صادف السادس من أكتوبر الذكرى الثانية والخمسين لانتصارات أكتوبر المجيدة، ذلك اليوم الذي لم يكن مجرد معركة عابرة في سجلات الحروب، بل محطة فاصلة غيّرت مسار التاريخ العربي، وصاغت وجدان جيل بكامله. لقد شكّل السادس من أكتوبر 1973 علامة فارقة في الصراع العربي الإسرائيلي، وحدثاً عظيما أعاد للأمة العربية ثقتها بقدرتها على استعادة الأرض والكرامة.
لم يكن الانتصار عسكرياً فحسب، بل كان انتصاراً في الروح والمعنى، في الشعر كما في الميدان. ولعل قصيدة الدكتور عبدالعزيز المقالح، «قصيدة العبور»، واحدة من أصدق الشهادات الشعرية على ذلك النصر. تلك القصيدة تحولت إلى نشيد وجداني يخلّد لحظة العبور العظيم، حيث تلاقت الكلمة مع البندقية، والقصيدة مع هدير الدبابات، في مشهد يختزل طموحات العرب وأحلامهم بعد انكسار 1967. في أبياته، رسم المقالح مشاهد الجنود المصريين وهم يندفعون لعبور القناة، فيما كانت القلوب العربية جميعها تعبر معهم، تتلاحم في صيحة واحدة ضد الانكسار. لم تكن تلك الأبيات كلمات على ورق، بل وثيقة وجدانية عميقة، تشهد على حلم جماعي لطالما انتظره العرب؛ حلم الانتصار واسترداد الكرامة.
أتذكر في سنوات الدراسة الأولى، كيف كانت كتب النصوص في الثانوية العامة باليمن تحتفظ بالقصيدة نفسها، وقد كنا ندرس آنذاك المناهج المصرية ذاتها. يقف الأستاذ، وهو شاعر مصري أيضاً، طويلاً أمام قصيدة المقالح، ونحن نكاد نطير فرحاً حين نرى اسماً يمانياً في كتاب مصري. كان ذلك المشهد تجسيداً حياً لوحدة وجدانية وثقافية عميقة، ولتاريخ طويل من التلاقي العربي.
وفي قريتي البعيدة، كان الناس يتفاخرون بأبنائهم الذين ذهبوا إلى جبهات القتال في مصر وسوريا. ما زالت حكايات الشهيد الطيار عمر غيلان الشرجبي تتردد كأنها أساطير، وهو الذي حلق بطائرته في سماء الجولان السوري، وقاتل حتى ارتقى شهيداً. تلك القصص لم تكن مجرد حكايات بطولة فردية، بل كانت مرايا تعكس معنى التضامن العربي، ودماء امتزجت على ثرى مصر وسوريا في معركة واحدة.
يحكي الآباء بحنين مبلل بالدموع أن السادس من أكتوبر كان أكثر من حرب تحرير، كان ملحمة استرداد كرامة، وإعلاناً بأن الأمة ليست مجرد جغرافيا متفرقة، بل روح واحدة إذا نهضت استطاعت أن تصنع المستحيل. وبعد مرور أكثر من خمسة عقود، يعود أكتوبر محمّلاً بالذكريات، لكنه أيضاً محاط بالوجع القادم من غزة الجريحة اليوم. ومع ذلك، يبقى السادس من أكتوبر 1973 علامة مضيئة، ودليلاً على أن العزيمة العربية قادرة، متى اجتمعت، أن تهزّ حتى أعتى الجدران. لم تكن الحرب مجرد صدام عسكري، بل كانت لحظة استراتيجية غيّرت موازين القوى، وكسرت صورة «الجيش الذي لا يُقهر»، وفتحت الأفق لمسار سياسي جديد.
اليوم، تُستحضر حرب أكتوبر كرمز خالد للوحدة العربية، وكشاهد على أن المعارك الكبرى لا تُحسم بالسلاح وحده، بل بالإرادة الشعبية والتضامن. لقد أثبتت تلك الحرب أن الشعوب حين تؤمن بعدالة قضيتها، يمكنها أن تغيّر المعادلات مهما بدت مختلة. ولعل الرسالة الأبدية التي تركها لنا السادس من أكتوبر، أن الأرض والكرامة لا تسترد إلا بالإرادة، وأن القصيدة مثل الرصاصة، قادرة على أن تفتح الطريق نحو الفجر.
====
قصيدة د. عبدالعزيز المقالح
ظنوكِ
ظنوكِ -سينـاء- للأغرابِ مزرعـةً
وفي رمـــالك يزكو المـــــــاء والثمرُ
تسللوا عبـــر ليلٍ لا نجـــومَ بـــه
وأصبحوا وهم السُمّــــــــــار والسمرُ
لكنهم حصدوا موتـاً وعاصفـــــةً
وفوقهم تقصـفُ الأشجـــــار والمطرُ
تقهقروا خلفهم رعبـــــاً بلا أمــل
وقيل لــــن يقهروا يوماً وقــــد قُهروا
تساقطوا كفراشـــــاتٍ ملوثـــــةٍ
في الرمل واحترقوا في النار أو أُسروا
يا عابر البحر ما أبقى العبور لنا
وما عسى تصنع الأشعــــــار والصورُ
أبطالنـــا عبروا مـــأســـاة أمتهم
ونحـن في كفـــنِ الألفــــاظ نحتضرُ
تقدموا عبر ليلِ الموتِ ضــــاحكةً
وجوههم، وخطـــــوط النـــــار تستعرُ
وأشعلوا في الدجى أعمارهم لهباً
للنصر واحترقــــوا فيــــــه لينتصروا
عبورهم أذهل الدنيــــا ومــوقفهم
تسمَّــــــــرتْ عنده الأقــــــلام والسِيَرُ
وددتُ لو كنتُ يومــاً في مواكبهم
أو ليتني كنــــت جسراً حينمـــا عبروا