المستشرق الفرنسي الدكتور فرانسوا بورجا
نجمي عبدالمجيدما بين تعدد الاتجاهات في ظاهرة الإسلام السياسي وقراءة أفكار أطراف هذا العمل، يقدم لنا الباحث والمستشرق الفرنسي الدكتور فرانسوا بورجا في كتابه هذا، ما يذهب إليه العقل الغربي في رؤيته لجانب من أزمة العقل السياسي - الإسلامي، فهذا الكتاب الصادر عن دار العالم الثالث عام 2001م ترجمة الدكتورة لورين زكري وقدمه الباحث الدكتور نصر حامد أبو زيد، تنصب محاوره حول الشمال الأفريقي، تونس والمغرب والجزائر وليبيا. وهو بهذا قد تحدد للباحث الفرنسي خط مساره الجغرافي لقراءة العلاقة بين الدين والسياسة في المستعمرات الفرنسية السابقة، وليبيا التي كانت تحت الاحتلال الإيطالي وبعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية سلمت حسب الاتفاق بين دول المحور والحلفاء إلى بريطانيا .يقول الدكتور نصر حامد أبو زيد في مقدمة هذا السفر الرابط بين الدين والسياسة: (هذا الكتاب الذي نقدمه للقارئ العربي كتاب هام من عدة زوايا أولها: أنه يقدم ظاهرة الإسلام السياسي من منظور المراقب الغربي، أي الباحث الخارجي الذي تتمتع رؤيته بدرجة من الموضوعية قد لا تكون متاحة بنفس القدر من الوضوح للباحث العربي المسلم - سواء كان هذا الأخير متعاطفاً مع الظاهرة أم كان معارضاً لها. الباحث هنا في هذا الكتاب محايد إلى حد كبير، أي بقدر ما تسمح به حدود الموضوعية الإنسانية التي لا ينتفي فيها الانحياز انتفاء مطلقاً.الزاوية الثانية أنه عن ظاهرة الإسلام السياسي في المغرب العربي. ورغم أن الظاهرة في مجملها تتمتع بخصائص متشابهة في كل أنحاء العالم العربي والإسلامي، فإن الخصوصيات المحلية غائبة إلى حد كبير، وذلك بسبب عمليات التعتيم الإعلامية في كل إقليم عربي لما يحدث في الإقليم، خاصة إذا كان مرتبطاً بظاهرة الإسلام السياسي، إلا فيما يرتبط بأحداث «العنف». ومن هذه الزاوية يتطابق الإعلام العربي مع الإعلام الغربي - والفرنسي خاصة - في تصوير الظاهرة في صورة «العفريت» أو «الشيطان» الذي يهدد التقدم والحضارة والمدنية. من هنا نرى أن الكتاب هام للقارئ العربي وخاصة في المشرق، ليتمكن من فهم الظاهرة بعيداً عن التصدير الإعلامي المغرض لها.الزاوية الثالثة: أن الكتاب ليس بحثاً في الأيديولوجيا أو اشتباكاً مع مقولات مفاهيم، بقدر ما هو بحث في الفاعلية الحركية السياسية والاجتماعية.وهو أمر مفتقد إلى حد كبير في الكتابات العربية التي تدخل مباشرة في سجال فكري مع أو ضد، ولا تهتم إلا قليلاً بجانب الفعالية السياسية، وليس معنى ذلك أن الباحث في هذا الكتاب يتجاهل البعد الإيديولوجي تجاهلاً تاماً، لكنه يتعرض له بالقدر اللازم لتفسير الفعالية السياسية، والقدرة على التعبئة يتمتع بها الإسلاميون في حركتهم. من هذه الزاوية الثالثة رأينا أن الكتاب يهم قطاعاً كبيراً من القراء.. يتجاوز القطاع المحدود الذي يهتم بمتابعة السجال الفكري والخلافات الأيديولوجية.