نجمي عبدالحميد لا تترك لنا قراءة التاريخ بعض الردود على تساؤلات الراهن نحو الماضي، بل تفتح أمام العقل طرقاً للمقدرة على التفكير تجاه ذلك التغير من مسار الأحداث، وما تذهب إليه النتائج القادمة من عوامل الأزمات والتي هي الأخرى لا تصنعها المصادفات بل مراكز إدارة حركة التاريخ المواجهة لجانب من هذا التواكب في العلاقة بين الإنسان والحضارة.تظل قراءة التاريخ البريطاني في الشرق الأوسط ليست حالة استعادة لمرجعية من وثائق السالف، بل هي عملية إدراك لما رسم وفرض على تاريخ المنطقة، وفي هذا مكاشفة عند مساحة الحقائق بان إرادة الشعوب لم تكن هي من أسس هذا، لان الجغرافيا فقدت مقدرتها على حرية الاختيار وكانت تحت الوصاية، وفي ذلك لا تمتلك سياسة السيادة الوطنية حق تحديد المسافات بين الزمن والتاريخ، فيصبح سقوط المراهنات الذاتية حقيقة لا تعبر عن عجز طرف في دائرة لعبة الأمم، ولكن أيضا عن تسيد حقب من التاريخ لعب الغرب فيها دور المهيمن على الشرق. تقدم لنا مذكرات غلوب باشا (1897 ـ 1986) الشخصية السياسية والعسكرية والباحث في تاريخ الحضارة الإسلامية قراءات عديدة لواقع الشرق في مرحلة الحرب العالمية الأولى وما جرى بعدها من أحداث لعب هو فيها أدواراً مهمة من خلال موقعه كقائد بريطاني تعامل مع مسارات الصراعات والسياسة في المنطقة عبر معرفة تاريخها الذي لم يعتمد على قراءة المراجع بل جعل من البحث الميداني المعرفي بوصلة تحدد اتجاهات الزوايا المطلوبة في تنفيذ مخططات بريطانيا على هذه المساحات من مستعمراتها.وهنا نختار بعضا من تلك القراءات التي طرحها علينا غلوب باشا في مذكراته فهي وان تتكلم بكلمات الماضي فان معانيها تصل إلى راهن حال الشرق الذي رسم على جلده المشرط البريطاني حدود قطع عروق الجغرافيا والتاريخ.لقد وصل غلوب باشا إلى العراق عام 1920م وكان عمله مركزا في المنطقة الجنوبية، وإنما بما كانت تعرف باسم (منطقة الحياد) وتمكن بعد عمل ومثابرة أن يؤسس قوة عسكرية منظمة لحماية القبائل العراقية من الغارات التي تقوم بها القبائل النجدية السعودية، حتى تحقق له هذا الغرض وسيطر على الأوضاع، كما تحمل مهمات إدارية في عدة ألوية عراقية فكان الضابط البريطاني الذي يدرك معنى ما يعمل في حقبة دخلت فيها منطقة الشرق الأوسط تحت سياسة الانتداب، وقد حصل في نهاية خدمته في العراق على تكريم من ملك العراق فيصل الأول من خلال منحه وسام الرافدين، ومن ثم استدعي من قبل الحكومة الأردنية لقيادة الفيلق العربي وعمل في الأردن حتى عام 1956م، وبعدها عاد إلى بريطانيا ينصرف إلى البحث في تاريخ الشرق حتى تجاوزت مؤلفاته العشرين كتابا.وحول الأزمات وصراع القبائل في المساحة الممتدة ما بين العراق والسعودية يقول غلوب باشا: (ومهما يكن ليس في مقدور أية إدارة ذاتية محترمة أن تتقبل مثل هذا الوضع بصفة دائمة. وعلى هذا تقرر أن بني حجيم يجب أن يخضعوا لسيطرة الحكومة. كانت المنطقة واسعة جدا يمكن قصفها من قبل الطائرات برمتها في آن واحد، ولذلك تقرر أن يتخذ مثال من عشيرتين هما البركات والصفران- هاتان العشيرتان فرعان من فروع بني حجيم وقد تمردتا في وقت من الأوقات على الحكومة العراقية فأنذرتهما بوجوب الخلود في السكينة والإقلاع عن الأعمال التخريبية فلم ترتدعا فاضطرت الحكومة إلى استعمال القوة ضدهما واستعانت بطائرات القوة الجوية البريطانية في قصف مواطنهما فثاب رؤساهما إلى رشدهم واخلدوا إلى الهدوء- ولكن لا توجد خرائط تبين الأماكن التي تسكن فيها هذه العشائر، ولهذا طلب لي أن اعد واحدة من تلك الخرائط.