لا أدري لماذا يصر البعض على تحويل الجنوب إلى ساحة للمبارزة، أو مضمار سباق، لإثبات أن هناك من لا يزال متمسكا بالوحدة كخيار “وحيد” رغم كل التحولات والأطوار التي آلت إليها الأمور، فالخفة هي طابع التعامل مع الوضع الحساس في تلك المناطق، وتندفع السخافة راكضة خلف مشاعر وتهويمات لا علاقة لها بما يجري على الأرض .
بعد كل هذه السنوات التي قضاها الحراك الجنوبي، في بلورة قضية تالياً مطلباً واضحاً - أيا كان موقفنا منه - بات يسيطر على المزاج العام في المحافظات السبع، نشاهد اليوم، أطرافا تلعب أدوارا لا يمكن فهمها إلا في إطار صب الزيت على النار، ودفع الأوضاع المتوترة هناك إلى مرحلتها النهائية.. والتفجر.
صحيح أن ما يفعله البعض من الناشطين تحت لافتة الحراك الفضفاضة غير مقبول، لكنني لا أفهم لماذا يتمسك المتحمسون “للوحدة” بممارسة الاستفزاز في منطقة ملغومة.
إذا كان ثمة من يعتقد أن عليه أن يفعل شيئا لإثبات أن هناك مزاجاً وحدوياً حقيقياً، فالساحة ليست في عدن بل في صنعاء، حيث يجب أن تحسم الأمور هناك بصور واضحة وجلية.
لا أعرف كيف يمكن تسويق الطمأنينة إلى الجنوبيين بأن نظام صالح قد انتهى، بحلول 21 فبراير 2011 في حين أننا الآن في التاريخ نفسه من عام 2013 ومازال مطلب القوى السياسية هو تخلي علي عبدالله صالح عن ممارسة السياسة.
كيف يمكن لرجل خرجت ضده ثورة شعبية أن يستمر في ممارسة هذا الإرباك والاحتفاظ بامتيازات استثنائية، ما لم يكن ممسكا بمستوى من القوة العسكرية. ما حدث في هذه المناسبة بالطبع ليس هينا، فقد جاء للمرة الأولى رئيس من خارج الهضبة التي هيمنت على مقاليد الحكم في البلاد طيلة قرون، غير ان الرئيس هادي ما يزال يكافح وحيدا لاستعادة المؤسسات الأمنية والعسكرية التي بنيت على أساس عشائري وجهوي وولاءات شخصية.
هو تغيير جزئي لا شك، قد يكون مرضيا إلى حد ما بالنسبة لمعايير نخب الشمال وطريقة تسوياتها، لكنه بالنسبة لفصائل كانت قد ذهبت بعيدا في تثوير الشارع، ورفع سقف مطالبه “باستعادة دولة الجنوب والاستقلال” لن يبدو أكثر من تغيير محدود غير مجدٍ، في رقعة شطرنج مازالت مربعاتها ممتلئة برموز وشخصيات مارست كل أشكال النهب والفيد بعد حرب 94 في الجنوب.
إن العدو الحقيقي للوحدة ليس الحراك الذي يقف في موقع رد الفعل، بل الشخصيات الانفصالية في صنعاء. على وجه التحديد تلك التي تتمسك ببقائها على رأس المؤسسة العسكرية والأمنية ومراكز النفوذ القابضة على مغانم الفيد في المركز “المقدس”. فوق ذلك فإن الناس لا يلمسون بصورة عملية وديناميكية التدابير المفترضة على الأقل فيما يخص معالجة ملف المبعدين قسريا في الجهازين المدني والعسكري.
كان الناس ينتظرون قرارات الهيكلة، ليتمكنوا من حيازة الثقة بوجود تغيير فعلي في بنية منظومة الحكم، لكننا شاهدنا كيف تركت هذه القرارات أثرا عكسيا في أذهان الناس في الشمال وليس في الجنوب فقط ، عندما بدا أن أهم عنصرين تحتاج اليمن بشدة الآن إلى رحيلهما الفوري عن مواقعهما العسكرية، مازالا قائدين فعليين في الحرس الجمهوري والفرقة.