الزاوية الرابعة أن الكتاب يعتمد اعتماداً أساساً على شهادات زعماء الحركات الإسلامية في دول المغرب العربي. وهي شهادات مسهبة حرص المؤلف على إيرادها كاملة، الأمر الذي يضيف للكتاب بعداً وثائقياً يجعله هاماً للباحثين المتخصصين في تحليل الفكر والخطاب، وذلك إلى جانب أهميته للقارئ العادي كما أشرنا في الفقرة السابقة.والكتاب بالإضافة إلى ذلك كله يكاد يتناول الظاهرة من جوانبها المتعددة فيبدأ منذ الفصل الأول بمناقشة «صعوبة التسمية» متناولاً كل الأسماء ودلالاتها.وفي الفصل الثاني يكشف عن أسباب ميلاد الظاهرة ونموها في صيرورة المجتمع العربي ذاته حال انتقاله من تقليديته إلى خضوع للاستعمار والالتقاء بأوروبا، ثم نضاله ضد هذا الوجود الاستعماري بكل ما يمثله من قيم ورموز، ثم ميلاد الدولة القومية وفشل المشروع القومي وميلاد الإسلام السياسي مشروعاً بديلاً.ويخصص الفصل الثالث لمناقشة الآليات الخاصة لظاهرة الإسلام السياسي وكيف انتقلت من الخطبة، المسجد، إلى الانتخابات، الحياة السياسية).صدر هذا الكتاب بالفرنسية عام 1988م وفي العربية الطبعة الأولى عام 1992م، وهذا ما يجعل محورية هذه المواضيع مرتبطة فكرياً في إطارها الزمني، وأنها في الراهن تمتد في صلب المأزق الذي يمر به الإسلام السياسي، فكل ما يطرحه علينا المستشرق الفرنسي يوضح إلى أي المسارات وصلت إليها العلاقة بين المقدس والسياسي، ومدى الدور الذي تلعبه عملية التخيل العقائدي في رسم أطر لمشروع هو في الحاضر لا يمكنه الخروج عن ركائز المجتمع المدني.مما يقوله فكرياً الدكتور فرانسوا بورجا عن هذه الحركات الإسلامية، أنها من التاريخ تستمد مرجعيتها في تسخير أهدافها، وهي في نفس الوقت تدرج بأن الواقع يخلق مسافات زمنية لا يمكن لأي مشروع ديني القفز عليها، لأنها تدخل في قوانين حركة المجتمع وذلك ما جعل ظاهرة الإسلام السياسي تدخل دوائر التصدعات الأرضية التي تقف عليها، فالفراغ السياسي الجاري في المجتمع بفعل غياب الدولة عن قاع الحياة، لا يعني أن السلطة القمعية للحكم قد تركت مصير السيادة لهذه الجماعات.كذلك تعود قضية طرح البدائل والخروج من مأزق الأزمات، هل يكون الحل بوصول جماعات الإسلام السياسي للحكم؟إن كان الهدف هو هذا، فما هي الرؤية العصرية في اتصالها مع حضارات العالم.هنا تظهر حالات من التقلب في مفهوم السير من زاوية الذاتية في العقيدة، إلى موضوعية الآخر، فالنفي هنا لا يصبح إثباتاً للفردية في العمل وإلغاء للغير من دائرة الحضور، بل يدخل هذه الفردية في تصادم مع مشروعها لأنه يتكون بعيداً عن حركة التاريخ، وفي إسقاط هذا الشرط تظهر المحنة بين الديني والسياسي في عمق هذه الظاهرة - الإسلام السياسي.