ما أن بلغت السماوة ممتطيا صهوة جوادي حتى أنبأني القائم مقام بأنه يستحيل على ممثل الحكومة ان يزور العشائر التي كانت في ثورة. واعتمادا على شهامة العرب وطرح عباءة عربية على بدلتي العسكرية ركبت مع اثنين من الإعراب إلى قرية شيخ عشيرة البركات، ترجلنا عن خيولنا خارج المضيف ثم دخلنا إليه والقينا التحية فرد الحاضرون في المضيف على تحيتنا، وبذلك فهمنا أننا كنا في أمان ولذلك نزعت عباءتي العربية. ولقد دهش أفراد العشائر حين شاهدوا ضابطا بريطانيا ببزته العسكرية وما أن أصبحنا في المضيف آمنين حتى أخذنا نستمتع بحديث ودي وطويل مع أفراد العشائر.لقد ادى ذلك الوضع إلى قيام علاقات ودية حيث سمح لي أن ازور كل مشارب وقرى عشيرتي البكرات والصفران وان استمتع في كل مكان بالكرم والضيافة، وفي الوقت ذاته أكملت رسم الخارطة التي سوف تساعد القوة الجوية البريطانية على قصف تلك العشيرتين. ونظرا لانعدام صداقتهم للحكومة فقد شعرت باني مضطر إلى أن أنبئهم بذلك).مما يذكره غلوب باشا من أحداث العراق وما كان من صراع التوسع السياسي للسعودية، مرت سنتان 1925 ـ 1926م دون مواجهات بين قبائل العراق وجماعة القبائل المسلحة التابعة للملك عبدالعزيز آل سعود لأنه كان بعيدا في الحجاز حيث استولى على مكة والمدينة وجدة واخرج منها الشريف حسين والد فيصل الأول ملك العراق.عام 1926 عاد ابن سعود وقد تحقق لدى أتباعه من جماعة القبائل المقاتلة بأنهم هم الذين اقتحموا الحجاز وليس ابن سعود الذي لم يكن في ذلك الوقت يملك جيشا نظاميا وهذا الشعور دفع بتلك القبائل لرفض سلطة ابن سعود، ذلك ما أوجد مأزقا سياسيا له، فهو لا يود أن يثير خصومة بريطانيا له عبر شن غارة على العراق في شتاء 1926 - 1927م قامت تلك القبائل بغارات مكثفة على الرعاة العراقيين حتى وصلت إحدى تلك الغارات إلى منطقة لا تبعد غير (25) ميلاً عن محطة القوة الجوية البريطانية في الشعيبة خارج البصرة، ولو استمروا بالزحف لدمروا تلك المحطة. كان الملك عبدالعزيز آل سعود تقف أمامه بعض المشاكل، مثل مشكلة أشد القبائل المتطرفة والتي كانت تقوض سلطته وهما قبيلتا (المطير وعتيبة) ومشكلة أخرى لها في سياق التوسع على طول الحدود، وذلك ما كان قد فرض على جغرافية المنطقة، فإنه قد ظل لعدة سنوات، يبرر غارات قبائله على العراق، من أن البدو القاطنين في العراق كانوا هم الذين يغيرون على أراضي بلاده. وقد أشار غلوب باشا، إلى أنه لم يتم التوصل إلى حل في هذا الجانب، لأن ابن السعود لم يكن يسيطر على أتباعه، وكان من وجهة نظر غلوب باشا أن من المرغوب فيه مساعدة ابن سعود في بسط سلطته، لأن أي اخفاق في هذه المعادلة السياسية سوف يجعل الفوضى تعم الجزيرة العربية كلها، وكان يميل إلى منحه امتيازات أكثر مما كانت تقبل به الحكومة البريطانية أو العراقية، وفي هذا تظهر قراءة السياسة البريطانية للمشهد في المنطقة.ومما جاء في هذه المذكر ت يقول غلوب باشا: (استدعيت إلى القصر ببغداد لأتلقى توديعي الرسمي من لدن الملك فيصل، ولا تلقى منه وسام الرافدين. لقد كان الملك معروفاً بالنسبة إلى شرقي الأردن، لان الأمير فيصل هو الذي قاد القوات العربية التي شقت طريقها من العقبة إلى دمشق في الحرب العالمية الأولى، باعتبارها حليفة لبريطانيا.كانت تلك، بالطبع، هي الحرب التي نال فيها لورانس العرب الشهرة، وحقق فيها سمعته السيئة بتبذيره الأموال، وكلها من النقد الذهبي، على القبائل البدوية.وجه إلي الملك فيصل كلمة الوداع في صفة نصيحة فقال يخاطبني: لا تعط المال إلى البدو. ان في مستطاعهم ان يفعلوا كل شيء من اجل التكريم. أما ان تهبهم المال فإن ذلك سوف يحطم صفاتهم الخليقة.أقامت الإدارة الحكومية وسلطتها في المنطقة المزروعة وحدها، وكانت تضم مناطق معروفة مثل مواب وجليد التي وردت في التوراة وكان حاكم الأردن هو الأمير عبدالله أخوفيصل ملك العراق وابن الشريف حسين الذي طرده ابن سعود من مكة.