في حرب 1994م، لم يفرح أحد من الجنوبيين بهزيمة الحزب الاشتراكي بقيادة الرئيس علي سالم البيض بمثل ما فرح "المتدينون"؛ فتاريخ الاشتراكي في الجنوب، متوشح بالسواد، بل في أيام الحرب المذكورة، كانت الآلة الإعلامية لاتجاه البيض الداعي للانفصال وفك الارتباط عن الشمال، تتوجه بشكل قوي إلى المرجعيات الدينية والشخصيات الدعوية، وطاردت قياداته بعض المشايخ وهددتهم؛ فاضطر عدد منهم إلى السفر إلى الخارج، أو الاختفاء خوفا من أن يمسهم أذى الاشتراكيين.
انتصر الرئيس السابق علي عبد الله صالح، على شريكه ونائبه في أول مجلس رئاسي لدولة الوحدة، انتصارا لم يكن بعيدا عن دعم سلفيي الشمال، المتمثل خصوصا بالجهاديين الذين رجعوا من أفغانستان، إضافة إلى الإخوان المسلمين، الذين كانوا العنصر الأساس في الانقضاض على الاشتراكي، والانتصار عليه في معركة فك الارتباط التي يخشاها غالبية الشمال بدءا بشيوخ القبائل وبالساسة والمثقفين، إلا النزر القليل الذين تفتقت عقولهم على أحوال الفكر الإنساني وتحولاته وخياراته المشروعة.
في عهد الوحدة اليمنية، انتعشت السلفية وازدهرت، ثم انتشرت علميا ودعويا وخيريا، وأصبح لها مراكز علمية شرعية، ومؤسسات خيرية ومنابر جمعة في كل محافظة ومدينة وقرية، خصوصا في الجنوب الذي لم يعرف طوال فترة حكم الاشتراكي مثل هذه المظاهر، بحسب ذلك الزمن الذي يعيشه، والأيديولوجية الفكرية التي ينتهجها، فهو يرى: أن كل مظهر من مظاهر الانتشار الديني الأيديولوجي هو رجعية وتخلف وعصور وسطى يصعب عليه السماح لها أن توجد، بله أن تتحرك!!
هذه مقدمة مهمة لما سيأتي من الحديث عن موقف سلفيي اليمن تجاه قضية الجنوب؛ ومن هنا، يتضح جليا، أن سلفيي اليمن أغلبهم، بل جلهم مع الوحدة اليمنية،؛ فشيوخ جمعيتي الإحسان والحكمة الخيريتين، وائتلافاتهم الدعوية للتغيير، ودار الحديث بدماج ومن تابعهم من ائتلافات الدعوة والتغيير، ومعهم حتما "سلفيو ولي الأمر" بصعدة أتباع الشيخ مقبل الوادعي - رحمه الله -، وقفوا موقفا مناوئا من أية دعوة للانفصال أو فك الارتباط، بل رفض بعضهم -وبقوة- الدعوة إلى الفيدرالية كحل مرحلي للقضية الجنوبية، ومن ثم يعطى الأمر للجنوبيين لتقرير مصيرهم، وحجتهم كما يقول فيصل البعداني عضو هيئة تحرير مجلة "البيان" سابقا: "إن تحويل المطالب العادلة بتصحيح الأخطاء ورفع المظالم العامة والخاصة إلى حراك سياسي داع للتمزق، وتمكين التغريب، واستنبات الحقد والكراهية بين أبناء الشمال والجنوب، وقال إن الحراك الجنوبي تدعمه دول إقليمية تسعى لمصالحها ولا يهمها تفكيك اليمن وتخلفه أو تطوره، وأن قيادة الحراك الحالية تنبئ عن قيام دولة ليبرالية علمانية وليست إسلامية.
أما حزب الرشاد السلفي الذي يتزعمه اثنان من أقطاب "الإحسان الخيرية"؛ د.محمد العامري البيضاني وأمينه العام الشيخ الحميقاني، فأشار في بيان تأسيس الحزب بـ"تكليف اللجنة التحضيرية لإعداد رؤية سياسية شاملة لتقديمها إلى مؤتمر الحوار الوطني تشمل كافة القضايا الوطنية وفي مقدمتها القضية الجنوبية"، وهو يدل على أن الحزب السلفي الوليد ومن فيه من القيادات السلفية لم يبحث أمر القضية الجنوبية ولم يتصوروها التصور الكافي، لأنهم كانوا في غياب تام عما يعتمل في الساحة السياسية في اليمن وبالأخص الجنوب!