من راشد غنوشي إلى عباس مدني، وحميدة النيفر وصلاح الدين الجورشي، إلى صالح كركر وعبدالكريم مطيع، شخصيات من هذا التيار إلى علاقات وفترات الصراعات السياسية بينها وبين حكام هذه الدول ودور القمع السلطوي الذي أفرز هذه الظاهرة، في هذا الجانب يقول الدكتور فرانسوا بورجا: (واجه خطاب الإسلام السياسي - باعتباره أيديولوجية معارضة - قدرة أو عدم قدرة، نظم الحكم على الاستجابة للمطالبة بالديمقراطية الناشئة وكان من المنطقي أن يتأثر بعد ذلك برد فعل الدولة تجاه بروز الإسلام السياسي على الساحة السياسية.كان جمود سياسة الحزب الواحد في الجزائر وسياسة نظيره الليبي، مع تحفظنا على شعارات وديمقراطية الجماهيرية المباشرة، بالإضافة إلى تأخرهما في إجراء عملية الانفتاح الأيديولوجي، دافعاً قوياً لظهور تيارات الإسلام السياسي.وفي الجزائر لم تصل رياح الليبرالية التي هبت على الاقتصاد، إلى النظام السياسي إلا بعد ما يقرب من عشر سنوات مما أدى إلى نشأة جيل من المواطنين المستبعدين المحبطين. وفي ليبيا أدى الإفراج عن الغالبية العظمى من المسجونين السياسيين إلى تعضيد الموجة الخافتة التي كانت تعيد طرح تساؤلاتها عن الإيديولوجية الجماهيرية. لم يكن هذا يعني أن الثقة استقرت، لأن طابع القائد - الذي يصعب إلى حد كبير توقع ردود فعله - قد دفع جزءاً كبيراً من القوى الفاعلة إلى سحب ثقتها بالنظام.وفي تونس، خرج تعدد الأحزاب من الساحة السياسية بعد أقل من أربعة أشهر من صدور المادة الثامنة من دستور 6 يونيو 1959م التي نصت على أن تطبيق تعدد الأحزاب يتوقف على إرادة السلطة التشريعية، وذلك عندما وضع قانون نوفمبر 1959م حرية التجمع تحت رقابة وزير الداخلية اليقظة.ظلت تونس تعيش خمسة وعشرين عاماً من الديمقراطية في ظل النظام الصارم للحزب الواحد.وكان الشيء الوحيد الذي يخفف - إلى حد ما - من صرامة هذا المناخ. هو السماح ببقاء اتحاد نقابي قوي «بين موجتين من القمع» وفي عام 1981م عاد إلى الساحة تعدد الأحزاب مبدئياً، غير أن آثار هذه العودة ظلت نظرية للغاية ولم تسمح الأحلام الشرعية لدى المعارضين المحتملين بالتعبير الحقيقي عن ذاتها. فلم يؤد انفتاح بورقيبة إلى أن يفقد الحزب الاشتراكي الدستوري مقعداً واحداً من المائة وخمسة وعشرين مقعداً التي يتكون منها برلمانه، أما القانون الخاص بالأحزاب الذي تبناه خليفته فهو يقوم على مبدأ استبعاد التشكيلات التي تنادي بالإسلام، وحتى الآن لا يبدو أن مثل هذا الموقف قادر على إجراء تعديلات ملموسة في قدرة الانتخابات على ضبط الحياة السياسية.وخلال عشرين عاماً صدر في المغرب ثلاثة دساتير وكل منها يترك مساحة تعبير للمعارضة على مستوى المؤسسات. ولكن الدستور الأول، الذي لم يصدر إلا بعد الاستقلال بستة أعوام، تم إيقاف العمل به بعد أقل من عامين من بدء التنفيذ الفعلي له. أما الدستور الثاني الذي صدر في يوليو 1970م فقد تم إلغاؤه بعد ثمانية عشر شهراً، ولم تصبح أحكام الدستور الثالث الخاصة بالمؤسسات البرلمانية سارية المفعول إلا بعد خمس سنوات من إصداره في مارس 1972م).