لقد اختار اللواء علي محسن طريقة لإعادة اللعبة إلى نقطة الصفر، عندما أصر على البقاء والتمسك بموقع قيادي في الجيش، فهرع العميد أحمد علي صالح من فوره للعب الدور ذاته على رأس قوة فقدت مبرر وجودها القانوني شأنها في ذلك شأن الفرقة ، لكنها على الأرض مازالت تحت قبضته.
أيا تكن التفسيرات، فلن يفهم الأمر إلا باعتباره تبادلا للأدوار بين الطرفين بهدف الحفاظ على مركز قوة قبلي ومناطقي يضمن الحفاظ على شبكة مصالح وامتيازات ضخمة. هذا ما أميل إلى ترجيحه أنا “الدحباشي” فكيف سيفهمه ناس وجغرافيا مناطق تعتقد أن لديها ثأرا شخصيا مع الرجلين وما يمثلانه من امتداد لنخبة الحكم التي التهمت الجنوب .
ما هي الرسالة الإيجابية التي يمكن لجنوبي أن يفهمها من هذه المهزلة. لقد مرت وحسب دون أن يفكر أحد من السياسيين “المخلصين” للوحدة في مدلولاتها السلبية على مئات الآلاف من الذين عاشوا لعنة غير مسبوقة جردت نحو 200 ألف من العاملين في جهاز الدولة بشقيه العسكري والمدني من حقوقهم الوظيفية وألقت بهم إلى جحيم معاناة جعلت الوحدة في وجدانهم مرادفا للقهر والظلم والفساد الغاشم .
كيف يمكن إقناع هؤلاء أننا أنجزنا “ثورة” وأطحنا بنظام، في حين يتصرف علي محسن وأحمد علي باعتبارهما المالكين الحصريين للقسم الأكبر من الجيش. من شأن هذا الموقف الذي تعايش معه الجميع بصورة غريبة، أن يضعف مركز الرئيس هادي في الجنوب، وإرساء المزيد من الشكوك بشأن ما إذا كان التغيير قد حدث بالعمق المطلوب. ما يزيد المشهد تعقيدا أن الجنرالات ومشايخ الفيد، مازالوا “باسطين” على المساحات الشاسعة من الأراضي والأملاك المنهوبة، ويمارسون المزيد من التشويش من خلال تصريحات وتهديدات مستفزة، خلاصتها تمنح الفصائل المتشددة في الحراك المزيد من النفوذ في خارطة الجنوب الساخط أصلا .
خلال الأيام الماضية قال مسؤول أوروبي “إن على اليمنيين أن ينتهزوا فرصة الإجماع الدولي لمعالجة مشاكلهم”. انه يقدم نصيحة ثمينة للتخلص من الرعونة الماثلة، كما لا يخلو من تحذير ضمني أن الموقف هذا قد يتغير. لكن بعض الأطراف تفهم الأمر بصورة تدفعها لارتكاب المزيد من الحماقات .
لدي شك أصلا في حرص المجتمع الدولي على وحدة اليمن بالفعل، مع ذلك فدوره لن يكون سوى ثانوي في تقرير مآل الوضع في الجنوب واليمن برمته. مصير الدول يتقرر على الأرض في الداخل أولا، وموقف الخارج غالبا لا يسهم سوى في زيادة معاناتها واللعب على التناقضات، وفي المحصلة ستؤدي زيادة الاستقطابات إلى الشد والهرولة نحو العنف .
تبالغ القوى السياسية في اليمن في الاعتماد على هذه المواقف الدولية، ما يدفعها في الغالب إلى تجاهل التفاعلات الحقيقية على الأرض واقتراف أشكال من الاستفزاز، كالدعوة إلى مسيرات مليونية في عدن بمناسبة 21 فبراير (يعتبرها قطاع واسع من الحراك مناسبة لا تعنيه). يقابل ذلك مزاج جنوبي ساخط وغاضب، يأخذ أشكالا مختلفة من التصعيد (في الضالع قطعت كافة الطرق المؤدية من والى المحافظة، وفي حضرموت وقعت اشتباكات بين عمال شماليين ومجاميع تنتمي للحراك .
