الدراسات العليا ومتطلبات المجتمع والعصر
من المعلوم أن الحاجة إلى تأهيل أعضاء هيئة التدريس المساعدة كانت من أهم الأسباب التي دفعت جامعة عدن والجامعات اليمنية الأخرى إلى فتح برامج الدراسات العليا. وقد حصرت جامعة عدن، في البدء، القبول في تلك البرامج، لاسيما الدكتوراه، في أعضاء هيئة التدريس وهيئة التدريس المساعدة. وربما لهذا السبب أخذت برامج الدراسات العليا في جامعة عدن نمطا يركز على الجانبين المعرفي والبحثي، ولم تلتفت كثيرا إلى الجانب التطبيقي الذي يمكن أن يربط منتسبي الدراسات العليا بالمحيط المهني والوظيفي خارج إطار الجامعة. وفي اعتقادنا لا تتفق هذه الفلسفة بالضرورة مع الأهداف الاستراتيجية للدراسات العليا، ولا مع أهداف جميع الملتحقين والمستفيدين من برامج الدراسات العليا، لاسيما الماجستير، أو لنقل إنها لا تمثل سوى جزء يسير من تلك الأهداف. فمن ناحية، هناك إداريون ومهندسون ومحامون وصحفيون التحقوا - أو يرغبون في الالتحاق- ببرنامج الدراسات العليا ليس بهدف التحول إلى البحث العلمي كمهنة دائمة، بل لاكتساب قدر أكبر من التدريب والمعرفة والمهارة في مجال تخصصهم ومن ثم الحصول على وظيفة أو موقع أعلى وظيفياً. ومن المؤكد أن جميع هؤلاء الموظفين/الطلبة لن يتوجهوا بالضرورة بعد إنهاء الماجستير أو الدكتوراه إلى شغل مناصب أكاديمية أو ذات طبيعة بحثية نظرية.ومن ناحية أخرى، من الواضح أن الشهادة الجامعية الأولى لم تعد كافية للحصول على التأهيل المطلوب للولوج إلى سوق العمل، وبات من اللازم على كثير من حملة البكالوريوس الالتحاق ببرامج الدراسات العليا لاستكمال تأهيلهم والحصول على وظيفة.ولكي تنجح جامعة عدن في خلق أساس متين للنهوض بالدراسات العليا وتمكينها من رفد المجتمع والقطاعين العام والخاص بخريجين قادرين على تلبية متطلبات المجتمع بمختلف قطاعاته نقترح مراجعة الخطط الدراسية لبرامج الدراسات العليا، وإعادة صياغتها لتصبح وسيلة لتحقيق إضافة علمية ومهنية يقتنع بأهميتها القطاع العام والقطاع الخاص.فواقع الحال في عدد من كليات جامعة عدن يبيّن لنا أن الخطط الدراسية لبرامج الدراسات العليا تركز كثيرا على المساقات المعرفية والمنهجية في الفصلين الأول والثاني (المرحلة التمهيدية). وفي معظم الأحيان تغيب العلاقة الملموسة والمتينة بين موضوع الرسالة، التي يقضي الطالب في إعدادها فصلين دراسيين على الأقل، وبين قضايا التنمية في البلاد. وفي كثير من الحالات ليس هناك ما يجبر الطالب على الخروج من دائرة الكلية إلى المجتمع أو المحيط الاقتصادي الذي يعمل أو سيعمل فيه، إذ أن موضوع رسالته لا يلزمه بالقيام بدراسات تطبيقية ميدانية. وبما أن الدراسات الحديثة تشير إلى أن طالب الدراسات العليا الذي تتوفر لديه خبرات ميدانية وظيفية يمارسها أثناء دراسته يستطيع استثمار وتطبيق علومه الجديدة في ميدان عمله بطريقة أفضل من الطالب الذي يحرم من مثل تلك المزاوجة بين النظرية والتطبيق، فأننا نرى أن تعاد صياغة الخطط الدراسية لبرامج الدراسات العليا في جامعة عدن، بهدف تمكين تلك البرامج من تلبية متطلبات تأهيل ليس أعضاء هيئة التدريس المساعدة فقط، لكن أيضا متطلبات تأهيل جميع الراغبين في الالتحاق ببرامج الدراسات العليا، أي أن علينا أن نأخذ بعين الاعتبار المهارات والمعارف التي يحتاجها الطالب/الموظف الذي سيعود إلى مزاولة مهنته القانونية أو