يرى أحد قادة الإسلام السياسي علي بن حاج، إن رفض هذه الجماعات للديمقراطية منطلق من كونها تعتمد على رأي الأغلبية، ومعنى ذلك أنها تصبح هي المعيار الوحيد لما هو عادل ومعقول، وعلى هذا يرى أن الأحزاب والحكام يحاولون كسب العدد الأكبر من الناس حتى لو جاء على حساب الإيمان والكرامة.وفي جانب آخر من جوانب هذا الصراع يرى الدكتور فرانسوا بورجا بأن شخصية مناضل الإسلام السياسي هي من يصنع هذا الوجود الفعلي لمثل هذه الرؤية، وذلك يأتي من الأساس الاجتماعي الذي يحدد أشكال التعبير عن هذا التيار، غير أن الأحداث في هذا المسار تدفع إلى إدراج أنواع أخرى من العنف الاجتماعي ضمن صراعات وعنف الإسلام السياسي. وحول هذا الرأي يورد المؤلف وجهة نظرة المفكر المصري الدكتور حسن حنفي الذي يقول: (هناك تمييز أساسي - يتم التغاضي عنه دائماً - بين العنف والعنف المضاد. في أي فئة يمكن تصنيف العنف الأول؟ ومتى يبدأ العنف في مرحلته الثانية؟ إن من يسير في الشارع أو الجامعة ومعه سكين، ما هو سبب هذا الشكل من العنف؟ هل تعلم الظلم الذي يعيشه الطلبة؟ وكيف يستغلهم الأساتذة عن طريق بيع المحاضرات، وعدم وجود حرية التجمع، فالطالب محبط، وبالتالي فهو عنيف.هذا هو وضعه. وفي رأيي ليس الطالب أعنف الطرفين، بل الأوضاع. ولذلك يتمرد الطالب، إنه يتمرد لأنه لا يوجد حوار. إذا كان هناك حوار، إذا كنا نسأله عن رأيه، كما نستمع إليه.. ربما كان الخطاب في هذه الحالة وسيلة للتنفيس عن كل هذه الطاقة المحبطة. ولكن الوضع يتسم بالظلم والجور، ولا يوجد هناك حوار.. ولذلك تنفجر الأوضاع.هذا هو الموقف في كل مكان).وتطرح قراءات الدكتور فرانسوا بورجا رؤيتها حول المفاهيم والتصورات في هذه المساحة من منحة الديني مع السياسي، فهو يرى أن وظيفة الإسلام السياسي لا تنحصر في العودة إلى الأصول في العقيدة والثقافة، وإذا كانت هذه الأفكار تنادي بتلك الرجعة، فهي أيضاً أسلوب معارضة ومقاومة، وإذا كانت هذه الإيديولوجية في قبضة السلطة الحاكمة إلى حد ما، فهي تصبح في دائرة هذا التصادم وسيلة لمقاومتها. وهذا التمدد في الاتجاهات يسعى عبره الإسلام السياسي لتقديم معالجة اجتماعية (للجماعة) ويقدم أيضاً معالجة للاضطرابات الفردية وبالذات عندما تصل حالة الأزمة بما يتعلق بالهوية، وهو هنا يعد بمثابة الملجأ الذي يعيد لهم أعبار مرجعيته الانتماء التاريخي. تغرض المسافة الزمني بين ما يعالجه هذا الكتاب من ظاهرة الإسلام السياسي المتصلة بمرحلتها، وبين الوقت الحاضر، الأخذ بمجرى تطور الأحداث.غير أن وجهة نظر الدكتور فرانسوا بورجا تظل حالة مستمرة مع تصاعد الصراعات في الشرق الأوسط، ودخول جماعات الإسلام السياسي إلى حدود أعنف مع مجتمعاتها، كذلك يأتي انكسار هذا الاتجاه عندما جاء وقت المواجهة مع فعل السلطة، وذلك ما لم تدرك ظاهرة الإسلام السياسي، بأن هناك فرقاً بين المتخيل والواقع، وتلك محنة ظلت لعقود من الزمن تخلق ثنائية التناحر بين المقدس والسياسة، مما دفع بالجنوح إلى أقصى مسافات التطرف، وسوف تظل هذه المسألة جوهر التصارع بينهما.