تفاقم الأمر بصورة أكبر مع بيان لمجلس الأمن ضم اسم علي سالم البيض الذي يتزعم التيار المطالب “بفك الارتباط” إلى علي صالح، باعتبارهما طرفين يلعبان “دورا سلبيا” في التسوية السياسية في البلاد. لقد شاهدنا تصعيدا واشتباكات مع قوى تابعة للحراك في احتفال فصائل سياسية في عدن بذكرى 11 فبراير أدى إلى مقتل وجرح العشرات. إذا كان الأمر مستفزا إلى هذا الحد, فلماذا الحرص على تكرار فعل مشابه قد يكون مناسبة لإشعال توتر أكبر وسفك المزيد من الدماء.
لم تتعلم القوى السياسية من غبائها القديم عندما تركت المشكلة في الجنوب تتشكل على هذا النحو دون تحرك فعلي ضاغط لمعاجلة حقيقية لأوضاع الناس، واستيقظت على كرة نار ضخمة تكاد تأتي على البلد كله، وهاهي تتصرف بالطريقة نفسها فتلقي بالمشكلة إلى السلة الإيرانية، كما فعلت سابقا مع صعدة، قبل أن يصبح نفوذ طهران أمرا حقيقيا .
نسيت هذه الأطراف أن الحراك ظل يكافح على الأرض لعامين قبل أن يلتحق به البيض، وقبل أن تبرز طهران مكتسحة لمناطق نفوذ جديدة. إن الامتياز الوحيد الذي تصنعه الطبقة السياسية هنا بأدائها القاتل ضيّق الأفق والمخلص للمصالح الخاصة، هو تهيئة المنطقة تلو الأخرى لتصبح ساحات صراع ومناطق نفوذ إقليمية !
بدلا من الاعتراف بفشلها في التعامل مع هذا الملف، هاهي تجد غريما جاهزا يمكن أن يصبح شماعة ملائمة. إن أفضل ما تفعله هذه القوى هو إلحاق الضرر بالبلاد من خلال انتهاج سياسات ومواقف تدفع الأمور نحو الأسوأ، وفتح الباب على مصراعيه ليصبح الجنوب ساحة أخرى لصراع إقليمي لا يكترث لا لجنوب أو شمال .
ازعم أنني متابع جيد لما يجري في الجنوب منذ انطلاقة الحراك على هيئة جمعيات المتقاعدين، وكنت اشتغلت أول ملف صحفي ميداني في اليمن عن الحراك في مراحل تشكله الأولى يناقش المشكلة من زوايا عديدة. كان ذلك في العدد الأول من صحيفة المصدر، في نوفمبر 2007. وكانت “رياح الجنوب” لم تكتسب بعد شكل العاصفة .
وفي منتصف 2010 تابعت القضية بملف آخر في صحيفة (النداء) يركز على تتبع “التحولات” التي شهدها الحراك وأطواره المتصاعدة ووسائله، وخارطة تحالفاته، والعلاقة بين قواه ورموزه. ضمن ما كتبت محور يناقش السيناريوهات المحتملة للمشكلة بما في ذلك التدويل مع انتهاج (صالح) للحل الأمني والعسكري، دون حلحلة للملفات الرئيسية في القضية.
حذرتْ في ذلك المقال من احتمال لجوء بعض الأطراف ـــ خصوصا البيض ـــ إلى اللعب على التناقضات الإقليمية، وتحديدا إيران إذا استمر الجمود في هذا الملف على حاله، لكن السياسيين في هذه البلاد لا يقرؤون ولا يريدون أن يفهموا. إنهم رأس البلوى ورأس الخراب .