الصناعية أو الإدارية، وكذلك الطالب/الباحث عن وظيفة جديدة. وفي هذا السياق، يمكننا أن نستفيد من تجربة نظام التعليم العالي الأوروبي، الذي فرض على جميع الجامعات والأوربية اعتماد نوعين من برامج الماجستير: ماجستير بحثي (Master Recherche)، يهدف إلى تأهيل الطالب الذي يسعى إلى مزاولة المهن البحثية أو التدريسية/البحثية في المقام الأول، (علما أنه حتى هذا النوع من الماجستير يتضمن دورة تدريبية تمتد لفصل دراسي - من الفصول الأربعة التي يتكون منها البرنامج- يقضيه الطالب في إطار فريق بحثي. وبعد ذلك يقوم بإعداد رسالة تشكل جزءا مهما من عملية التأهيل)، وماجستير مهني (Master professionnel)، يهدف إلى توفير تأهيل لوظيفة محددة، ويرتكز على خلق علاقة متينة وطويلة مع عدد من الشركاء من مختلف القطاعات (مؤسسات اقتصادية وإنتاجية وإدارية، جمعيات ومنظمات مدنية ودولية ..إلخ). ويتضمن هذا البرنامج القيام بدورة في مؤسسة أو منشأة قريبة من طبيعة الوظيفة التي يستهدفها التأهيل، وتكلل هذه الدورة بكتابة تقرير أو رسالة والدفاع عنه أو عنها. وبالنسبة لنا، وعلى الرغم من تسليم الجميع بضرورة توثيق العلاقات بين المجتمع وبين الدراسات العليا والبحث العلمي في المؤسسات الجامعية، يُلاحظ أن هناك حلقة ضعيفة (كيلا نقول مفقودة) بين الجامعة وبين المجتمع، لاسيما القطاع الخاص، إذ أن غالبية الدراسات والبحوث التي يقوم بها الطلبة وأعضاء هيئة التدريس تظل في معظم الأحيان حبيسة الأدراج بسبب عدم تصديها للمشكلات الفعلية التي يواجهها المجتمع في الوقت الراهن. ولكي تكتسب برامج الدراسات العليا في جامعتنا الصبغة الوظيفية التي تحدثنا عنها ينبغي علينا وضع إستراتيجية واضحة وفعالة للشراكة، أي لاتصال الجامعة (على مستوى الأقسام العلمية والكليات وليس مركزيا) بالمؤسسات الإنتاجية والتربوية والاجتماعية والثقافية، حكومية وغير حكومية، وذلك بهدف التنسيق والتعاون في تحديد ملامح التأهيل المطلوب. فقد أظهرت تحليلات الوضع الراهن أن مستوى التكامل والتفاعل بين مؤسسات التعليم العالي والقطاع العام والقطاع الخاص بالتحديد ما زال متدنيا، مما يضعف مقدرة القطاع الخاص على استيعاب وتوظيف أعداد كبيرة من الخريجين والخريجات. وإذا كانت هناك عادات اجتماعية وثقافية تجعل القطاع الخاص في اليمن ذا طابع عائلي فأن التغيرات التكنولوجية والاقتصادية العالمية بدأت ترغم هذا القطاع على الاعتماد تدريجيا على عناصر مؤهلة تأهيلا علميا وعاليا. ومن المؤسف أن بعض مؤسسات القطاع الخاص في اليمن لا تزال تعتمد على بعض العناصر الأجنبية لعدم اقتناعها بفاعلية خريجي الجامعات اليمنية. ولكي يتم تفعيل التواصل بين التعليم العالي ومؤسسات القطاع الخاص أرى أنه من الأهمية بمكان دراسة متطلبات التنمية واحتياجات سوق العمل بشكل دقيق، والربط بين برامج الدراسات العليا ومتطلبات التنمية واحتياجات سوق العمل بشكل مباشر وفعال، وتفعيل دور القطاع الخاص في المشاركة في تدريب الطلاب في مؤسساته، واحتساب مدة التدريب ضمن متطلبات البرنامج، ووضع آلية لمتابعة مخرجات برامج الدراسات العليا وإشراك مؤسسات القطاعين الخاص والعام في تقويم فعالية التأهيل الجامعي، ودعم البحوث العلمية ذات العلاقة باحتياجات القطاعين الخاص والعام، وتعديل أنظمة ولوائح الكليات ليتم مشاركة رجال الأعمال في مجالس الكليات بهدف توثيق العلاقة بين الكليات والقطاعين الخاص والعام. ويمكن كذلك إقامة بعض اللقاءات والندوات بين مؤسسات التعليم العالي والقطاعين الخاص والعام لمناقشة أوراق عمل ذات صلة بتطوير العلاقة مع القطاعين الخاص والعام، ويمكن كذلك إشراك مؤسسات القطاع العام والخاص في تحديد موضوعات رسائل الماجستير والدكتوراه، التي يمكن أن تسهم في تحليل قضايا اقتصادية أو اجتماعية أو صحية محددة.