على الرغم من أن سلفيي الجنوب والشمال، وجهان لعملة واحدة، فالكل في منظومة منهجية علمية شرعية واحدة، فإذا عطس سلفي من صنعاء شمته من في المكلا وعدن ومأرب، إلا أن الواقع وفقهه ومتابعته والتعايش معه ألزم سلفيي الجنوب بقراءة جديدة له، والأخذ بجدية للمعطيات على الشارع؛ نظرا لدخولهم ووجودهم بين الناس في تعاملاتهم ومعاناتهم ومصابهم. لقد رأوا مظاهر جديدة ومتجددة خلال عهد الوحدة، فلم يتحقق ما كانوا يأملونه بانتصار "الشرعية الدستورية" على "الاشتراكية الانفصالية". بل رأوا ما هو أسوأ من ذي قبل. فقد تم التضييق عليهم، ومتابعة أعمالهم بدقة وتأخيرها، ومحاصرتهم في دوائر ضيقة بحجة محاربة التطرف والإرهاب، ناهيك عن انتشار الرشوة والمحسوبية والسرقة والنهب والشفط لثروة الجنوب، واختلال الأمن وضياع حقوق الجنوبيين بسطو المتنفذين عليها، وغياب هيبة الدولة، وصنمية الحاكم، وحكم المنافقين والرويْبضات، وتراجع في معيشة الناس، وانتهاء العدل والقانون، وسيادة حكم القبيلة الجاهلية البعيد تماما عن حكم الإسلام الذي كانوا يأملونه ويشتاقون للعيش في كنفه.
فالواقع في الجنوب شيء، وفي الشمال شيء آخر، وهذا الذي فهمه الشيخ حسين بن شعيب رئيس "الهيئة الشرعية للجنوب العربي" الذي عاش في كنف الشماليين سنين عديدة، وعمل في مراكز السلفيين العلمية والدعوية، ورأس تحرير مجلة "المنتدى" الصادرة عن "الحكمة الخيرية"، ثم وجد تهميشا من زملائه السلفيين، وحاصرته دولة الوحدة اليمنية، فحينما ذهب إلى دمشق لسفر شخصي اتفقت مع نظام بشار الأسد لاعتقاله بحجة دعمه لتنظيم القاعدة والتواصل مع أعضائه، فتم إيداعه في السجن المركزي في صنعاء، وظل فيه فترة، كانت كفيلة بتغيير رواسخ فكرية لديه، فانتقل بطرح جديد ورؤية حديثة للانتقال من واقع متهتك ومحطم، إلى واقع مستقبلي خرج من خلالها إلى التوافق مع الحراك الجنوبي في مطالبه بفك الارتباط عن دولة الشمال والرجوع بالجنوبيين لدولتهم السابقة. وعلى نفس الطريق المناوئ لمفهوم الوحدة الحالي، نهج آخرون نهج المعارضة السلفية في الجنوب، ومنهم الشيخ عبدالرب السلامي وهو رئيس فرع الإحسان الخيرية بعدن وأسس مع مجموعة من الشيوخ وطلاب العلم حركة "النهضة الجنوبية السلفية"، دعت بوضوح إلى حق تقرير الجنوبيين لمصيرهم كما في رؤية الحركة التي تضمنت مفهوم قضية الوحدة اليمنية و البعد الداخلي الجنوبية، والموقف من خيارات الفيدرالية وفك الارتباط ومشروع الأقاليم، فترى "النهضة" أن الخيار الأمثل لحل القضية الجنوبية هو خيار إعطاء الأولوية للمطالبة(بحق الشعب الجنوبي في تقرير المصير).
وأما المشايخ الآخرون في الجنوب فبين موافق لرأي النهضة، ومتردد في البوح برأيه وآخر متوسط؛ فهو من جانب محافظ على الوحدة، ومن جانب آخر يحترم رأي شعب الجنوب ويقدر معاناته.
حال السلفيين اليوم، إزاء القضية الجنوبية، منازلات ومعارك تنشب بين مؤيد للوحدة وداع لاستمرارها، وبين داع لفك الارتباط أو الفيدرالية، فامتلأت صفحات "الفيسبوك" لكل فريق، بكم لا بأس به من التعليقات والحوارات وصلت إلى حد التشنج والتهديد والدعاء بالويل والثبور والتخويف من الإثم والجرم والعذاب الأليم! وكأن المسألة أصبحت ذات بعد عقدي ومجمع عليها، وأصبح الانفصالي المخالف للطرف الوحدوي مرتكبا أكبر الكبائر وأعظم العظائم!! وهي لا تعدو مسألة خلافية قابلة للأخذ والرد، وما الوحدة والانفصال إلا وسائل سياسية ليعيش الناس في الحياة بنظام سياسي ينظم شؤون حياتهم المعيشية، ويحافظ على أمنهم واستقرار وطنهم كي يسود في ربوعه العدل والنظام والقانون.
لقد امتحنت القضية الجنوبية سلفيي اليمن، فكأني بهم سيخرجون من هذا الامتحان العسير، وهم أكثر تفككا وانقساما، إذا لم يعقدوا تصالحا فيما بينهم، يلم شتاتهم، ويرأب الصدع بينهم. فهل يتدارك سلفيو اليمن أمرهم، من خلال توافقهم على حلول متقاربة تجمع شملهم ولا تفرقه، حتى وإن فرقتهم توجهاتهم السياسية؟
|
طه بافضل
سلفيو اليمن والقضية الجنوبية
أخبار متعلقة