دائمًا ما كانت تشدّنى عبارة يقولها الآباء لنا نحن الشباب آنذاك، عن معاناتهم، مجملها: «أنتم لم تروا ما رأيناه من معاناة». وتلك جملة كافية لأن تفرض على الجلسة قواعد الاحترام الصارمة من كل الشباب الحاضرين للرجل الأكبر، الذي يتقمّص صورة والدٍ لكلٍّ منا. وكبرنا، أو كما يُقال عبر شاشات التليفزيون: «هرمنا»، لنجد أنفسنا في صفِّ مقاعد الآباء وذوي الشعر الأبيض. ولكن لا شباب مندهشا في الجانب الآخر يسمع منا تلك التنهيدة العميقة لنقول له:
«آه... لم تروا معاناتنا زمان».
فنحن أمام جيلٍ شاب يحرق المراحل، وتحرقه معاناة الانتقال المعرفي المتسارع، والصدام الذي لا يتوقف.
جيلٌ شابٌ اختصر وضعه قولُ أحدهم في ندوة على فضاء افتراضي أنه رأى في عقد من الزمان ما لم يره الآباء في ستين عاما، من تقلبات وضياع وصراع. كل شيء تبدّل؛ من وسائل الاتصال إلى وسائل السيطرة. كانت الجيوش تحيط بالإذاعة الوطنية لتعلن أحداث الساعة، وتزف للشعب كل التغيّرات الصاخبة ببيان واحد وعشر أغانٍ، فيدرك الشعب أنه دخل نفقا جديدا أو مرحلة جديدة.
الآن لا يستمع إلى الراديو إلا كلُّ محاصَرٍ في سيارة عالقة بزحمة السير، يبحث عن نشرة المرور وأحوال الطقس. او أغنية تذكره بالزمن الجميل!.
أما تقلبات السياسة فيكفي لها منشورٌ وفيديو على تطبيق إلكتروني يصنعه شباب، فيسمعه العالم.
وكان عقد اجتماع سياسي قصة درامية تُكتب في ثلاث عشرة حلقة تليفزيونية. أمّا الآن، فيلتقي آلاف الشباب في غرف الدردشة الإلكترونية ليكسروا كل القواعد الصلبة.
كان المُخبر يقرأ جريدة قديمة ويلبس بالطو في الصيف يراقب حوارًا في مقهى. ويخرج الشباب من المقهى اكثر تعاطفا معه!. أما اليوم فالحرب السيبرانية تقتحم الملفات، بل وخبايا التفكير التي لم يبح بها صاحبها بعد.
هذا تبدّلٌ عجيب من الصعب الإحاطة بكل تفاصيله.
ونحن في منطقة ملتهبة، جزءٌ من هذا التحول، بل وربما أبرز ضحاياه. وخلال عشر سنوات شهد العالم العربي موجة غير مسبوقة من الاضطرابات التي أطاحت بأنظمة في دول، ودَفعت دولًا أخرى إلى حافة الانهيار.
تحوّلت الاحتجاجات إلى حروب أهلية مدمّرة، وتعمّقت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة كلها.
وأسوأ ما أفرزته هذه الاضطرابات هو صعود الميليشيات والتنظيمات المتطرفة، واتّساع موجات النزوح، وانكشاف هشاشة الدولة العربية أمام التدخلات الإقليمية والدولية. ولهذا نحن أمام معاناة لا توصف لجيلٍ، رغم نعمة المعرفة والتكنولوجيا عليه، فإنه يعاني، ونحن معه، نقمة التحولات الكبرى المتسارعة. وتلك التحولات المضطربة هي سمة هذا الوطن العربي الممتد من الماء إلى الماء. وعلى مدى سبعة عقود ونيف، تحوّل الوطن العربي إلى أحد أكثر مناطق العالم اضطرابا من حيث كثافة الحروب والنزاعات المسلحة، إذ شهد عشرات الصراعات والنزاعات.
تنوعت بين حروب دولية كالحروب العربية–الإسرائيلية، والحروب الأهلية الممتدة، إضافة إلى النزاعات الحدودية والتمردات الداخلية. وجلّ هذه النزاعات لم تكن أحداثا منفصلة، بل حلقات متشابكة غذّتها عوامل بنيوية عميقة، أبرزها هشاشة الدولة الوطنية، وتداخل المشاريع الإقليمية والدولية، وغياب مؤسسات الحكم الرشيد، فضلا عن تحوّل بعض البلدان إلى ساحات صراع بالوكالة. ونتيجة لذلك، استحوذت المنطقة العربية على نسبة معتبرة من النزاعات العالمية خلال النصف الثاني من القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، ما انعكس في موجات تهجير واسعة، وتدمير للبنى الاقتصادية والاجتماعية، وتعطيل لمسارات التنمية.
ويكشف هذا الإرث الثقيل أن الاستقرار في العالم العربي ليس مجرّد ضرورة سياسية، بل شرط وجودي لاستعادة قدرة الدولة على الإنتاج، وبناء عقد اجتماعي جديد يضع حدا لدورات العنف المتكررة.
يكشف هذا الوضع المضطرب عن أن جذور الأزمة أعمق من إسقاط أنظمة، وأن الاستقرار الحقيقي لن يتحقق إلا بإعادة بناء الدولة على أسس المشاركة والعدالة والحوكمة الرشيدة.
وستبقى نافذة الأمل مشرعة في جدار العتمة هذا.
أقول هذا وبيت شعرٍ للشاعر ناظم حكمت في ذهني:
«أجمل الأيام هي تلك التي لم نعشها بعد». فهل نعيشها؟! لا أجرؤ أن أكمل البيت المتفائل أمام ندوة شباب غاضب!
