يقال: “أتعرف فلاناً؟” فتكون الإجابة أحياناً بنعم، ثم يعود السؤال ثانية: “جلست معه؟ استمعت إليه؟” فإن كانت الإجابة (لا)، يقال: “إذن لا تعرفه” .. فقبل أن أتعرف عليه كانت صورته وجسمه غير الذي قيل لي، فقد صوره البعض أنه في مكانة الممثل السوري الذي عرف بأسم (أبو عنتر)!! لكن ومن منطلق أن الأرواح يجمع بينها الخالق في سماه قبل أن تتقابل وتلتقي الأجساد على الأرض، فقد وجدت في الأستاذ الراحل - إلى جنة الخلد بمشيئة الله - أنه من أولئك الذين تصافحهم القلوب قبل الأجساد.
هذه مقدمة وددت أن تكون فاتحة مرثيتي أو كلمات الرثاء لرجل سمعت عنه قبل أن أتعرف عليه، “نقابي مخضرم، وكاتب حاذق، ودبلوماسي رصين، عرف أنه الأخ الأكبر والأب والأستاذ عبده فارع نعمان” رحمة الله عليه وطيب ثراه، وافته المنية في صنعاء فجر يوم 26 سبتمبر 2012م وهو يتابع أموراً متعلقة بعمله في السلك الدبلوماسي، فكان قدر الله أسرع.
لم ينقطع بيننا التواصل والاتصال، ففيه وجدت حنان الأب، ورقة وسلامة القلب، ونقاء السريرة، وصدق الحديث غير المشوش ولا المتعالي، كان يشعرني - وأنا أتحدث معه أو أستمع إليه - بالوفاء والانتباه وإسداء النصيحة، وما أكثرها من نصائح أسداها فاتبعتها، لم أشعر يوماً وأنا أجلس معه بفارق السن والتجربة أو الخبرة، وتلكم صفة قلما يجدها المرء منا مع غيره من الناس!!.
استفدت وتعلمت منه الكثير، وأخص هنا معنى الصبر والسيطرة على الذات فضلاً عن الإخراج والتنسيق وغيرها من الأعمال الصحفية أثناء عملنا في صحيفة (ساهرون) الصادرة من عدن للأعوام 2004 - 2010م، وكان رحيله مفاجئاً لي فقد تكلمت معه قبل وفاته بيوم واحد فقط، لكنه قضاء الله وقدره، جثمت على ركبتي لأقبل جسده الطاهر المسجى في إحدى غرف المنزل في صنعاء والدموع تسيل على خدي، وأدعو له الله بالرحمة والمغفرة، عندما ذهبت لإلقاء نظرة الوداع، وفي تلكم الأثناء تأكد لي القول بأن الأرواح تحلق في السماء والأجساد تدفن، بيد أن ما يتركه الإنسان يتذكره به الناس، فما أجمل الثواب في الذكر لمن يغادر الدنيا وبصمات أعماله النيرة شاهدة عليه، تأكد لي أكثر وبما لا يدع مجالاً للشك أن الموت قد يخطف من بيننا روحاً ليحلق بها في السماء مغادرة دنيانا الفانية القصيرة، وهناك تستقبل الروح عند ملائكة الرحمن محتفية بها وبأعمالها الصالحة، أما الأجساد فتوارى الثرى لتعود إلى طبيعتها الأولى، قال تعالى: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى).
وهنا أقول للأستاذ المغفور له بإذن الله تعالى: هل أنعاك، أم أبكيك؟ هل أعزي نفسي فيك؟! .. لا لن أفعل شيئاً من ذلك يا أستاذي، لأنك من علمني معاني الصبر والاحتساب إلى الله حين اليأس .. علمتنا يا أستاذ أنا وزملائي في صحيفة (ساهرون) أن الصمت يعني الكثير، وأن ليس للإنسان إلا ما كتب له، فعليك رحمات رب العالمين وبركاته ورضوانه.
فهل تعلم أننا ودعناك فجر يوم مبارك من منزل إحدى بناتك اللواتي تربين على طاعة الخالق عز وجل، ثم طاعتكم أنت وأمها رحمة الله عليها، فلهن ولأبنائك عظيم الأجر والثواب والجزاء الحسن في الحياة الدنيا والآخرة على ما قدموا أثناء وعكتك الصحية ، فاسمح لي يا أستاذي باسمك وأنت في روضتك الصغيرة أن أدعو الله لجميع من وقف إلى جوارك أن يكون من جزائه الحسنى في ذريته.
أستاذي الحبيب: لا نخفيك أننا بكيناك، بكينا غيابك الجسدي، وذلك حق كما علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع.
وفي مناسبة كهذه أقول أبياتاً رثائية لروح الأستاذ والمربي الفاضل السفير عبده فارع نعمان:
أيا ابن فارع صاحبي *** لروحك أوجه كلمتي
كنت لي نعم الرفيق *** ولو لم تكن من كتبتي
فمنك تعلمت الكثير *** وعرفت معنى الصحبة
معك جميل الذكريات *** رغم قصر المدة
كنت لي ناصح أمين *** كم أهديتني من غلطة
فكيف أعود لمكتبي *** وكيف أعود لغرفتي؟
ووجهك الوضاء يغيب *** وتلك معنى الوحشة
==========
لكن وإن غاب الجسد *** في روحك الطاهر حضور
بما حملته من فكر *** في فائدتها لن تبور
أجيال تشهد على الكلام *** واللول في أعماق البحور
عنوانك الأول وفاء *** والثاني الآخر صبور
فيا رب اجعل قبره *** روضة في الجنة طهور
واسكنه في جنتك *** فردوسها العالي وحور
وتلهمنا الصبر الكبير *** من يومنا حتى النشور
============
وداعاً أبا سامي *** وداعاً أبا هشام
وداعاً أبا عمرو ومروان *** وداعاً أيها الأب الهمام
أستاذ كنت لي صدوق *** في النصح أيضاً والكلام
سنين تزاملنا معاً *** فكنت أنيسي في الظلام
لك في التواضع معلماً *** وفنار ضوءه للأمام
وفي هدوءك والعمل *** منذ عرفتك بانتظام
فلك في فؤادي مسكناً *** يعلم به رب الأنام
كلمات في وداع الأستاذ
أخبار متعلقة