شهدت بلدان عربية وإسلامية عديدة من بينها اليمن موجة غاضبة من الاحتجاجات على فيلم سينمائي أميركي يسيء إلى رسول الإسلام الأعظم ـــ الحبيب المصطفى محمد عليه الصلاة والسلام ـــ ، أسفرت عن اقتحام ومحاصرة السفارات الأمريكية في ليبيا ومصر واليمن وتونس والسودان، وقتل السفير الأميركي في ليبيا كريستوفر ستيفنز وثلاثة دبلوماسيين أمريكيين في بنغازي، بالإضافة إلى مقتل وجرح مئات المتظاهرين ونهب وإحراق عشرات السيارات والأجهزة الإليكترونية التابعة للسفارات الأمريكية بعد مواجهات عنيفة مع قوات الأمن المكلفة بحماية السفارات الأجنبية في هذه البلدان.
في سياق هذه التداعيات لقي كل من الفيلم الأمريكي المسيء للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، والاعتداءات التي طالت السفارات الأمريكية على حد سواء استنكارا واسعـا من قبل قادة العديد من الدول، وفي مقدمتهم رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وإيران ومصر وتونس وليبيا واليمن، لكن أبرز ردود الفعل المتميزة جاءت من الولايات المتحدة وروسيا حيث قرر الرئيس الأمريكي باراك أوباما إرسال مدمرتين إلى الشواطئ الليبية.. قال إن مهامها مفتوحة وليست محددة ، ثم تعهد بملاحقة كل الذين يعتدون على الدبلوماسيين والمواطنين والجنود الأمريكيين في كل أنحاء العالم ، مطالبـا الحكومة الليبية بضرورة جلب قتلة السفير الأمريكي والدبلوماسيين الأمريكيين في ليبيا إلى العدالة، فيما دعا الحكومة المصرية إلى حماية السفارة الأمريكية في القاهرة ، ووصف مصر على نحو غير مسبوق منذ رحيل الرئيس جمال عبدالناصر بأنـها دولة ليست حليفة وليست عدوة !!؟؟.
من جانبها نفت السيدة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية علاقة حكومتها بالفيلم المسيء لرسول الإسلام، وأدانت مضمونه ووصفته بأنـه “مقزز” لكنها أعلنت بصراحة عدم قدرة الحكومة الأمريكية على منعه أو محاسبة الذين أنتجوه لأسباب تتعلق بالدستور الأمريكي الذي يحمي حرية الرأي وحرية التعبير بحسب قولها .
إلى ذلك أدان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مضمون هذا الفيلم واستنكر الهجوم على السفارات الأمريكية ومقتل السفير الأمريكي في ليبيا وثلاثة من دبلوماسيي القنصلية الأمريكية في بنغازي على أيدي جماعات مسلحة متطرفة استخدمتها الحكومة الأمريكية في إسقاط نظام العقيد معمر القذافي، مشيرا إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تتعلم حتى الآن من دروس تعاملها البراغماتي والانتهازي مع الجماعات الإرهابية لمصلحة أهدافها الإستراتيجية الدولية التوسعية ، وبضمنها المراهنة على نشر الفوضى وإثارة الحروب والفتن الطائفية والأثنية في أفغانستان والعراق وسورية وليبيا ومصر وآسيا الوسطى والبلقان وأقاليم القوقاز، وما ترتب على هذا السلوك من أضرار لحقت بالولايات المتحدة على نحو ما حدث لها في أحداث 11 سبتمبر 2001م، وما حدث لجنودها في أفغانستان والعراق ولدبلوماسييها في ليبيا، وما يمكن أن يحدث لمصالحها لاحقـا في مناطق عديدة من العالم.
ووصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إهانة المعتقدات الدينية بأنـها جريمة يجب إدانة مرتكبيها في الولايات المتحدة ودول اتحاد الأوروبي التي تتعذر بأن قوانينها تحمي حرية التعبير، بينما تلاحق هذه الدول بموجب تشريعاتها وقوانينها النافذة الكثير من المفكرين والفنانين الذين ينكرون محارق الهيلوكست في ألمانيا النازية أو يقللون من أعداد ضحاياها ، منوها بأن المباحث الفيدرالية الأميركية اخترقت الدستور الأميركي و كل القوانين والأعراف عندما أثارت الرعب في أوساط الأميركيين المسلمين بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001م ، وحققت واستجوبت أكثر من عشرة آلاف منهم، حيث كان بعض هذه التحقيقات مهيناً ومخالفا للدستور الأميركي ، كما أن السيدة انجيلا ميركل مستشارة ألمانيا التي كرمت صاحب الرسم الكاريكاتوري المسيء للمسلمين ونبيهم ، اوقفت رسما مماثلا مسيئًا للمسيح عليه السلام ، فيما منعت القناة الرابعة البريطانية بث شريط وثائقي مماثل تحت دواعٍ أمنية !!
