثي بعد وفاة الرسول وانتهاء الخلافة الراشدة والانتقال إلى الحكم السلالي الوراثي، وما ترتب على ذلك من تشوهات وانحرافات وصراعات وثورات تميز بها التاريخ الإسلامي ، وانعكست آثارها السلبية على توتر العلاقة بين الدين والدولة والمجتمع ، منذ البدايات الأولى لنشوء المذاهب الدينية حتى الآن، حيث لا يزال الاستخدام السياسي لموروث هذه الصراعات المذهبية يلعب دورا ضاغطا على مشاريع بناء الدولة المدنية الحديثة في العالم العربي والإسلامي وبضمنها اليمن.
وكان واضحاً من بعض ردود الفعل والتعليقات والتحفظات الغاضبة أن القاسم المشترك بينها هو اشادة بعض الاصدقاء المعترضين والمتحفظين بما أسموه التزام كاتب المقال بالمنهجية والتوثيق في نقد الفكر الملكي الاسرائيلي والمسيحي ، مقابل اتهامه بتعميم الانحرافات التي حدثت في التاريخ اليهودي والمسيحي واسقاطها على التاريخ الاسلامي بدون دليل ، وهو ما دفعني اليوم إلى الرد على تلك التعليقات والردود بهدف اثبات خطأ هذا الاعتقاد من خلال تناول بعض تشوهات الفكر الملكي السني والفكر الامامي الشيعي، حتى يتعرف القارئ على جذورها في الفكر الملكي الاسرائيلي والمسيحي ، راجياً كل من يقرأ مقالي هذا بعد اكتمال حلقاته القادمة ، أن يعود مرة أخرى إلى قراءة مقالي السابق الذي نشرته على حلقتين قبل أكثر من شهر بعنوان (ما تيسر عن رجال الدين الربانيين ) .
ولا أبالغ حين أقول إن السياسيين والكتاب والإعلاميين الذين رفضوا البيان الصادر عن أولئك الذين أطلقوا على أنفسهم صفة (العلماء الربانيين) بعد زيارتهم للرئيس هادي، أعادوا إلى الأذهان عناوين الخطاب الثوري المناهض لفكرة الحكم الإلهي بعد قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م، وجسدوا بموقفهم الرافض لذلك البيان شعوراً وطنياً عاماً بالقلق إزاء المخاطر والتحديات التي تهدد البلاد بأسرها من جراء ظهور أصوات ظلامية تحاول التسلل تحت شعارات ( الثورة والتغيير) بهدف الدعوة إلى إحياء العظام الرميم لمشروع الدولة الدينية الكهنوتية.. خصوصاً في ظل مؤشرات دخول بعض المشاريع الطائفية الإقصائية على خط المواجهات الدامية في صعدة لتمرير مشروع إعادة نظام الخلافة أو الإمامة، ومحاولات شحن المجتمع بالنعرات المذهبية والطائفية وتقسيم الناس إلى طوائف مذهبية متناحرة تعيد إنتاج صراعات دامية على السلطة والثروة شهدها التاريخ الإسلامي قبل أكثر من ألف وثلاثمائة عام، تحت واجهات مذهبية وإقصائية، وأدت في نهاية المطاف إلى تمزيق الأمة العربية والإسلامية وسقوطها تحت براثن التخلف والانقطاع الحضاري والاستعمارالأجنبي.
ما من شك في أن فكرة الحكم الإلهي والحق الإلهي تعد القاسم المشترك بين مختلف المذاهب السياسية التي سادت مختلف أنظمة الحكم الاستبدادية عبر التاريخ البشري، بعد أن التبست بالدين، وهو ما أوضحناه لدى تناولنا مسار تطور الأبعاد السياسية للمذاهب الدينية المتناحرة في التاريخ اليهودي والمسيحي في مقالنا السابق.. لكن ذلك لا يمنعنا من الإشارة إلى الصيغة التاريخية التي تبلورت فيها فكرة الحكم الإلهي والحق الإلهي في التاريخ اليمني بما هو جزء من تاريخ المسلمين عموماً، حيث ظهر اصطلاح (الإمامة) في القرن الأول الهجري على أيدي بعض الفقهاء الذين تحدثوا عن شيعة الإمام علي بن أبي طالب، في مقابل أتباع معاوية وآل أبي سفيان وبني أمية على وجه الخصوص.
