تعاملت الولايات المتحدة ببرود مع أنباء عن اقتحام سفارتها في طرابلس مطلع الأسبوع المنصرم. وبين نفي السفيرة ديبورا جونز واعتراف مصادر رسمية في الخارجية الأميركية بدخول مقاتلين من «فجر ليبيا» إلى مبنى ملحق بالسفارة، يمكن أن نقرأ ما بين السطور ثقة واشنطن بأن مصالحها غير مهددة في ليبيا.إن لم يكن هذا الموقف عقلانياً فهو براغماتي إلى أقصى حد، ويشكل بلا شك استمراراً لنهج عبّرت عنه الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا في بيان مشترك، يعكس معارضتها تدخلاً خارجياً في ليبيا، باعتبار أنه «يفاقم الانقسامات ويقوض التحول الديموقراطي في البلاد».موقف الإدارة الأميركية الذي تعززه تسريبات إلى وسائل الإعلام، يتركز على الانتظار لرؤية الطرف الذي سيتمكن من الحسم على الأرض، تمهيداً لمد اليد إليه، والتعامل معه بما يخدم مصالح الغرب.ويبدو أن واشنطن لا تؤخذ بالتوصيف البسيط للصراع على أنه بين قوى متشددة وأخرى معتدلة، بل إن الأميركيين يذهبون أبعد من ذلك في تحليلهم نتائجَ الصراع، على أن من شأنه إنهاك الأطراف المسلحة وإفراز قوة ثالثة لا يكشفون في شكل دقيق عن طبيعتها.أبرزت العقلانية الأميركية التي لا تخلو من غموض، تناقضاً بين الموقفين الأميركي والعربي، في قراءة مغزى الصراع في ليبيا، ويبدو من ابتعاد الأميركيين عن سرعة الاستنتاج بأنه بين اعتدال وتطرف، أنهم مدركون تعقيدات أبعد للأزمة، وأنهم يستشفون ملامح تباينات في مواقف دول الجوار الليبي.قد لا تكون الولايات المتحدة راغبة في الانجرار وراء الشعار الفضفاض الذي أطلقه اللواء المتقاعد خليفة حفتر حين أعلن أن حملته تستهدف «مكافحة الإرهاب»، لأن ذلك يقتضي الغوص في مستنقع ساحة حرب مفتوحة مع قوى التشدد يُخشى أن تؤدي إلى سقوط ليبيا كلياً في قبضة هذا التشدد... وتشدد في المقابل تبديه قوى «الثورة المضادة» التي أقحمت نفسها في تحالف مع حفتر، ما جعل «قوى التغيير» أسيرة تحالف مع الإسلاميين والمتشددين. وتراهن واشنطن على أن حسم الصراع لمصلحة «قوى التغيير» سيفرز صراعاً بين الإسلاميين المتشددين وأولئك الذين تصفهم بالمعتدلين وترى أنهم يحملون مشروعاً مشابهاً لصيغة «تركيا - أردوغان» إن لم يكن استنساخاً له.هنا تكمن صعوبة التبسيط في قراءة الصراع، باعتبار أنه ليس جهوياً ولا قبلياً ولا أيديولوجياً، وقد لا يكون ممكناً في هذا الإطار استحضار وقائع الأحداث التي شهدتها مصر، خصوصاً مع أخطار تحول الانقسام في ليبيا جغرافياً، ما قد يدفع الدول المجاورة لها غرباً، إلى صوغ مفهوم خاص بها، قائم على نظرية الحكومتين الجزائرية والتونسية المتحفظة عن الدخول في مواجهة مباشرة مع التشدد طالما أن أخطاره خارج أراضيهما.من هنا أيضاً، يمكن تفهم هواجس مصر من وجود رؤية أميركية - أوروبية خلاصتها ترك ليبيا تتحول إلى صومال جديدة ما دام الصراع سيكون بعيداً من الغرب ولا يؤثر في مصالحه، في حين ترى القاهرة أن لهذا الصراع انعكاسات جدية على أمنها القومي.ولا يبدو الغرب مستعداً حالياً للقيام بما هو أكثر من ممارسة وسائل الضغط التقليدية، مثل التهديد بفرض عقوبات على الأطراف المتحاربة لاحتواء التصعيد وإدارة الصراع، وهو نهج إدارة الرئيس باراك أوباما في أكثر من مكان في العالم.
أميركا و «إدارة الصراع» في ليبيا
أخبار متعلقة