إن الغضب من سلوك الحراك يضع غلالة سوداء على العيون، تحول بيننا وبين قراءة المشهد كما هو وخطورة مآلاته. لذلك لجأ كثيرون إلى تجريمه سياسيا وأخلاقيا، دون أن يكترثوا بتراكمات وضع يزداد مع مضي الوقت تعقيدا. لا يمكن مطالبة الحراك بممارسة دور العاقل، بينما يستمر الجنون مسيطرا على الضفة الأخرى. حتى الآن لم يتحرك أي طرف بصورة جادة للضغط من اجل وضع معالجات سريعة وحاسمة على الأقل لكسر حلقة التشدد بين الفصائل الجنوبية .
القرارات التي أصدرها الرئيس هادي في هذا الصدد بتشكيل لجان لمعالجة المشاكل هي جيدة بالطبع، لكن الوضع المتأزم هناك يحتاج إلى تحرك أسرع من عمل لجان بيروقراطية ستحرص على التهام أطول فترة ممكنة، لزيادة غلة العائد المالي والمستحقات. يحتاج الأمر إلى إجراءات ميدانية عاجلة على مستوى الجيش أولا والأجهزة الأمنية والمحلية لا تتيح للزمن أن يصبح لاعبا في صف الاحتقان .
المزاج السائد في الجنوب، هو ذلك المطالب “باستعادة الدولة والاستقلال” بغض النظر عن التفاصيل. هناك تعدد في الكيانات والرؤى الجنوبية وهذا صحيح، وهناك انقسامات كبيرة أيضا تنبئ بخطر أكثر من كونها مصدر تفاؤل وتشف كما يفعل البعض، لكن مناسبة التصالح والتسامح والاحتشاد الضخم غير المسبوق الذي احتضنته عدن في يناير الماضي يجب أن يُقرأ بشكل أعمق.
حتى الفصيل الذي أعلن قبوله المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني لم يتخلَّ عن مطلب “استعادة الدولة والاستقلال” ولو من قبيل المضاربة السياسية والإعلامية، لأن العمل بعيدا عن هذا الشعار “الخلاب” معناه فقدان التأثير على الأفئدة في الساحة الجنوبية.
التخويف من المآلات الخطيرة في الجنوب في حال الانفصال، هو العمل الأثير الذي تحترفه النخبة الشمالية، كما لو كان بقاء الأمور على ما هي عليه أمرا حتميا .
إن مصير الجنوب سيحدد مصير اليمن برمته، والمؤشرات تقول إننا ذاهبون إلى وضع كارثي إذا ظل الفاعلون في غبائهم القديم، ولم نتخلص من مراكز القوى المعيقة للتغيير الحقيقي. قد يكون الموقف الدولي ضد الانفصال الآن، لكنه لا يستطيع أن يفرض الوحدة بالقوة إذا كان الواقع على الأرض مختلفا ويسير لمصلحة خيارات “الدولة المستقلة ”.
هذا لا يعني أن الأمور ستمضي باتجاه تحقيق أي من الخيارات المتضاربة بسهولة، لكن المؤكد أن التناقضات الشديدة ستفضي إلى الانفجار الكبير .
كل الظروف اللازمة لاشتعال البلاد مهيأة : الخفة نفسها تهيمن على القوى السياسية في التعامل مع هذا الملف الخطير، عجلة التغيير واقفة، أطراف إقليمية متربصة بالمال وشحنات الأسلحة المتدفقة، ونحن على مقربة من قناعات خطيرة تتشكل في أوساط الحراك بأن “الكفاح المسلح” هو الحل. فقط، أن يقرر فصيل حراكي واحد اللجوء للسلاح فسيشتعل الجنوب، ولن يوفر الشمال أقصى ما يمكن أن يفعله المجتمع الدولي وقتها عندما يتحول إلى وسيط تهدئة، لإطفاء النار المشتعلة بين جبهات قتال وأمراء حرب ، وحصر الضحايا !
انفصاليون في صنعاء .. وحدويون في عدن
أخبار متعلقة