ولاريب في أن هذا الاصطلاح أخذ بعداً آخر في القرن الثاني الهجري، من قبل بعض فقهاء الشيعة الذين قالوا باشتراط العصمة والنص على الوصية في الإمام، ثم زعموا أن سلالة البطنين من أئمة أهل البيت أحق من غيرهم بالإمامة خصوصاً بعد الإبادة والتنكيل اللذين تعرض لهما آل البيت عموماً وأبناء علي بن أبي طالب خصوصاً بمن فيهم الأطفال الرضع من قبل الأمويين الذين سيطروا على السلطة السياسية بالقوة، وسنوا نظام الوراثة في الحكم، حيث قام فقهاء النظام الأموي بتأصيل العصبية القبلية (القريشية) كأساس للحكم استناداً إلى أحاديث موضوعة ومنسوبة إلى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، ثم قاموا بتضخيم دور الأئمة ومنحهم صلاحيات مطلقة في الإدارة والتنفيذ والتشريع والقضاء وإعلان الحرب والسلم بغض النظر عن التزامهم بالعدل أو الشورى.
وقد روى الطبري في الجزء الثاني من تاريخ الأمم والملوك عن معاوية قوله : ( بنى الله هذا الملك على قريش وجعل هذه الخلافة لهم.. فكان الله يحوطهم في الجاهلية وهم على كفرهم بالله، أفتراه لا يحوطهم وهم علىدينه). بيد أن المضمون الرئيسي لفكرة ( الملك والإمامة) بمعنى الرئاسة كان سياسياً بامتياز ، لجهة علاقته بشروط الإمامة والحكم والخلافة وانحصارها في قريش كما هو الحال عند فقهاء أهل السنة والجماعة، أو انحصارها في آل البيت مع اشتراط العصمة والوصية والنص، أو اشتراك سائر البيوت العلوية أو الفاطمية أو الهاشمية على نحو ما يراه فقهاء بعض الفرق الشيعية .
تأسيساً على ما تقدم ، يمكن القول إن ثمة فهماً خاطئاً للرئاسة الدينية لدى فقهاء كل من أهل السنة وأهل الشيعة أضفى على الخلافة سمات عنصرية سلالية، سواء من خلال فقهاء أهل السنة الذين جعلوا الخلافة حقاً مقدساً لقريش، وهي القبيلة التي كان النبي ينتمي إليها وحاربته بشدة وقسوة عند ظهور الدعوة الاسلامية وأثناء الهجرة ، ثم انحصرت الخلافة بعد وفاته في بطونها لمدة تزيد على أربعة عقود منذ بدء الخلافة الراشدة وحتى نهاية العهد العباسي . ولم تكن الخلافة طوال تلك العقود الأربعة مفتوحة على غير بطون قريش، أو من خلال فقهاء أهل الشيعة الذين يعتقدون بأن الرئاسة الدينية والدنيوية تكون فقط للإمام الذي ينتمي إلى سلالة البيت النبوي، وبالذات من سلالة فاطمة وعلي بن أبي طالب ، أو غيرها من البيوت التي تنتمي إلى السلالة العلوية عموما. والأغرب من كل ذلك أن غلاة أهل السنة وأهل الشيعة يعتبرون الخلافة والإمامة ركناً سادساً من أركان الإيمان !! .