ولكي نرفع من مستوى برامج الدراسات العليا في جامعة عدن نقترح استحداث برامج ماجستير متداخلة التخصصات. فقد فرزت التطورات العلمية والمنهجية والاقتصادية الحاجة إلى تطوير برامج غير تقليدية يشترك في تقديمها أكثر من قسم وأحيانا أكثر من كلية. ففي كثير من جامعات العالم أصبح التداخل بين التخصصات المختلفة سمة ملازمة لعمليتي البحث العلمي والتأهيل. واليوم يعد تداخل التخصصات عاملا مهما للقيام بالأبحاث الحديثة في مجال التقنية الحيوية وثورة المعلومات والهندسة الوراثية والعلوم الصحية والإدارية. وفي مجال العلوم الإنسانية هناك العديد من القضايا وميادين البحث التي تتطلب تضافر جهود باحثين من تخصصات مختلفة لإنجازها. فمثلا قضايا التوعية الاجتماعية في الريف تحتاج إلى علماء اجتماع وأساتذة من قسم الصحافة والإعلام، ومن قسمي علم النفس والخدمة الاجتماعية. ويمكن أن تشترك هذه الأقسام لتضع تصورا لبرنامج ماجستير في دراسات المرأة أو النوع الاجتماعي. ومن جهة أخرى هناك اليوم وظائف تتطلب تأهيل ذي أبعاد متعددة. فوظيفة المرشد السياحي مثلا تفترض إتقانا لأكثر من لغة أجنبية ومعرفة بالآثار والتاريخ. وفي اعتقادنا أن مثل هذه الوظيفة لا يمكن أن يضطلع بها قسم واحد، بل تستدعي تعاون أقسام الآثار والتاريخ والصحافة والإعلام - شعبة العلاقات العامة وأقسام اللغات: العربية والأجنبية. ويمكن الإشارة هنا إلى أن مركز عبد الله فاضل فارع للدراسات الإنجليزية والترجمة في جامعة عدن يقوم بتنفيذ برنامج ماجستير في الترجمة من خلال مشاركة جميع الأساتذة المتخصصين من أقسام اللغة الإنجليزية واللغة العربية في كليات جامعة عدن وبعض الجامعات اليمنية الأخرى. ومن هذا المنطلق علينا وضع فلسفة وأهداف جديدة لبرامج الدراسات العليا في جامعتنا تنسجم مع المتغيرات المهنية والبحثية التي طرأت على المستوى المحلي والعالمي. ويصبح لزاماً علينا تطوير خططنا الدراسية والبحثية وطرق تقديمها وتقييمها لتتناسب مع تلك الأهداف بعيداً عن ضيق الأفق والركون دائما إلى البرامج التقليدية التي لم تعد تقدم أكثر من شهادات ورقية لا تلبي متطلبات المجتمع، وليس لها قيمة في سوق المعرفة والمهنة والبحث العلمي.ولا شك في أن تطوير الدراسات العليا في مختلف مجالات العلوم؛ التطبيقية والإنسانية، بحيث تصبح مصدرا لتخريج الأساتذة والباحثين والكادر الوظيفي المتميز، يتطلب-بالإضافة إلى خلق آليات فعالة لمراقبة الجودة الشاملة وتطوير الأداء إلزام جميع الأقسام العلمية بتشكيل فرق بحثية تسهم في نشر روح العمل الجماعي بين أعضاء هيئة التدريس، وتحفزهم على مد جسور للتواصل والتعاون مع باحثين من خارجها، وبشكل خاص من بعض المؤسسات المناظرة، وتمكـّن طلبة برامج الدراسات العليا من التمرن على العمل الجماعي. كما أن هذه الفرق يمكن أن تساعد على القيام بأبحاث شاملة تتناول قضايا متعددة الجوانب، وتشجع البحوث التي تعتمد على التفاعل بين التخصصات العلمية المختلفة.