في سنة 1924م اقتحمت قوة واسعة من الإخوان تضم الألوف من الرجال الأشداء، أراضي شرقي الأردن، ووصلت إلى مكان يدعي زيزيا على بعد عشرة أميال وحسب، من عمان حيث كان مستطاعاً احتلالها بعد فترة قصيرة، والقضاء عليها قضاء مبرماً. كانت للقوة الجوية البريطانية نقطة هبوط في زيزيا. وقد صادف أن كانت إحدى سيارات القوة الجوية البريطانية، التي تنقل الوقود إلى نقطة الهبوط، قد وصلت في اللحظة الحرجة. لقد شاهد سائق تلك السيارة نوعاً من معركة قائمة، ولذلك أسرع بالعودة إلى معسكر القوة الجوية البريطانية في عمان لينبئه بما كان يحدث. حلقت طائرات القوة الجوية البريطانية ، فصدت المغيرين، بإلقاء قنابل صغيرة عليهم، في الوقت الذي وصلت فيه السيارات المصفحة التابعة للقوة الجوية البريطانية إلى مكان الحادث. كان ألوف من راكبي الإبل، الذين كانوا يتقدمون في ريف مكشوف، قد وجدوا أنفسهم من دون حماية أمام السيارات المصفحة، ولذلك تلقى الإخوان هزيمة منكرة، حفظت شرقي الأردن في السنوات التي تلت ذلك من مذابح غارات كبيرة أخرى. كان من نتيجة ذلك أن بقيت العلاقات بين شرقي الأردن، وابن سعود من سنة 1926م حتى سنة 1930م في غمر حرب دبلوماسية. استمرت الغارات الصغرى من قبل كلا الجانبين، وكانت تلك الغارات تستهدف نهب الحيوانات، وليس ارتكاب المذابح، ومع ذلك بقي ابن سعود يحتفظ له في لندن بنهر متدفق من الشكاوى. تولت بريطانيا الاحتفاظ بالانتداب على شرقي الأردن، وكانت مسؤولة عن الدفاع عن حدوده، غير أنها كانت في الوقت ذاته تحتفظ بعلاقات ودية مع ابن سعود، ولذلك كانت شكاوى ابن سعود، يجري نقلها إلى شرقي الأردن بخبث إضافي. في هذا الإطار الدبلوماسي كانت حكومة شرقي الأردن هي المتضررة، لأنه ليست لديها السيطرة على صحاريها، وليست تعرف بما كان يجري هناك، ولم تستطع أن تفند اتهامات ابن سعود، أو أن ترد باتهامات مضادة لغارات سعودية كانت متواصلة تماماً لأنه ليست لديها اية فكرة عما كان يحدث). في عام 1921م ظهرت شرقي الأردن بسبب تفكك الخلاقة العثمانية، وهو نفس العام الذي ظهرت فيه دولة العراق ونصب الملك فيصل الأول حاكماً عليها، وكان كل ذلك تحت الانتداب البريطاني. ولكن بعض المصادر التاريخية تذكر بأن شرقي الأردن يعود إلى قبل عام 1918م فقد كانت الأراضي التي قامت فيها إمارة شرقي الأردن جزءاً من ولاية دمشق ضمن حدود الخلافة العثمانية. وفي 1918م دخلتها القوات البريطانية والقوات العربية التي قاتلت إلى جانب دول الوفاق بما عرف بالحلفاء، وقد دخلت مع أراضي سورية الحالية تحت حكم الأمير فيصل الأول الذي نادى بنفسه ملكاً على سورية الشرقية عام 1918م بموافقة بريطانيا. بعد الحرب العالمية الأولى أدرجت كل هذه الأراضي ضمن صك الانتداب البريطاني على فلسطين الذي حصلت عليه في مؤتمر سان - ريمو في شهر ابريل 1920م، وقد صادق عليه مجلس عصبة الأمم بتاريخ 24 يوليو عام 1922م. تدل هذه القراءات على أن تاريخ الشرق الأوسط الحديث سياسياً وليد لعبة الأمم المدارة في دائرة صراع المصالح على هذه المنطقة. لذلك لانتجاوز حقائق الأحداث عندما ندرك مقدار الدور البريطاني في تأسيس العديد من الكيانات السياسية والتي عرفت باسم الدول العربية، ولعل أخطر ما تركته الإدارة البريطانيا في المنطقة، تحويل القبائل إلى دول، وجعل القائد العسكري رجل دولة وتحويل العشائر إلى جيوش، حتى تظل مساحات الصراع متسرعة بعد رحيل بريطانيا. .
|
ثقافة
مذكرات غلوب باشا .. حياتي في المشرق العربي التاريخ والسياسة البريطانية في الشرق الأوسط
أخبار متعلقة