ويتفق الغلاة من الطرفين على أن الله هو الذي يختار كلاً من الخليفة أو الإمام باعتباره ولياً للأمر تجب طاعته مطلقاً، ولا يسأل عما يفعل. وبتأثير هذه الأفكار العنصرية الاستبدادية اصطبغ التاريخ الإسلامي بالصراع الدامي على السلطة والثروة من خلال الحروب التي دارت بين علي ومعاوية، وبين أتباع يزيد وأتباع الحسين، وبين عبدالملك بن مروان ومعارضيه، وبين الأمويين والعباسيين، وبين العباسيين والشيعة، وصولاً إلى الحروب الدموية التي دارت بين العثمانيين من جهة ، وبين الصفويين والمهديين والزيديين والسنوسيين والأباظيين والعلويين في إيران واليمن والسودان والشام وعمان وشمال أفريقيا من جهة أخرى ..وكان كل الحكام سواء من الخلفاء أو الأئمة يتصرفون كالملوك، ويحكمون باسم الله، حتى أصبح الحاكم يبدو وكأنه ظل الله على الأرض، خصوصاً بعد أن قام رجال الدين في مذهب أهل السنة والجماعة بإعادة إنتاج فكرة تجسيم صفات الله الموروثة عن الفكر الملكي في التاريخ الوثني واليهودي والمسيحي قبل الاسلام، بما يخدم التماهي بين صفات الملك بما هو انسان ، وصفات الله الذي ( ليس كمثله شيء) .
ولا ريب في أن جذور الفكر الملكي الذي يجعل صورة الملك ( الانسان ) متماهية مع صورة الله تعود إلى معتقدات وثنية فرعونية كانت تعتبر الملك الفرعون تجلياً للإله، ثم انحدرت هذه المعتقدات إلى القول بأن الفرعون الذي ولاه الله على الأرض لا يحب أن يكون مسؤولاً أمام الناس، بذريعة أنه مجبر في أقواله وأفعاله، ولا يستطيع أي فرد من الرعية أو الحاشية أو الكهنة مساءلته.
وبتأثير الانتشار العالمي للحضارة المصرية القديمة في عصر الفراعنة الذين حرروا مصر من الهكسوس ، انتشرت فكرة تأليه الحاكم في آسيا وأوروبا قبل ظهور الاديان السماوية، حيث أعلن إمبراطور اليابان هورهيتو نفسه ملكاً ولاه الله على الناس، فيما أعلن يوليوس قيصر نفسه ملكاً مؤلهاً هو الآخر، ثم حاول من بعدهما بعض ملوك آسيا وأوروبا تجسيد التماهي بين صورة الله وصورة الملك من خلال نشر فكرة (الحق الإلهي في الحكم) والتي تجعل من الملك ظل الله على الأرض وحاكماً ( ربانياً ) بأمره ومشيئته.
الثابت أن تاريخ الخلافة الاسلامية شهد بعد مقتل الخليفة الراشد علي بن أبي طالب ووصول الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان إلى الحكم سنة (41هـ) تحولاً جذرياً نحو النظام الملكي المطلق، خصوصا بعد أن اتخذ معاوية من دمشق عاصمة لنظام الخلافة في عهده. وكما هو معروف فقد كانت دمشق والأراضي السورية قبل الفتح الاسلامي جزءاً من الإمبراطورية الرومانية الشرقية، ما جعل الخلافة الأموية تقتبس كثيراً من النظم والأفكار السياسية التي كانت سائدة في الدولة البيزنطية، ومن بينها نظام الحكم الوراثي السلالي، وفكرة ظل الله على الأرض، والتي تم تحويرها إلى تعبير (خليفة الله) الذي أطلقه الفقهاء الأوائل من مؤسسي مذهب أهل السنة والجماعة على معاوية بن أبي سفيان، ومن أبرز هؤلاء الفقهاء الأوزاعي رحمه الله . كما زعم أولئك الفقهاء أيضاً أن الله تعالى رتب بعنايته ورعايته تولي الخلفاء للسلطة وأنه يتعهدهم في كل ما يقولون أو يفعلون . ومنذ ذلك الوقت ظل الفقه السياسي السني محصوراً في نطاق المعاملات بين الناس ولا يقترب من نظام الدولة والعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وإذا حدث وامتد إلى هذا النطاق ، فإن الفقه السياسي الملكي السني ينبري لتبرير أعمال الحكام ، وبيان حقوقهم ودعوة الناس إلى الصبر عليهم وعدم الخروج شبراً على سلطانهم ، حتى ولو جلدوا ظهورهم وسرقوا أموالهم !!.
