علاقتنا في وسائل التواصل الإجتماعي تشبه إلى حد بعيد علاقات صلة الرحم وتأدية واجب العزاء ومشاركة في افراحهم مجتمعيا ، وشيءٌ قليل من إنجاز الأعمال، وماتبقى منها يكون للغوص في فضاء كتابات الآخرين.
وعندما نبتدئ في إنشاء مقال نحاول مع الفارق طبعا استدعاء منظومة سيبويه اللغوية لنختار أو ننتقي من جواهر اللغة كلمات تخدم ماننشئ، حينها نتخيل سيبويه وهو يراجع عبده في بعض أخطاء لفظها تاركا حماره يختنق بالحبل المربوط في عنقه حين قال سيبويه بعد أن حذره عبده من اختناق الحمار بالحبل كلمته المشهوره «يموت الحمار ولاتموت اللغة».
التقيت وبمحض الصدفة بشاب يتبعه ثلاثة من أصدقائه أعمارهم لاتتجاوز العشرين ربيعا، التقيتهم عند أحد مكاتب الحوالات المالية وكان علي أن أنتظرهم ليفرغوا لأخذ دوري بعدهم.
وصل إلى مسامعي عنوة بسبب ضيق المكتب والشاب يملي للموظف بياناته ليؤسس حسابا ماليا (جديدا) حتى يستقبل فيها حوالات تأتي نتيجة كتاباته في مواقع التواصل الاجتماعي، حديث لفت نظري وبسرعة ودون استئذان توجهت إليه بسؤال عما تحتويه صفحته من كتابات.
التفت الشاب إلي مبتسما وقال لي : تجاوز المتابعون لي في صفحتي المائة ألف متابع والموقع ارسل لي مبلغا وكان الرقم الذي قاله ضخما جدا ، واكد ذلك موظف الحوالات بأن المبلغ بالفعل ضخم وكذلك الشباب الذي حوله، هنا سألته ثانية عن ماذا تكتب حتى يتابعك هذا الكم الهائل ويأتي لك هذا العطاء الجزيل.
تخيلت حينها وانا احدث نفسي بأنه ومن المؤكد أن الشاب نابغة وبأقل تقدير فهو يقوم بتفسير نظرية النانو لزويل وعلاقتها بنظرية النسبية لاينشتاين ولم لا؟، فصعقني رده وهو يقول مبتسما، أقسم أن منشوراتي تافهة جدا وهي عبارة عن مجموعة صور او مقطع اغنية وشيء من هذا، واعاد كلماته بكل شفافية (المحتوى تافه ياعم) المهم انك تحصل على متابعين يتجاوز المائة ألف وكلما زاد متابعيك كبر المبلغ.
لا اعرف حينها لماذا توجهت بوصلة ذاكرتي لصحفيي مؤسسة 14 اكتوبر العظام في ذاك الزمان ، وذلك الجهد الجهيد الذي يتطلبه نشر مقال (وقبل دخول نظام الصف الضوئي)، وهناك كان يأتي الصحفي إلى مبنى الصحيفة حاملا مقالته مكتوبة على ورق بخط واضح ومرتب ليسلمه إلى من يجيز المقال ويدفع به للنشر ليعرض بعدها على أساتذة التصحيح الإملائي واللغوي ليخرج بعدها بشكل بروفات تحت وطأة تجربة الطباعة ليُنضد بعدها في ماكيت الاخراج كآخر مرحلة قبل الطباعة ، وكان في صباح كل يوم نجد تلك الثلة من الصحفيين الكبار على سلم باب الصحيفة الرئيسي يناقشون المقال ومواضيع أخرى متعددة قبل أن يتوجه كل منهم إلى عمله.
اليوم وأي صاحب محتوى تافه بإمكانه جلب مائة ألف متابع وأكثر، ليتحصل على مثل ذلك المبلغ الضخم جدا دون عناء، ولايقدم اي محتوى مفيد ورأسماله اعداد المتابعين فقط.
وهنا يأتي سؤال هل بلغ عدد التافهين مائة ألف وأكثر (لكل صانع محتوى تافه) في وسائل التواصل الاجتماعي، هذا ما وشى به بالضبط كلام الشاب الذي كان أكثر من شفاف عندما قال ( انا صاحب محتوى تافه) والذي أكده من كان معه وكاتب مكتب الحوالات الذي أكد تحويل المبلغ بالعملة الصعبة وأكد لي فتحه الآن حسابا آخر بالعملة المحلية .
ذلك لايعني انه لا يوجد صفحات في وسائل التواصل الاجتماعي بها محتويات وازنة تضيف لك وتعلمك وتنشئ لك أفكارا، وتضيء لك الطريق لجودة محتوياتها وتنوعها، ولكن من المؤكد أنها لاتتحصل كما يتحصل الشاب الشفاف (واقرانه) على تلك الحشود من المتابعين أو على تلك الأموال.
هنا تأكدنا أن سيبويه وبالفعل قد مات ومعه عبدٍهٍ، وبلي الحبل الذي كاد يخنق حماره ولم يتبق لنا إلا الحمار.