ودعا بوتين الحكومة الأمريكية إلى أن تتأمل جيدا المغازي الخطيرة لارتفاع أعلام تنظيم “القاعدة” والجماعات الإرهابية فوق مباني سفاراتها في ليبيا وتونس ومصر، وهي بلدان ساهمت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون في إسقاط حكامها وإيصال جماعات إسلامية متشددة إلى سدة الحكم فيها بوسائل عسكرية وسياسية وإعلامية، كما طالب الحكومة الأمريكية بأن تتأمل جيدا ما حدث للمصالح والمطاعم والشركات الأمريكية من اعتداءات عنيفة في مدينة طرابلس شمال لبنان، حيث ينشط الدبلوماسيون الأمريكيون والفرنسيون وتجار السلاح العرب والأتراك في تجميع مقاتلي تنظيم “القاعدة” والمرتزقة الأجانب وتسليحهم وإرسالهم إلى داخل سورية من أجل إسقاط النظام السوري تحت مسمى “الثورة من أجل الحرية”!!!
وحذر بوتين الولايات المتحدة وحلفاءها في حلف الناتو والاتحاد الأوروبي عمومـا من استخدام مقاتلي “القاعدة” والمنظمات المتطرفة والإرهابية والمرتزقة الأجانب لتحقيق أهدافها الإستراتيجية في سورية، وقال: (لا يجوز نسيان حقيقة أن هؤلاء المقاتلين سينقلبون على الذين ساعدوهم على قتال الآخرين، تحت شعارات دينية ومتطرفة وسيوجهون ضربات موجعة إليهم).
اللافت للنظر هو خلو ساحات الاحتجاجات أمام السفارات الأمريكية من جماعة “الإخوان المسلمين” التي كان ناشطوها وشيوخها في مقدمة الاحتجاجات التي حدثت في بعض البلدان العربية والإسلامية خلال العقد الأول من الألفية الثالثة الميلادية، وطالبت بطرد سفيري الدنمارك وهولندا ومقاطعة البضائع الدنماركية والهولندية على إثر قيام صحيفة دنماركية بنشر رسوم كاريكاتورية مسيئة للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، وعرض فيلم هولندي يتهم بعض الدعاة المسلمين وفي مقدمتهم الشيخ القرضاوي والشيخ العرعور والشيخ البراك بالتحريض على كراهية اليهود والنصارى والدعاء عليهم في منابر الجمعة، والزعم بأن الرسول وأتباعه مأمورون بالدعوة إلى مقاتلتهم حتى ينطقوا بشهادة “أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله”، إذا أرادوا أن تكون أرواحهم و أموالهم معصومة .. بيد أن الإخوان المسلمين اكتفوا هذه المرة بدعوة أنصارهم لتنظيم احتجاجات رمزية أمام المساجد عقب صلاة يوم الجمعة الماضية، ثم سحبوا تلك الدعوة بعد خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي احتوى رسائل تهديدية لمصر.
أما الشيخ القرضاوي فقد تميزت تصريحاته إزاء الفيلم الأميركي المسيء للرسول الأعظم من الدوحة ، بالدفاع عن الحكومة الأمريكية وتبرئتها من الفيلم، ومهاجمة دعوة بابا الفاتيكان أثناء زيارته الأخيرة للبنان، لوقف إرسال السلاح والمسلحين إلى سورية، واتهامه بأنـه جاء إلى لبنان بهدف تنصير الشرق الأوسط والعالم بحسب قوله!!!؟؟
وكان موقف القرضاوي هذه المرة متناقضـا مع مواقفه السابقة إزاء الرسوم الدنماركية والفيلم الهولندي، حيث تصدر بنفسه مسيرات احتجاجية في الدوحة قبل سنوات، وأطلق من على منبر قناة “الجزيرة” في قطر تصريحات نارية دعا فيها الحكومات العربية إلى طرد سفيري الدنمارك وهولندا من البلاد العربية والإسلامية ومقاطعة المنتجات الدنماركية والهولندية.