وكان معاوية بن أبي سفيان أول من قال : (الأرض لله والمال لله والملك لله.. وأنا خليفة الله.. فما أخذت من ملك ومال فهو لي.. وما تركته من مال للناس فبفضل مني).. (الطبري تاريخ الأمم والملوك - الجزء الثاني) .. ولا يحتاج المرء إلى جهد كي يدرك التماهي الواضح بين عبارة (أنا خليفة الله) وعبارة (إن ملوك بني اسرائيل هم ظل لله على الأرض)، كما جاء في كتاب ( التلمود) الذي زعم فيه بعض أحبار اليهود الأسلاف أن لملوك بني اسرائيل حقا مقدسا في الحكم، وأن العناية الإلهية هي التي ترتب لهم ولايتهم كما ترتب لهم أحكامهم وأفعالهم وحقوقهم. وفي وقت لاحق قال الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور: (أيها الناس لقد أصبحنا لكم قادة وعنكم ذادة، نحكمكم بحق الله الذي أولانا وسلطانه الذي أعطانا.. وأنا خليفة الله في أرضه وحارسه على ماله ) (تاريخ ابن خلدون - الجزء الثالث).
ومما له دلالة أن فقهاء الفكر الملكي قاموا بتبرير الاستبداد للحكام على النقيض من آيات القرآن الكريم التي تأمر بالعدل والشورى وتنهى عن الظلم ، وتساوي بين الشرك والظلم . كما استثنى كثير من الفقهاء مساءلة الحكام الظالمين على اساس التزامهم بحكم القرآن ، واخترعوا لذلك أحاديث نسبوها إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، تأمر بالخضوع للحكام والأئمة الظلمة وتوجب طاعتهم والصبر عليهم حتى ولو سرقوا أموال الناس وجلدوا ظهورهم على نحو ما جاء في حديث حذيفة بن اليمان الذي رواه البخاري ومسلم : (اسمع وأطع الأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك) !!!؟؟؟.
وهكذا نشأ (فقه الاستبداد) بعد أن تحولت الخلافة إلى ملك جبري عضوض بعيدا عن الشورى، وبمعزل عن مشاركة الأمة في الحياة السياسية.. وقد أدى ذلك الفقه الاستبدادي الملكي إلى تخلف المسلمين، ووقوعهم تحت براثن الطغيان والاستبداد ومسلسلات العنف الدموي والتصفيات الجسدية والثورات المسلحة المتعاقبة جيلاً بعد جيل..
ولئن ارتبط ظهور فقه الاستبداد السني بالتحول نحو الحكم الوراثي المطلق، واستبعاد الشورى من نظام الحكم على إثر تولي الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان مقاليد السلطة السياسية في العقد الخامس من القرن الهجري الأول ، فإن الفقه الشيعي كرس هو الآخر تحولاً مماثلاً من الشورى إلى الحكم الوراثي الاستبدادي، حيث يعيد المؤرخون الشيعة الأوائل أمثال (النوبختي والأشعري القمي) ظهور الفكر السياسي الشيعي في عهد الإمام علي بن أبي طالب الى المدعو (عبدالله بن سبأ) الذي يوصف بأنه كان يهودياً وأسلم. وقد روى النوبختي في كتابه (فرق الشيعة) ان عبدالله بن سبأ كان أول من أشهر القول بأن النبي محمد عليه الصلاة والسلام أوصى بالولاية من بعده لعلي بن أبي طالب، فيما يرى فقهاء آخرون من أهل السنة بأن ابن سبأ كان يؤمن قبل انتقاله من اليهودية إلى الإسلام بأن النبي موسى عليه السلام أوصى بالولاية من بعده لصفيه الحميم يوشع بن نون بحسب ما جاء في كتاب (التلمود) الذي يقدسه اليهود،ويزعمون بأنه (السيرة النبوية لموسى عليه السلام)، مثلما يقدس أهل السنة وأهل الشيعة كتابي (البخاري) و(الكافي) بوصفهما (السيرة النبوية لمحمد عليه الصلاة والسلام ) بحسب معتقداتهم المذهبية الوضعية.
