الحلقة الثانية من :
غياب مشروع إنشاء الوطن :
في الحلقة الأولى رأينا كيف أن عملية الانتقال من الثورة إلى الدولة تمت بطريقة غاب فيها مشروع انشاء “ الوطن”، باعتباره الهدف الأصيل للثورة والدولة معاً بشقيه المادي والقيمي. ويقصد بمشروع الوطن هو تحويل الانسان من رعوي إلى مواطن بكافة الحقوق السياسية والقانونية والانسانية - الطبيعية، على قاعدة الشعب هو مالك السلطة ومصدرها، بما يتضمنه حقه في انتخاب حكامه وفقاً لنظام مدني تعددي. أما سبب الغياب فهو أن النظام السياسي والاجتماعي للدولة، والذي تبلور خلال عملية الانتقال من الثورة إلى الدولة بتفعيلات استمدت دينامياتها من معادلات ومساومات القوة والنفوذ للأطراف التي ادعى كل منها تمثيله الحقيقي للثورة، وكان بطبيعته تسلطياً بحجة حماية الثورة، وقاوم شروط تحويل الناس من رعية إلى مواطنين بكل الوسائل باتساق مع المنهج الذي يدير به الدولة والأدوات التي يستخدمها في تلك الادارة التي كان يحتاط فيها من الانقلابات الداخلية و” المؤامرات الخارجية”. وكان من الطبيعي، والحال كذلك، هو أن يصبح الانتقال من الثورة إلى الدولة انتقالاً مرحلياً وشكلياً، وبمعنى أوضح انه كان ابتعاداً عن الثورة،أخذت بعده الدولة ومؤسساتها الهشة تعاني من صراعات الزعامة، أو تسقط بيد القائد الفرد والزعيم الأوحد في انقلابات متلاحقة . فمشروع الدولة الذي يغيب فيه بناء الوطن، هو الذي يهيئ شروط الانفصال عن الثورة، ويعد خطراً على الدولة والثورة معاً.
وبغياب مشروع وفكرة “الوطن” ، تخبطت الدولة بين يدي الزعيم القائد، وأتون الفوضى، والحروب، والانقلابات والصراعات الدموية.
إن الدولة التي تغيب معها فكرة “الوطن”، أي تلك التي تقوم فقط على إنشاء هياكل مؤسسية فوقية معبرة عن تشابك مصالح قوى اجتماعية وسياسية متنفذة، متجاوزة ومغيِّبة إرادة الشعب، تتحول إلى سلطة قمعية يغيب معها مشروع “ الدولة الوطنية “ ويتحدد مصيرها بالمصير الذي ينتظر الزعيم.
كانت الاحتفالات بالثورة مناسبة يجدد فيها القائد الرمز، الذي وضع الثورة في يمينه والدولة في يساره، علاقته بالثورة بصورة شكلية لإكساب سلطته شرعية لا غنى عنها والمتمثلة في شرعية دستورية هشة وملتبسة. وفي ظروف الشرعيات الدستورية الملتبسة والهشة، والتي تأتي عبر الانقلابات العسكرية والانتخابات الشكلية والمزورة، يصبح الاستنجاد بالشرعية الثورية عملاً لا غنى عنه. وفي هذه التناوبات، فإنه يلوّح بكل واحدة منهما في وجه الشعب، حسب ما تقتضيه الحاجة. ففي الوقت الذي تقتضي فيه الحاجة استقطاب مشاعر العامة لأي سبب من الأسباب فإنه يخرج إليهم وفي قبضته “الثورة” ملوحاً بها وكأنه الحارس الامين لها، وغالباً ما كان يتم ذلك في ذكرى الثورة في احتفالات لا تجسد معاني وقيم الثورة، بقدر ما تعبر عن نفاق يعكس الصلة الضعيفة للقائد الرمز بالثورة. وعندما تقتضي الحاجة الخروج إليهم وفي قبضته “الدولة” فإنه يكون قد رتب لذلك مناسبة انتخابية أو تعيينات في مناصب قيادية. أما حينما يتعلق الأمر باستعراض قوته ونفوذه فإن ذلك يتم من خلال عروض عسكرية، مهرجانات جماهيرية ضخمة تمجد القائد، افتتاح مشاريع اقتصادية، وجميعها يظهر فيها وكأنه هو الثورة والدولة معاً. وبذلك تعملقت شخصية الزعيم القائد وتضخمت على حساب الثورة والدولة في وعي الناس، واللتين تراجعتا في الأهمية المجتمعية إلى مستويات لم تعد فيها الثورة سوى ذاكرة وطنية بلا مضامين أو حوافز تستدعي النضال من أجل استعادة قيمها، كما أن الدولة، وقد تجسدت في شخصية الزعيم القائد، لم يعد هناك ما يستدعي الكفاح من أجل استعادة استقلالية مؤسساتها الوطنية والسيادية المعبرة عن إرادة الشعب.
يتبع الحلقة الثالثة...