والحال أن شيوخ وقادة الإخوان المسلمين وكبار المتحدثين باسمهم تحولوا هذه المرة من دعوة الناس للجهاد ومطالبة الحكام بطرد السفيرين الدنمركي والهولندي وإغلاق سفارتي الدولتين الأوربيتين اللتين أساءتا إلى الرسول الأعظم قبل سنوات ومقاطعة منتجاتها، وامتنعوا خلال الأسبوع الماضي عن تحريض وتهييج غضب الناس وتجييشهم ضد المصالح والسفارات الأمريكية في شوارع البلدان التي وصلوا إلى سدة الحكم فيها ، والبلدان التي يتطلعون إلى الاستيلاء عليها، بدعم من الحكومة الأمريكية وسفاراتها وسفرائها.
وكان أهم ما تميز به موقف (الإخوان المسلمين) هذه المرة هو إدانة الفيلم المسيء للرسول الأعظم بصوت منخفض جدا ، لكنهم أدانوا بصوت عال قيام المحتجين الغاضبين في شوارع البلدان العربية والإسلامية بالهجوم على السفارات والمطاعم والمدارس الأمريكية وإحراق أعلامها والمطالبة بمقاطعة منتجاتها وطرد سفرائها !!!؟؟.
وكان لافتـا للانتباه أن كبار المتحدثين باسم الإخوان المسلمين في مصر على وجه التحديد، أعلنوا عن اعتقال المئات من المحتجين الغاضبين واتهامهم بتلقي أموال من الخارج بهدف الإضرار بالسلم العام على نحو يعيد إلى الأذهان ما كانت تفعله وتعلن عنه أجهزة أمن الدولة في النظام المصري السابق ، فيما أعرب المتحدث الرسمي باسم حزب الحرية والعدالة عن الحرص على (( استمرار الشراكة الدولية بين العالم الإسلامي والولايات المتحدة الأمريكية من أجل تحقيق المصالح المتبادلة والتعايش السلمي بين الأديان والأمم والشعوب والدول )) ، داعيـا إلى أن يكون الاحتجاج ضد أي إساءة للمعتقدات الدينية (( سلميـا وحضاريـا وبعيدا عن التشنج والتطرف )) بحسب قوله الذي يعيد إنتاج وتسويق مضمون الخطاب الإعلامي الرسمي القديم للأنظمة العربية عندما كانت تواجه الاحتجاجات التي قادها الإسلاميون ضد الرسوم الدنماركية المسيئة للرسول الأعظم ، وطالبوا خلالها بطرد سفراء الدول التي نشرت الرسوم وإغلاق سفاراتها ومقاطعة منتجاتها!!!
ومما له دلالة أن الفيلم الذي يتسم بالضحالة الفنية والسفاهة والصفاقة والوقاحة شكلا ومضمونـا ، أخرجه شخص أمريكي إسرائيلي قال إنـه جمع مائة مليون دولار من شخصيات صهيونية أمريكية بارزة في منظمة (الإيباك) التي تمثل الإطار المدني والقانوني للوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأميركية من أجل إنتاج هذا الفيلم الذي شارك فيه أيضـا بعض الأقباط المصريين المتطرفين ، الذين يؤمنون بالمذهب المحافظ الجديد للأيديولوجيا المسيحية الصهيونية المتنفذة في الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي.
ومن نافل القول إن هذا الفيلم لقي استنكارا مدويـا وقويـا وبصوت عال من الكنيسة الأرثوذكسية المصرية والكنائس الشرقية في سورية وفلسطين المحتلة ولبنان والعراق وتركيا، حيث رأت هذه الكنائس في الفيلم واحدا من عناوين المخططات الاستعمارية الجديدة التي تسعى إلى إثارة حروب طائفية بين المسحيين والمسلمين، مع الأخذ بعين الاعتبار مشاركة ناشطين سياسيين من الأقباط المصريين في الاحتجاجات التي حدثت في محيط السفارة الأمريكية بالقاهرة، مقابل غياب الإخوان المسلمين عنها. كما غاب عن ساحة الاحتجاجات ضد أسوأ فيلم يطال النبي محمد صلى عليه وسلم دعاة وشيخ حزبيون كانوا يتسابقون في التحريض ضد الغرب الكافر تحت شعار ( إلا رسول الله ) . فيما تدافعت أحزاب وجماعات إسلامية محسوبة على الإخوان المسلمين لتنفي مشاركتها في الاحتجاجات التي توجهت نحو السفارات الأميركية، ومن أبرز المواقف المتناقضة ما كتبه قيادي إخواني بارز في حزب النهضة التونسي عبر موقع ( الجزيرة نت ) بعد عرض الفيلم الأميركي المسيء للرسول داعيا الإسلاميين إلى ( التزام الهدوء ،لأن أحسن رد على الإساءات التي تطال الإسلام والرسول الكريم هو تجاهلها ) بحسب قوله ، بينما كانت مقالات وتصريحات هذا القيادي الاخواني قبل وصول حزب النهضة إلى السلطة في تونس تعتبر التظاهرات الاحتجاجية والمطالبة بمقاطعة المنتجات ، وقطع العلاقات مع الدول التي تحدث فيها إساءات لرسول الإسلام ، أبسط رد مشروع للمسلمين الذين لا يجوز لهم تجاهل الإساءات للنبي محمد عليه الصلاة والسلام ، الأمر الذي دفع بعض المعلقين السياسيين إلى القول بأن الأحداث الأخيرة (( أثبتت أن الإخوان المسلمين طلاب سلطة أكثر من كونهم طلاب دين )) !!؟؟
ولعل ذلك هو ما دفع الكاتب والمفكر العربي الكبير محمد حسنين هيكل إلى تحذير الإخوان المسلمين من أن الاعتراف الأمريكي والغربي بهم لم يجىء قبولا بحق لهم ، ولا تقديرا تجلت دواعيه فجأة أمام المعترفين، ولا إعجابا ولا حكمة، لكنه جاء قبولا ـــ ولو جزئيا ــ بنصيحة عدد من المستشرقين، بينهم برنارد لويس الصهيوني المسيحي (( تطلب مددا يستكمل عزل إيران وسوريا في العالم الإسلامي والعربي بالفتنة المذهبية )) .
ويمضي هيكل بالقول (( إن نصيحة الاستشراق شددت على ضرورة تفعيل المواجهة لتصبح اقوى إذا انتقلت من كونها صراعا بين حكومات أمام حكومات لكي تصبح صراعا بين مجتمعات ضد مجتمعات، وصراعا بين أتباع المذاهب الإسلامية داخل هذه المجتمعات)) ، بمعنى أن الهدف الرئيسي من الاعتراف والاهتمام بالإخوان ــــ حسب وجهة نظر محمد حسنين هيكل التي نشرتها صحيفة الأهرام المصرية ــــ وبقبول مشاركتهم شرعيا فيما كان محظورا عليهم من قبل ، هو ضمان أن يكون للإخوان ( السنة ) دور على مستوى الشارع العربي في مواجهة سياسية ومذهبية مع الشيعة والمسيحيين ، تمهيدا لتفكيك عدد كبير من الدول والمجتمعات ، على طريق إعادة خارطة الشرق الأوسط الجديد .
وقد كتب المستشرق الصهيوني الأميركي برنارد لويس في مذكراته التي نشرها بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م،عن دوره شخصيا في صياغة مناهج التعليم للمدارس الدينية غير الحكومية في باكستان وبيشاور وبعض البلدان العربية خلال الفترة التي شهدت تجييشا واسعا للجهاد ضد الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، حيث لاحظ قابلية بعض حركات الإسلام السياسي للتعاطي مع مشاريع التفكيك الجيوسياسية ، وهضم الصراعات المذهبية الداخلية بواسطة مخلفات الفقه المتشدد الذي ورثه المسلمون منذ ظهور الحكم الملكي الوراثي المتدثر بالدين ، مرورا بعصر الانحطاط الذي أعقب سقوط الخلافة العباسية .
والثابت أن مشروع الإسلام التغييري الثوري تعرض للتشويش والتلبيس والتعطيل منذ أن تحولت الدولة الإسلامية إلى ملك سلطاني عضوض ، إذْ أصبح الأمن الداخلي المطلق والوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها ، هاجساً رئيسياً للنخب الحاكمة والمتنفذة التي لجأت إلى السيف والذهب - الترهيب والترغيب - لشراء السلام الداخلي وانتزاع الشرعية .. فكانت النتيجة نكوص وتراجع عملية التغيير لصالح التعايش مع مصالح واحتياجات البنى التقليدية السائدة في المجتمع وإعادة إنتاج ثقافتها وقيمها الجاهلية التي جاء الإسلام لتغييرها .
ومن المفارقات الخطيرة أن الفقهاء تحولوا إلى رجال دين على غرار الاكليروس ــــ ومن قبلهم الأحبار ـــ ونهضوا بدور هام في تأطير ذلك التعايش لصالح الطرفين (السلطة السياسية والبنى التقليدية في المجتمع والقوى الخارجية ) بعد دخولهم كشريك وسيط ضمن مفاعيل هذه العلاقة .