وبصرف النظر عما إذا كان عبدالله بن سبأ شخصية حقيقية أو أسطورية اختلف حولها المؤرخون، فإن الفقهاء الشيعة يعيدون إليه فكرة الوصية التي اخترعها أحبار ملوك بني إسرائيل حين زعموا بأن النبي موسى أوصى بالولاية من بعده إلى يوشع بن نون، ثم توارثها الكهنة في أبناء يوشع من بعده.. ومع أن فكرة الوصية كانت محصورة في حياة علي بن أبي طالب الذي رفضها بشدة، إلا أنها تحولت إلى تيار سياسي بعد قيام الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان بتعيين ابنه يزيد ولياً للعهد، والتوصية له بالحكم من بعده ، وسط رفض شديد من سبطي الرسول (الحسن والحسين) لهذه الوصية . وقد أدى ذلك الرفض الذي تعود إليه صفة الروافض التي أطلقها فقهاء النظام الأموي على الذين امتنعوا عن مبايعة معاوية وابنه يزيد إلى وفاة الحسن بالسم في عهد معاوية واستشهاد الحسين بالسيف في عهد ابنه يزيد، واعتزال علي زين العابدين بن الحسين عن السياسة بعد ان تم اجباره على مبايعة يزيد بن معاوية ، ما دفع المؤمنين بفكرة الوصية من الشيعة إلى أن ينزعوها عن يزيد بن معاوية وينسبوها إلى محمد بن الحنفية وهو أحد أبناء علي بن أبي طالب من إحدى جواريه باعتباره وصي أمير المؤمنين، خاصة بعد قيامه ومن خلفه العلويون الذين لا ينسلون من بطن فاطمة ، بقيادة الشيعة في أعقاب مصرع الشهيد الحسين واعتزال زين العابدين علي بن الحسين في المسجد النبوي بالمدينة المنورة .
وبوسعنا القول إن تلك التطورات أسهمت في إحداث تحولات بنيوية في فكرة الوصية التي أدخلت وصية النبي المزعومة إلى الإمام علي بن أبي طالب طوراً جديداً هو الزعم بتداول الوصية السياسية من النبي إلى علي ومن علي إلى أبنائه وآخرهم محمد بن الحنفية، ومن بعده إلى ابنه عبدالله أبي هاشم، وما ترتب على ذلك من ظهور اختلافات بين الفصائل الشيعية المتعددة في القرن الثاني الهجري، وادعاء كل منها الحق المقدس في توارث الوصية وحصر الشرعية السياسية فيه، وصولا إلى بروز فكرة أخرى ذات طابع عنصري وهي فكرة الحفاظ على نقاء الدم وعدم تزويج النساء الهاشميات اللاتي ينحدرن من سلالة آل البيت برجال آخرين لا ينتمون إلى هذه السلالة، وهو ما أدى إلى ممارسة نوع جديد من الاضطهاد والتمييز ضد النساء المسلمات من خلال استخدامهن كأدوات لتعميق المصالح والتحالفات الانتهازية التي نشأت بين السياسيين الطامعين لاحتكار الحكم من آل البيت ، وبين مراكز القوى من شيوخ القبائل والقضاة ورجال الدين الذين أصبحوا جزءاً من النخب الحاكمة في دول ملوك الطوائف على أطراف دولة الخلافة، وهو ما سنأتي إليه في الحلقة القادمة بإذن الله.