كان النشاط العقلي يعد مظهراً للمعارضة في البيئة السياسية للمجتمع الإسلامي بعد تحول نظام الخلافة إلى حكم ملكي وراثي عائلي ملتبس بالدين، إذْ يؤدي التفكير العقلي في نهاية المطاف إلى نقد البنى الداخلية للأفكار والظواهر، واقتراح وإبداع حلول جديدة لمشاكل المجتمع الإسلامي . ولذلك تعرّض العقل للعدوان عليه ، وقام فقه التشدّد وفقهاء السلاطين بدور وظيفي خطير في العدوان على العقل .
وبالنظر إلى الدور البارز الذي لعبه الفقه المتشدد ورموزه الفكرية في مواجهة النشاط العقلي وتكفير الفلاسفة والمشتغلين بالعلوم الطبيعية ، وما ترتب على ذلك من أفكار فقهية احتلت مكاناً محورياً في التاريخ السياسي للمسلمين ، ولعبت دوراً مؤثراً في تشكيل ثقافتنا لقرون طويلة ، فيما أدى توقيرها والتمسك بها ، وإضفاء القداسة عليها والإصرار على إعادة إنتاجها ، إلى دخول ثقافتنا العربية والإسلامية نفقاً مظلماً أسفر عن مأزقها الراهن في هذه الحقبة من تطور عصرنا وحضارته الحديثة. وبوسعنا القول إن الاهتمام بإحياء الاتجاهات المحافظة والمتشددة والانقسامية في التاريخ الإسلامي يعود في تقديرنا إلى الظروف التي مر بها المسلمون في حقبة الغزو الصليبي وحقبة الغزو المغولي ، وصولاً إلى السيطرة العثمانية التي سبقتها سيطرة السلاجقة ، وما رافق ذلك من هدم للبنى الثقافية الحضريـة ، وتصفية لكنوز المعرفة العلمية ، وتراجُع مكانة المدن والبيئات الحضرية ، مقابل هيمنة ونفوذ البيئات البدوية والثقافة القبلية ، وصولاً إلى الانقطاع التام عن إبداع الحضارة والسقوط المريع في هاوية التخلف والاستعمار والهيمنة الامبريالية!!.
و لا ريب في أن الفكر الإسلامي بوصفه نتاجاً موضوعياً للتفكير بواسطة العقل ، يعد المكون الرئيسي لثقافتنا العربية والإسلامية، بسبب الدور الذي يضطلع به هذا الفكر في إنتاج المعرفة بالدين على مستوى الوعي الاجتماعي ، وصياغة المفاهيم التي يتم من خلالها تجسيد السلوك الاجتماعي الذي يعكس مستوى فهم الناس في المجتمع لمحتوى العقيدة الإسلامية ورسالتها ومقاصدها . ولعل تنوع تيارات الفكر الإسلامي يفسر بالضرورة ذلك التنوع الواضح في طرق فهم المجتمع لهذه العقيدة ، وغلبة طريقة محددة في التفكير قد تكون معتدلة أو متشددة أو وسطية أو منفتحة في فهم الإسلام على غيرها من الإفهام ، وما يترتب على ذلك من انعكاسات ايجابية أو سلبية على البعد الثقافي كفاعل حضاري .
يبقى القول إن صعود وهــبوط الحضارة الإسلاميـة في أزمنة مختلفة ، لا يعكسان ـــ بالضرورة ـــ ديناميكية العقيدة الإسلامية في مرحلة تاريخية معينة وجمودها في مراحل أخرى، بحسب زعم بعض المستشرقين في عصر ظهور الاستعمار وحقبة الحرب الباردة، بيد أنهما يعكسان المتغيرات التي تحدث في البيئة التاريخية المحيطة بالعقيــدة ، ومستوى قدرة مفاعيل المجتمع المختلفة - وفي مقدمتها الفكرية والثقافية - على التعامل مع التحديات التي تنشأ على خلفية تلك المتغيرات . وبتأثير ذلك تصادمت النزعة النقلية مع الوظيفة النقدية للعقل والطابع الجدلي للتفكير، وتعارضت بشكل حاد مع دور الأفراد ومبادراتهم العقلية ومناشطهم العلمية في مجرى إبداع و إنتاج الحضارة ، ذلك الدور الذي كان ملمحاً رئيسياً للحضارات المزدهرة قبل الثورة الصناعية، حيث كانت التجارة حافزاً رئيسياً للإنتاج الزراعي والحرفي ، و أحد مصادر نظامها القيمي المرتكز على فكرة الحرية .
هوامش على أسوأ فيلم أميركي
أخبار متعلقة